اهتز الشارع السوري الكردي أخيراً على وقع تظاهرات غير مسبوقة دعت إليها قوى سياسية، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية ورفع أسعار مواد وسلع رئيسية، منها الخبز والمحروقات، من قبل “الإدارة الذاتية”، التي يبدو أنها فوجئت باستجابة الشارع لهذه الدعوات التي تحمل في طياتها أبعاداً سياسية، مع تلاشي الآمال في نجاح الحوار الكردي – الكردي. واعتدى مناصرون لحزب “الاتحاد الديمقراطي”، وهو من أبرز أحزاب “الإدارة الذاتية” ذات الطابع الكردي في شمال شرقي سورية، أول من أمس الجمعة، على متظاهرين في مدينة القامشلي في محافظة الحسكة، وفي بلدات أخرى في المحافظة، خرجوا استجابة لدعوة من “المجلس الوطني الكردي” و”المنظمة الآثورية الديمقراطية” وأحزاب ومكونات أخرى، للتنديد بالسياسات المتبعة من قبل “الاتحاد الديمقراطي” في العديد من القضايا المرتبطة بالمشهد السوري الكردي. وقال مصدر محلي من مدينة القامشلي، لـ”العربي الجديد”، إن مناصرين لـ”الاتحاد الديمقراطي” خرجوا في تظاهرة أول من أمس، ورشقوا رافضي سياسة “الاتحاد” بالحجارة، واعتدوا على المتظاهرين والصحافيين بالعصي، ما أدى إلى سقوط العديد من الجرحى وتكسير العديد من السيارات. وأضاف المصدر أن قوات الأمن التابعة لـ”الإدارة الذاتية” (الأسايش) تدخّلت وأطلقت الرصاص فوق رؤوس المتظاهرين، وفرّقتهم، على الرغم من أن المتظاهرين الرافضين لسياسة “الاتحاد” لم يردّوا على الإساءات أو يتعرّضوا للممتلكات العامة.
من جهته، اعتبر طلال محمد، وهو رئيس حزب “السلام الديمقراطي الكردستاني” المنضوي في “الإدارة الذاتية”، أن “بعض الأطراف السياسية المحسوبة على النظام السوري وعلى الائتلاف السوري، أرادت الاصطياد في الماء العكر، مستغلة بعض الإجراءات الغامضة ومبررات غير مقبولة من إدارة المحروقات في الإدارة الذاتية”. وأشار محمد، في تصريح لـ”العربي الجديد”، إلى أن “التظاهر والاحتجاج حقّ مصان ضمن العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية، ولكن ما يجري هو استغلال عواطف ومشاعر الشعب لغايات سياسية من قبل بعض الأطراف”.
ويعاني الشمال الشرقي من سورية، أو ما بات يُعرف اصطلاحاً بـ”شرقي الفرات”، أزمات معيشية تُوصف بـ”الخانقة”، عمّقها رفع أسعار مواد رئيسية، أبرزها الخبز والمحروقات، على الرغم من أن هذه المنطقة كانت لفترة قريبة تعد “سلّة غذاء” سورية، فضلاً عن غناها بالنفط والغاز، إذ تضم أكبر حقول وآبار البترول في البلاد. وتقع هذه الحقول تحت سيطرة “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) التي يهيمن عليها “الاتحاد الديمقراطي” عن طريق ذراعه العسكرية “الوحدات الكردية”. ويُنظر إلى “الاتحاد” على أنه الفرع السوري لحزب “العمال الكردستاني” الذي يتولى مفاصل القرار في شمال شرقي سورية، وفق مصادر كردية مطلعة.
وتشير المعطيات إلى أن هناك أبعاداً سياسية لما جرى الجمعة في شمال شرقي سورية، إذ يأتي مع انسداد الآفاق أمام الحوار بين الكيانين الكرديين الأكبر في البلاد، وهما “المجلس الوطني الكردي” الذي يضم العديد من الأحزاب، و”الاتحاد الديمقراطي” وأحزاب أقل حجماً تدور في فلكه. وينضوي “المجلس الوطني الكردي” الذي تشكل أواخر عام 2011 في إقليم كردستان العراق، ضمن الائتلاف الوطني السوري الذي يمثل المعارضة السورية، وهو ما يكسبه مصداقية سياسية أعلى في الشارع السوري المعارض. وخاض الطرفان بدفع أميركي جولات حوار عدة ترقى إلى مستوى المفاوضات من أجل ترتيب البيت السوري الكردي، وتشكيل مرجعية سياسية واحدة للأكراد السوريين، إلا أنهما فشلا في التوصل إلى اتفاق بسبب رفض “الاتحاد الديمقراطي” مبدأ المشاركة في القرار في منطقة شرقي نهر الفرات مع طرف آخر. كما رفض هذا الحزب فكّ الارتباط مع “العمال الكردستاني”، المصنف لدى العديد من الدول ضمن خانة التنظيمات الإرهابية، إضافة إلى رفضه دخول “البشمركة السورية” من شمال العراق إلى الشمال الشرقي من سورية للمشاركة في القرارين الأمني والعسكري. ونشط “الاتحاد الديمقراطي” في الآونة الأخيرة من أجل فتح قنوات حوار وتفاوض مع النظام السوري عن طريق الجانب الروسي لحسم مصير الشمال الشرقي من سورية، وهو ما دفع فعاليات سياسية كردية للتنديد بمحاولات هذا الحزب التفرد بالقرار حيال قضية كردية رئيسية.
وقال عضو “الهيئة الرئاسية للمجلس الوطني الكردي” والمنسق العام في حركة “الإصلاح الكردي”، فيصل يوسف، لـ”العربي الجديد”، إن المجلس “ينطلق في بناء مواقفه وقراراته بوحي من مصالح الناس”. وأضاف: “حزب الاتحاد الديمقراطي يتجاهل أنه لا يمكنه الهيمنة بالقوة. لا بد له من أخذ مصالح الناس بعين الاعتبار ومشاركتهم في القرارات التي تؤثر على حياتهم، بشكل مباشر”. وأوضح أن “المجلس يدعو إلى إدارة تمثل جميع أطياف المنطقة بموازنات شفّافة، أولوياتها المحافظة على أمان واستقرار وكرامة الناس والمحافظة على كراماتهم”، معتبراً أن “احتجاجات الجمعة ترجمة لمواقف الشارع”. وتابع: “ما أثاره المجلس في المفاوضات مع الاتحاد الديمقراطي ليس مرتبطاً بالمجلس الذي يأخذ في الاعتبار متطلبات الشارع سياسياً وإدارياً، مع حماية ذاتية بعيداً عن التفرد والأحادية التي يمارسها حزب الاتحاد الديمقراطي”.
ورأى شلال كدو، سكرتير حزب “اليسار الديمقراطي الكردي”، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “الإدارة الذاتية” الحالية “لا تستطيع تأمين الخبز للناس، ومن ثم سيشهد الشارع في شرقي نهر الفرات احتجاجات مهما بلغ رد فعل الإدارة ومسلحيها عليهم”. وأضاف: “ما جرى في القامشلي يؤكد أن الإدارة بعيدة عن الديمقراطية، ولا تقبل المختلف معها. رأينا كيف تصرف مسلحو الإدارة مع المدنيين العزل. التصدي الوحشي للتظاهرات سيكون له تأثير سلبي على الحوار الكردي – الكردي، خصوصاً أن الاتحاد الديمقراطي غير مكترث بهذا الحوار”. وأعرب عن اعتقاده بأن الإدارة الأميركية “غير جادة في إتمام هذا الحوار، وهذا ما يفسّر تعطيله منذ تسعة أشهر”، مضيفاً أن “الإدارة الذاتية غير مهتمة بالناس، ومعظم مكونات المنطقة تحت خط الفقر”.
من جهته، رأى المحلل السياسي السوري الكردي فريد سعدون، في حديث مع “العربي الجديد”، “أننا بتنا على أعتاب مرحلة جديدة من الصراع بين الأطراف الكردية، فإذا لم تبدأ الإدارة بالإصلاحات وتغيير سياساتها التي تمسك من خلالها بالسلطة بشكل فردي، فإنها ستغرق في الفساد، وبالتالي ستفقد شعبيتها وتكون وجهاً لوجه أمام استياء الشعب”. وتابع قائلاً: “تلوح في الأفق إرهاصات تغيرات دولية، إذ بدأت الولايات المتحدة مناقشة مسألة الانسحاب من سورية، وتركيا تستغل الوضع للسيطرة على طريق الطريق الدولي أم 4 في منطقة عين عيسى في ريف الرقة الشمالي”.
وأشار سعدون إلى أن “الروس يستلمون زمام المبادرة، بالتزامن مع انفتاح دولي على النظام، وحديث أميركي عن تخفيف العقوبات أو حتى إلغائها”، معتبراً أن “كل ذلك سيؤثر على وضع منطقة شرق الفرات”. ورأى أن هذه التطورات في المشهد السوري “تعني بداية مرحلة جديدة ستفتح المجال أمام تحرك أطراف داخلية لتعزز دورها أو مكانها في المنطقة، ومنها المجلس الوطني الكردي المدعوم تركياً وقيادة إقليم كردستان”. كما رأى أن هذه التطورات “ستعزز دور قوى أخرى، منها قوات الصناديد (مليشيا محلية عربية)، وجبهة السلام والحرية (تكتل سياسي يضم جهات عدة من منطقة شرقي الفرات)، والعشائر العربية”. وأعرب عن اعتقاده بأنه “إذا بقيت الإدارة الذاتية على نهجها وسياستها، فإنها لن تستطيع لاحقاً السيطرة على مفاصل الأمور والتحكم بها”.
المصدر: العربي الجديد