من المحتمل أن يدخل اجتماع النقب الذي شارك فيه وزراء خارجية أربع دول عربية ووزيرا الخارجية الأمريكي والإسرائيلي، التاريخ بوصفه نقطة تحوّل كبيرة في إعادة تشكيل النظام الأمني في المنطقة المسماة بالشرق الأوسط. وقد طغت الجوانب الرمزية في الاجتماع على مضمون المباحثات بين الأطراف المشاركة، وهي: إقامة الاجتماع في منتجع سيدي بوكير قريباً من ضريح مؤسس دولة إسرائيل ديفيد بن غوريون، حضور ممثلي أربع دول عربية للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل، الصورة التذكارية التي ظهر فيها الوزراء الستة متشابكي الأيدي في دلالة على التحالف الوثيق بين الدول التي يمثلونها.
يعيد هذا الاجتماع إلى الأذهان مشهد هبوط طائرة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، في 19 تشرين الثاني 1977، في مطار بن غوريون، باعتباره اللحظة المؤسسة لعملية تطبيع عربية – إسرائيلية طويلة زمنياً، مرت بمسار معقد من الصعود والهبوط على وقع تطورات كبيرة شهدتها عموم المنطقة العربية وجوارها القريب.
كلنا يذكر ردود الفعل الصاخبة على خطوة السادات التي بدأت بطرد مصر من جامعة الدول العربية ومقاطعتها الشاملة، نقل مقر الجامعة إلى تونس، إقامة “جبهة الصمود والتصدي” بقيادة الأسد والقذافي في مواجهة مصر، تلك الجبهة التي شكلت نوعاً من لوبي ضغط وابتزاز على الأنظمة العربية “المعتدلة” لضمان اصطفافها في مواجهة الوضع الجديد. هذا من الجانب الرسمي العربي، أما الجانب “الشعبي” فقد تمثل في خروج مظاهرات صاخبة في بلدان عربية أعلنت أنور السادات خائناً، بصورة متوازية مع حملات وسائل إعلام أنظمة “الصمود والتصدي” ضد نظام السادات الذي واجه معارضة داخلية كبيرة من قوميين ويساريين وإسلاميين. وهكذا تم اغتيال الرئيس المصري، في 6 تشرين الأول العام 1981، في واقعة مشهدية على يد عسكري في الجيش المصري إسلامي الهوى.
وعلى رغم “صمود” معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، فقد اكتفت الأنظمة العربية بهذا الثمن، اغتيال السادات، فعادت مصر تدريجياً إلى محيطها العربي، وعادت رسمياً إلى جامعة الدول العربية في أواخر عقد الثمانينيات. مع بداية التسعينيات تحركت “عملية السلام” (مؤتمر مدريد للسلام العربي –الإسرائيلي 1991) مرة أخرى على وقع طرد الجيش العراقي من الكويت وتفكك الكتلة الشيوعية والاتحاد السوفياتي نفسه. فتم توقيع معاهدتي سلام جديدتين بين إسرائيل من جهة، وكل من منظمة التحرير الفلسطينية والأردن من جهة ثانية في 1993 و1994 على التوالي، لتشهد السنوات المتبقية من القرن العشرين محاولات أمريكية متكررة لإجراء مفاوضات سورية – إسرائيلية، كان آخرها في لقاء جنيف بين الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وحافظ الأسد، قبيل أشهر قليلة من وفاة الأخير في حزيران العام 2000. ستستمر محاولات إحياء هذه المفاوضات في عهد بشار الأسد وصولاً إلى مفاوضات إسطنبول “غير المباشرة” بوساطة تركية في العام 2008. ويكشف الكتاب الصادر حديثاً لفريدريك هوف عن استمرار المفاوضات السرية غير المباشرة بين الأسد ونتنياهو بوساطة أمريكية حتى بداية الثورة السورية في آذار 2011.
وتمكن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من إطلاق “اتفاقات ابراهام” التي تهدف إلى تعميم سلام عربي – إسرائيلي، شملت إلى الآن الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، مع تأكيدات أمريكية عن قرب انضمام دول عربية أخرى إلى عملية التطبيع مع إسرائيل.
في هذا الإطار جاء اجتماع النقب بمثابة تحويل اتفاقات ابراهام إلى واقع يتجاوز التطبيع إلى تحالف إسرائيلي – خليجي في مواجهة الخطر الإيراني. وهو ما لا تتفق معه مصر والمغرب ولا الأردن الذي دعي إلى الاجماع ولم يحضر. وهذا مما يشير إلى تباين اهتمامات الدول المشاركة في الاجتماع، بين أولوية الخطر الإيراني بالنسبة للبعض وأخطار داخلية بالدرجة الأولى بالنسبة لبعض آخر. ولدى الدول الإقليمية الخمس المشاركة في الاجتماع مشكلات متفاوتة مع السياسة الأمريكية، يتعلق بعضها بمضي واشنطن في مفاوضات النووي الإيراني، وبعضها الآخر بقضايا حقوق الإنسان، وكلا الملفين مما خلق تباعداً مع الإدارة الأمريكية في الاستقطاب العالمي بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا، فضلاً عن علاقات إيجابية تزداد متانة بين الدول الخمس من جهة وبين موسكو وبكين من جهة ثانية.
من المحتمل أن يتحول اجتماع النقب إلى منتدى دوري ينضم إليه مشاركون آخرون في المستقبل، وهو ما يعني نوعاً من إعادة صياغة النظام الشرق أوسطي بصورة مغايرة للعقود السابقة، أبرز معالمها انسحاب الولايات المتحدة ودخول روسيا والصين، وكذلك تحوّل إسرائيل إلى قوة هيمنة إقليمية.
نشر شيمون بيريز، في العام 1996، كتاباً بعنوان “الشرق الأوسط الجديد” وكان وقتها رئيساً للحكومة الإسرائيلية، عرض فيه تصوراً لـ”الشرق الأوسط” يحل فيه السلام بين العرب وإسرائيل، ويشهد نهوضاً اقتصادياً بالشراكة بين موارد النفط العربية والتكنولوجيا الإسرائيلية. كانت تلك الأفكار محمولة على زخم صعود العولمة الليبرالية من جهة، وإضافة معاهدتي سلام مع الفلسطينيين والأردن إلى معاهدة كامب ديفيد مع مصر من جهة أخرى.
تطورات السنوات اللاحقة لم تتوافق مع منظور بيريز المتفائل من وجهة النظر الإسرائيلية، وبخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى في العام 2000. ولكن لا بيريز ولا غيره من الساسة الإسرائيليين كان يحلم ببلوغ العرب هذا الدرك من التدهور الذي يدفعهم إلى الاحتماء بها وليس مجرد الشراكة معها.
رد الأنظمة الدموي على ثورات الربيع العربي أدى إلى درجة غير مسبوقة من فراغ القوة الذي تتنافس دول إقليمية على قيادته، إسرائيل وإيران وتركيا، إضافة إلى دول أبعد كروسيا والصين.
المصدر: القدس العربي