خسارة باريس من فسخ كانبيرا “صفقة الغواصات” معها تتعدّى الثمانية مليارات أورو التي كانت “مجموعة نافال” الفرنسية ستجنيها من مجمل قيمة العقد الذي أخذت منه شركات أميركية الجزء الخاص بالتسليح، وهو الأكثر كلفة ومردوداً وربحية.
خسارة باريس ليست مالية فحسب، بل هي أيضاً، وقبل أيّ شيء آخر، سياسية واستراتيجية وتالياً معنوية، ذلك أنّ فسخ العقد أظهرها قوّة ثانوية في العالم، ويمكن لواشنطن، متى وجدت مصلحة لها، تجاهل مصالحها ونقلها من الصفّ الأوّل الى الصف الثاني.
إنّ أستراليا، بقرار من الولايات المتحدة الأميركية، أخرجت فرنسا ممّا سمّي بـ”صفقة العصر”، لتدخل مكانها بريطانيا التي كانت تفتّش عن دورها دولياً، بعد خروجها من “الاتحاد الأوروبي”.
وهذه الخطوة الأميركية، كشفت أنّ إدارة الرئيس جو بايدن مثلها مثل إدارة سلفه دونالد ترامب، لا تثق بشراكة استراتيجية مع باريس، حيث تتربّع أولوياتها الإستراتيجية التي انتقلت، منذ ولاية الرئيس السابق باراك أوباما، الى منطقة المحيطين الهادئ والهندي.
ولم يتردد وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لورديان، مساء أمس، في مقابلة له مع القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي، من تصوير جو بايدن بأنّه أسوأ من دونالد ترامب، وقال: “مثله مثل ترامب، مع فارق عدم وجود تويتر، ولكن مع تقصّد إعلان الاتفاق الذي فيه تواطؤ واحتقار وكذب، بطريقة احتفائية لا يمكن تحمّلها”.
وعلى الرغم من أنّ مجموعات كثيرة في العالمين العربي والإسلامي، بينها لبنان، تعرف أنّ “الضربة” التي تلقتها باريس، لا صلة مباشرة لها بملفات الشرق الأوسط وأفريقيا، إلّا أنّها استغلّتها لتظهر شماتتها بإدارة الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يعتقد كثيرون أنّه يتطلّع الى دور لبلاده في المنطقة، بالاتفاق مع إيران، كما حصل، في الأسابيع القليلة الماضية، في كلّ من لبنان والعراق.
وتُخفي هذه الشماتة أملاً في أن تُخرِج واشنطن باريس في وقت لاحق من الشرق الأوسط، ما يُسقط “التفاهمات” التي أجرتها مع إيران، من دون أن يحتاط هؤلاء لإمكان أن ترضي واشنطن، في وقت لاحق باريس، بترك المجال لها لترسيخ “بعض النفوذ” في الشرق الأوسط الذي خسر مرتبة الأولوية في اهتمامات “زعيمة العالم”.
إنّ باريس، ولو نقلتها واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إلى مقاعد الصف الثاني، إلّا أنّها تبقى، بالمحصلة، دولة حليفة وتملك كلمة وازنة في “الاتحاد الأوروبي”، ولا يمكن لأيّ معادلة سياسية أن تطمس إشعاعها الثقافي والحضاري والإنساني، والأدوار الرائدة التي تلعبها في محاربة التنظيمات الإرهابية.
وهذه ليست المرّة الأولى التي تتضارب فيها مصالح فرنسا مع توجّهات الولايات المتحدة الأميركية.
تاريخياً، لو تُرك الأمر لمشيئة واشنطن، لما كان شارل ديغول قد حمل لقب بطل تحرير فرنسا في الحرب العالمية الثانية، إذ إنّ الإدارة الأميركية لم تكن ترتاح إليه، وطالما سعت الى تهميشه وحذفه من المعادلة.
وهذه مسألة تفيض بها كتب التاريخ عموماً ومذكرات ونستون تشرشل وشارل ديغول، خصوصاً.
ولولا العناد الفرنسي في مواجهة الرؤية الأميركية، لما كانت باريس قد نالت مقعداً دائماً في مجلس الأمن الدولي.
ولولا حرص ديغول على حفظ موقع متقدّم لبلاده بين القوى العالمية، لما كانت فرنسا قد أصبحت قوة نووية، ولما كان أخرجها، عام 1966، من حلف شمال الأطلسي، قبل أن تعود إليه، رسمياً، عام 2004، تتويجاً لإعادة العلاقات الأميركية الفرنسية الى طبيعتها، بعد تدهور كبير نجم عن معارضة باريس لاجتياح العراق.
وإخراج باريس من المعادلة الإستراتيجية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ يرجّح أنّه اتّخذ في حزيران (يونيو) الماضي، عندما أبدى الرئيس ماكرون، على هامش قمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل، اعتراضه على محاولة الولايات المتحدة الأميركية إلزام “الناتو” برؤيتها الخاصة للمواجهة مع الصين.
يومها قال ماكرون: “الصين ليست جزءاً من الجغرافيا الأطلسية، إلّا إذا كان هناك مشكلة في خريطتي”.
وفي ترجمة لهذا الكلام، كشفت دوائر قصر الإليزيه أنّ استراتيجية فرنسا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ هي أقل حدّة في مواجهة الصين من تلك التي تعتمدها الولايات المتحدة الأميركية، وعلى “الاتحاد الأوروبي” أن يسلك “خطاً ثالثاً” يضعه في موقع متميّز عن واشنطن وبكين.
وكان الموقف الفرنسي هذا قد جرى إبلاغه، في وقت سابق، الى المسؤولين الأميركيين الذين مهّدوا للقمة، وحاول الرئيس الأميركي جو بايدن توجيه رسالة “احتواء” الى باريس، من لندن، على هامش قمة مجموعة الدول السبع الكبرى، عندما عقد خلوة ثلاثية ضمّته الى رئيسي الوزراء البريطاني والأسترالي، مبعداً الرئيس الفرنسي عنها، على الرغم من أنّه كان على بعد عشرات الأمتار من مقر “الخلوة” التي أسّست، لاحقاً، لإخراج باريس من الصفقة مع كانبيرا وإدخال لندن مكانها.
ومنذ وصوله الى رئاسة فرنسا، وفي ضوء أولى التجارب مع توجّهات إدارة دونالد ترامب، تحوّل ماكرون، مستهدياً بتجربة شارل ديغول، إلى داعية تحرير “الاتحاد الأوروبي” من التفوّق الأميركي، بحيث وضع مشروعاً يثابر على طرحه، يقضي بخلق “جيش أوروبي” يهدف الى حماية مصالح “الاتحاد” ليس من الصين وروسيا فحسب، بل من الولايات المتحدة الأميركية، أيضاً.
ولكنّ هذا الطرح قوبل ببرودة بعض الدول وبمعارضة البعض الآخر، وثمّة من يأمل، حالياً، أن تكون السلوكيات الأميركية الأخيرة، ومن بينها “الانسحاب غير المنسّق” من أفغانستان و”الفسخ المتوحّش” للعقد الفرنسي مع أستراليا لمصلحة بريطانيا التي طلّقت “الاتحاد الأوروبي”، دافعاً لأخذ مشروع ماكرون بجدية أكبر من ذي قبل.
وفي انتظار معرفة طريقة تعاطي دول الاتحاد الأوروبي مع السلوكيات الأميركية، فإن فسخ “صفقة العصر” ستترك ندوبها على وجه ماكرون الذي لديه انتخابات رئاسية، بعد سبعة أشهر.
ستكون “لهذه “الصفعة” الأميركية، وفق ما بدأ يظهر في فرنسا، تداعيات كبيرة على القوى الناخبة، بحيث سيتم تحميل الرئيس الفرنسي مسؤولية ما آلت إليه الأمور، في وقت بدأ الرأي العام الفرنسي يتحسّس لما يسمّيه نجم فرنسا الصاعد إريك زيمور “التقهقر الفرنسي”.
من الواضح أن فرنسا تدفع، راهناً، ثمن إصرارها على استقلالية نسبية عن الولايات المتحدة الأميركية. استقلالية تجعلها تذهب قدماً في فتح قنوات تواصل، معلنة وخفية في آن، مع الصين وروسيا وإيران.
ولكن، ليس من الواضح بعد، كيف سيتفاعل الرأي العام الفرنسي مع رئيسه، في ضوء إخراج فرنسا من شراكة أدخلها فيه سلفه فرانسوا هولاند الذي كان قد اتّهم ماكرون بأنّه “طعنه في الظهر”. العبارة نفسها استعملها وزير خارجية فرنسا جان إيف لورديان في وصفه لسلوك أستراليا مع بلاده.
المصدر: النهار العربي