الكاتبة سميحة خريس اردنيه ولها كتابات روائية كثيرة ومنذ عقود، متميزة ، قرأت لها رواية يحيى ونارة سابقا وكتبت عنهم. الرواية تتحدث عن السودان، عبر تقنية استحضار شخوص روايتها، يتكلم كل عن نفسه وعن عالمه الخاص والعام الذي يعيشه، بتسلسل شبه تاريخي من جيل لجيل، الكل متعايش، حيث نصل إلى نسيج مجتمعي نطل من خلاله على الواقع بكل تفاصيله وتفاعلاته وتكون اخيرا جزء من صورة كاملة.
تبدأ الرواية من شخصية (الرسالة) وهو اسم الشخصية الرئيسية في الرواية وبطلتها، وحقيقة الحياة التي عاشها أهلها وتجمعهم الصغير. هم في دارفور، قريب من مدينة نيالا في مرحلة الرئيس النميري وما قبله أيضا وتستمر احداث الرواية للعصر الحالي. تعيش الرسالة وأهلها على هامش الحياة والمجتمع المحيط، فقر مدقع لديهم بعض الحيوانات يقتاتون مما تجود به الأرض ومما يتبادلون به مع الاخرين، أسماها والدها الفقيه الرسالة، تمنى ان تكون وريثته في قيادة اهله وجماعته، الفقر والمجاعات والصراعات تحيط بهم من كل جانب، هي طفلة تتفتح على الحياة ويظهر عليها علامات نبوغ وحكمه، تقرر الجماعة أن ترحل باحثة عن مكان أكثر أمنا وفيه بعض الماء والغذاء لهم وحيواناتهم القليلة، ويتحركون متنقلين لمسافات كبيرة ليصلوا أخيرا إلى أرض اسموها (الخربقة) واستقروا فيها، تحوي الأرض تجويف يحبس ماء المطر ليعاد الاستفادة منه في بقية العام، وتحوي بعض الأشجار، قسمت الأرض بينهم ليتمكنوا من بناء خيمهم، وزرع بعض النباتات، وحددت اماكن لحيواناتهم، استقرت بهم الحال، يعيشون حياة مشتركة ينتجون ما ينتجون ويذهبون للمناطق المجاورة لبيعه ويحصلوا من ثمنه على سبل العيش. في أيام المجاعة يجمع خير الكل على ندرته ويوزع بتقشف على الكل يوم بيوم ليتمكنوا من العيش حتى يأتي المطر ويعودوا الى حياة الكفاف مع رضى عن النفس، يدير حياتهم الفقيه، وبعد موته استلمت القيادة ابنته الرسالة وسميت الحكّامة، وكانت رغم صغرها نموذجا للعقل والحكمة والعدل والقدرة على جعل الحياة الجماعية ممكنة وأفضل حالا. تتوالى السنين على الكل وتصبح “الحربقه” مكان عيش وتتوالد فيها الأجيال ويحضر إليها البشر، هذه “تركية” الحامل يأتي بها احد التجار العابرين، ويتركها لتكون ابنة متبناة للحكّامة، “تركية” التي لم تتكلم عن حكايتها تلد طفلة تسميها الحكّامة ست النفر، التي ستتزوج من أحد البقّاره (رعاة البقر المتجولين)، وتنجب ابنتها بابنوس، كذلك ستأتي حواء وهي حامل يتركها أحد العابرين، تتذكر انها من اسرة فقيرة تشردت في احدى المجاعات، وكيف وضعت و اخواتها وابوها وامها في أحد المخيمات، وكيف ترك اخواتها يمتن واحدة وراء الاخرى، وكيف هربت وامها من ابوها خوفا على حياتها بعد موت اخواتها، وكيف وصلت لاحدى كنائس إرساليات مسيحية أوروبية، حيث استقرت بها الحال، وكيف تركتها امها بحجة البحث عن الأب ، ذهبت ولم تعد، استقرت حواء في الكنيسة وكبرت فيها، كانت محظية المطران كان يعاشرها سرا، وعندما حملت تنكر لها و حاول إجهاضها ولم ينجح واصبح يضطهدها، وسرعان ما يتم مهاجمة الكنيسة و يعتقل المطران على خلفية نشاطات تنصيرية ومعادية للسودان، تتشرد حواء وتصل اخيرا الى الحكّامة، تعيش مستوحشة بينهم و تلد طفلها “آدمو الاسود”ولكن بعينين زرقاوين لتؤكد أصله الأوروبي. لكل حكايته في الخربقة ، هناك أيضا “باسالم” اليمني الذي ترك بلدته “يافع” في اليمن ليتعلم في عدن بعد أن تزوج من بلدته، لكن زوجته تمرض وسرعان ما تموت وهو يفشل دراسيا، ويحضر خاله من السودان، يأخذه معه إليها ويزرعه تاجرا صغيرا ويستقر في الخربقة، يتذكر اليمن المنفتح على العروبة ودور مصر عبد الناصر والعمل لتوحيد اليمن، يتعايش مع واقع الخربقة ويحب الحكّامة ولكنها تصده عن الزواج بها، فقد نذرت نفسها لدور اجتماعي بتبنيها لتركيه ونسلها ست النفر و بابنوس وكذلك حوا وابنها آدموا صنعت عائلتها الخاصة. باسالم يتزوج من “ثومه” باختيار الحكّامه ويبني حياته بينهم ومنهم وينجب الأولاد الذين سيكونون يمنيين يتابعون رحلة العمل التجاري، سيتوجه الأولاد للتعلم في “نيالا”، تصر الحكّامه على استمرار تعليمهم سيكون سر الختم و بابنوس و آدمو و”اكبر” ابن باسالم التلاميذ المتوجهين كل يوم للمدرسة حيث المعلمة “فاطمة”، فاطمة ابنة “النور” الأستاذ الذي ربى أجيالا، والذي زرع أفكار شيوعية عن العدالة والحياة الأفضل، التي تربى عليها سر الختم وكان مناضلا يلتقي برفاقه ويناقشون تغيير العالم ويحلموا بالافضل ويوزعوا المناشير، وعندما يعود للخربقه سيلتقي “تاجوج” التي جنّ بحبها وتبادله المشاعر ولكنها فضلت عليه آخر، فلم تقبل الزواج منه، مما جعله مجنون حب أضاع حياته في التفكير بها. كبرت بابنوس وبدأت تتكور وكبر آدموا وبدأ يحس بخصوصيته الذكورية، فصل بالفراش بينهم، هم اخوة واحباب ومرتبطين نفسيا، هو له لون عينيه الأزرق، وهي حاملة للون لب شجر الأبنوس الأسود، بدأ آدمو بالتجول مع “شديد” في الغابة وتعلم صيد الافاعي العملاقة التي تباع جلودها بالدولارات. شديد ابن الخربقه الذي يلتحق بجيش تحرير السودان ويحمل بندقية، سنتعرف على أجواء الصراع الاجتماعي المحكوم بالطبيعة والأصول الاجتماعية، فهناك أبناء القبائل العربية و العرق الزنجي، وهناك البقارة رعاة البقر والابالة رعاة الإبل والصراع مع المزارعين على الارض وما تنتجه في اجواء مجاعة تتكرر باستمرار. الحكومة طرف في الصراع وليست حاكمته، معها عساكر الجنجويد (جنّ على جواد)، تلاحق المسلحين من جيش تحرير السودان، سنتعرف على التدخلات الخارجية من دول قريبة وبعيدة، ونطلّ على واقع فقر ومجاعات وصراع اجتماعي، سنتعرّف على سودان كبير كسلة غذاء لافريقا او للعرب، سنعرف ان هذه الارض تحمل في داخلها النفط والغاز واليورانيوم والمعادن الثمينة، وان هناك تكالب دولي عليها، سنجد بصمات ل”إسرائيل” ولدول الغرب عموما، تسليح الأطراف كلها ودفعها للصراع. أهل الخربقة ببدائية حياتهم لم يدركوا أنهم وسط هذه الحالة وماذا ستجرّ عليهم، يترصدوا وجود طائرة هليكوبتر فوقهم، يخافوا يحسبوا حسابهم وينتظروا قدرهم ثم يقرروا الاستسلام لمن يحضر إليهم فهم لا يملكون السلاح وضعفاء ويفضلون أن يتقبلوا أي خسارة بحدها الادنى وليس أمامهم غير ذلك، لقد قرروا الاستسلام، في المحيط قوات الحكومة السودانية المركزية ومعها الجنجويد، وكذلك جيش تحرير السودان، والبقارة والابالة والمزارعين وصراعاتهم البينية المسلحة التي لا يوجد فيها حد ولا حرمة، كل شيء مستباح، والأسوأ أن الدولة تبدوا طرفا وليست الحاكم العادل المنصف للناس، ويحصل ما يخافون منه، تأتي قوات عسكرية بأسلحتها من قوات الحكومة والجنجويد، يجمعون الكل في ساحة الخربقة، يفتشون القرية ويأخذون كل ما ينفعهم من مال على ندرته، ومواشي ومتاع، ويتحرشون بالرجال، ويغتصبون بعض النساء، ثم يقتلون كل الرجال ويشحنون النساء والأطفال في عرباتهم ويتركون العواجيز الى مصيرهم ومنهم الحكامة. لقد أفنيت القرية ومن فيها في لحظة جنون خارج المعقول، يتواصل قائد الحملة مع مسؤوليه عبر هاتف الثريا، لقد قضينا على الارهابيين، تتحرك الشاحنة وفيها نساء القرية وأطفالها، فيها بابنوس وتم اخفاء ادمو بين النساء وتم انقاذه من الموت المحقق، وفي طريقهم الى مخيمات الإيواء تعترضهم منظمة أطباء بلا حدود، وبعد جهد وفحص للناس ياخذون تاجوج لمعالجتها من آثار الاغتصاب المتكرر، وكذلك بابنوس وآدمو بعد ترجي أمهاتهم لهم، لا نعرف ما مصير نساء وأطفال القرية، ونتابع مصير بابنوس وآدمو الذين يصلون إلى المشفى ويهتم بهم ويعالجون. بعد أيام يحولون مع أوروبيين آخرين من جمعيات انسانية (قوس الحياة) على انهم سيرحلون الى ذويهم لكن ما يحصل انهم يصلوا لمشفى آخر أكبر ومجهز لتهريبهم الى أوروبا، بعد أن يوضع لكل منهم جبس بيده او قدمه على انه رحّل يعالج هناك. يرحلوا لاوربا حيث تستقبلهم عائلات أوروبية دفعت مئات آلاف اليوروات ثمنا لاطفال دارفور على أنه تبني، يوزع الأطفال ويبقى آدمو وبابنوس عند المهربين، يبيعونهم لتجار الدعارة النسائية واللواط، بابنوس وآدمو لا يدركون ما حل بهم، بابنوس ستلتقي عند مالكتها مديرة اعمال دعارة نسائية من البوسنة مشتراة للدعارة ايضا، يتواصلا إنسانيا وتجعلها تفهم ما هي مقدمة عليه، ترفض أن تكون سلعة جنس ولكن أين المفر، ومعلمتها تجهز لمكان دعارة جديد ومتميز نماذجه البوسنية البيضاء التي سميت عاج وبابنوس السوداء، يفتتح المركز على شرفهم وهم بضاعتهم الجنسية المتميزة. أما آدمو فيهرب ممن اشتراه ويرى في شوارع باريس يعتاش مع غيره في لعبة ترقيص الأفاعي.
.تنتهي الرواية عند افتتاح محل عاج وآبنوس للدعاره في باريس .
الرواية مليئة مهما لخصت لا تعطى حقها، هي اقرب للدراسة الاجتماعية الإنسانية عبر عقود للسودان المعاصر، وهي تغوص في الإنساني الشخصي والعام، وهي تطل على الفاعل المحلي والدولي الذي يستبيح السودان أرضا وشعبا. السودان يقسّم وأقسامه ممتلئة بالمشاكل وقابلة للتقسيم أكثر، ارض خيّره وشعب يموت جوعا وفقرا وبالحروب، الحكم والمجموعات المسلحة مستثمر صغير، والمستثمر الأكبر الدول العظمى وخاصة اوربا وامريكا و”اسرائيل”، كل ذلك نتابعه بعمل روائي يصل باطفال السودان الى اوربا ليكونوا رقيقا يستخدم للمتعة الجنسيه او لتلبية بنوّة، بعد اعدام انسانيتهم ومجتمعاتهم وذاتهم التاريخية والمجتمعية . رواية تتحدث عنّا ومايفعلونه بنا كعرب و مسلمين. .رواية رائعة بكل المقاييس.
467 5 دقائق