آخر المسيحيين في إدلب

يحيى الأوس

انتهى الوجود السوري المسيحي في محافظة إدلب، وفشلت جميع محاولات إطالة عمره. لم تنفع اللغة الأكثر اعتدالا، وبعض الرسائل المتأخرة التي صدرت عن الفصائل المتشدّدة التي مارست مختلف أنواع التضييق عليهم طوال السنوات الأخيرة، في إقناع مسيحي بالعدول عن قرار الرحيل، فضلا عن إعادة مسيحي واحد إلى بيته وأرضه.

من بقي من المسيحيين في إدلب وجسر الشغور والقرى المسيحية الخمس لا يتجاوز عددهم مائتي شخص، إضافة إلى كنيسة واحدة تواصل إقامة الصلاة يوم الأحد، من دون أن يُسمع لها قرع أجراس. إنه إعلان واضح عن نهاية هذا الوجود الذي استمر مئات السنين. ومن بقوا ليسوا إلا آخر الشهود على الاحتضار والنهاية الحزينة، معظمهم من المسنّين الذين ينتظرون الموت أو مزيدا من الضغط من أبنائهم كي يلتحقوا بهم في منافيهم الجديدة، بينما محيطهم التعس الغارق بما يكفيه من هموم لم يفطن بعد إلى قيمة وجودهم في بيوتهم وأراضيهم، بل لم يعد يكترث لبقائهم أو رحيلهم.

مأساة جديدة تضاف إلى مآسي السوريين الكثيرة، فمن كان يعوّل عليهم يوما أن يلعبوا دورا في تلوين ثورة السوريين وتعزيز هوية عابرة للطوائف وقعوا ضحايا لها، وما أكثر ضحاياها. وتثبت شواهد التاريخ، للأسف، أن مثل هذه الهجرات عندما تحدث لا يمكن إيقافها، ولا يمكن إعادة الوضع إلى سابق عهده مطلقا، فمن يترك أرضه التي ولد وعاش فيها لا يفعل ذلك إلا بعد أن يستنفد كل سبل البقاء فيها.

قبل عقدين، هرع كبار رجال الدين المسيحي في سورية إلى سفارات الدول الاسكندنافية، طالبين منها التوقف عن منح المسيحيين، وخصوصا من هم في الشمال السوري، تأشيرات لمغادرة البلاد، لأن الوجود المسيحي في هذه المناطق بدأ يتقلص بشكل كبير ومقلق. أما اليوم فإن هؤلاء أنفسهم يذهبون إلى هذه السفارات يطلبون تسهيل مغادرة المسيحيين، لأن حمايتهم باتت غير ممكنة، ولأن من يدّعي حمايتهم في العلن كان يقتلهم في السر، ويلعب على تناقضاتهم، ويغذي كل نزعات الكراهية ضدهم، كي يقول للعالم إنه وحده من يحميهم!

ليس رحيل المسيحيين وحده ما يدمي القلب، فرحيل أي سوري عن دياره يدمي القلب كذلك. مشاهد عشرات القرى المدمرة خالية من سكانها المسلمين، وإجبار هؤلاء السكان على ترك بيوتهم وأراضيهم نوع من التهجير القسري أشد قسوة وألماً، لكن ما يجعله أقل مأساوية أن اقتلاعه من جذوره أمر مستحيل. يغادر المسلمون مرغمين، لكنهم يعودون دائماً إلى المكان الذي ولدوا فيه.

تذكّر نهاية الوجود المسيحي في إدلب، إلى حد بعيد، بنهاية الوجود اليهودي في الشام وحلب وسائر المدن السورية. إنه تماما مثل توقف الأنهار عن الجريان في سورية، تتناقص عاما بعد عام، ثم تتوقف مرة واحدة، ولا تعود إلى الجريان.

أنشأت إسرائيل، في العام 1950، ما سمّتها “إدارة أملاك الغائبين” في فلسطين المحتلة، لمصادرة أملاك العرب الذين قتلتهم وهجرتهم من فلسطين، ولكي تثبت زعمها ملكية هذه الأملاك واحتلالها الأرض. واليوم يصنع السوريون بأيديهم إداراتين لأملاك الغائبين، واحدة بيد النظام وأخرى بيد المليشيات التي نصّبت نفسها وصيا على أملاكٍ كان يفترض بها أن تحمي أصحابها، بدلا من الدفع بهم إلى الفرار. وبين الغائبين هنا والغائبين هناك خيط لا ينقطع من القهر والألم والخذلان.

في التسعينيات، أوصلنا السوريين اليهود إلى قاعات المطارات بأيدينا، وقلنا لهم لا تذهبوا إلى عدوّتنا إسرائيل وتنسوا أنكم سوريين. والحقيقة أننا كنا نحن من نسينا أنهم كانوا سوريين مثلنا تماما. وبعد أعوام، بدأنا نتباكى عليهم، ونكتب عنهم قصصا ومسلسلات حزينة، فاشحذوا أقلامكم من الآن، فعندما يرحل آخر المسيحيين عنا، سنكتُب عنهم بحرقة لا نهاية لها، فبعد المسيحيين لن تبقى للبلاد هويتها الحضارية الفريدة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى