يشهد مجال العمل الإنساني في لبنان تطورا مهما نظرا للأزمة العميقة التي يعيشها البلد. لكنه يجد نفسه في نفس الوقت في مفارقة، فهو من جهة يقدم على المدى القصير مساندة حيوية لبلد منهك. لكنه من جهة أخرى يساهم في ترسيخ علاقات الهيمنة الموجودة في مجتمع بات غير متكافئ أكثر من أي وقت مضى.
غداة انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020، دارت صور سكان المدينة وأحوازها الذين هبوا لنجدة الضحايا وترميم الأحياء المنكوبة حول العالم. ما جعل هذه المشاهد مؤثرة إلى هذه الحد هو كونها ترجمت عن بعد لم يتم التطرق إليه إلى حد الآن في مجال العمل الإنساني، ألا وهو صورة الضحية الفاعلة، والتي تأتي لنجدة الآخرين رغم كون الكارثة طالتها هي كذلك. على النقيض من هذا المشهد، نجد صورة أخرى معبرة لمجال المساعدات الإنسانية، وهي مشهد السيارات المصفحة للعاملين بمنظمة الأمم المتحدة، والتي تعكس حالة بذخ في شوارع بيروت وخاصة في حي الجناح الشعبي، حيث تقع مكاتب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، على مرمى حجر من مخيمات لاجئين.
في يناير/كانون الثاني 2020، عندما كانت الأزمة الاقتصادية لا تزال في بداياتها، كشف لي رجل دين سني من بعلبك عن قناعته بأنه لن يبقى في لبنان سوى “لاجئون ولبنانيون غير قادرين على الهجرة بسبب فقرهم المدقع، والعاملون في المجال الإنساني”. بعد عام ونصف شهد البلد خلاله أزمة تسببت في انحدار كبير في قيمة الليرة وفي تضخم متواصل، والجائحة، وانفجار المرفأ، ورحيل جزء مهم من اللبنانيين لا سيما الطاقم الطبي وشبه الطبي، باتت هذه الجملة بمثابة النبوءة.
تصف المنسقة المقيمة ومنسقة الشؤون الإنسانية في لبنان نجاة رشدي هذه الأزمة بالـ“إنسانية” -بعد أن كانت توصف بالـ“أزمة الاقتصادية”-، والتي جعلت نسبة اللبنانيين الذين يعيشون تحت الفقر ترتفع من 30% في 2019 إلى النصف في أغسطس/آب 2020 وفق تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا)1. أما اليوم، فترتفع هذه النسبة إلى 55%. في هذا السياق، أصبح ظهور قطاع المساعدات في لبنان في ازدياد، إن كان للقيام بالدور الذي فشلت فيه الدولة أو لقدرته على إثارة الجدل.
مساعدات تصب في مصالح المسؤولين عن الأزمة
منذ 2012، ومع وصول اللاجئين السوريين، أصبح لبنان محجّا للوكالات الأممية والمنظمات الدولية، مع وضع آليات تنسيق للتعاون مع المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية. كان المستهدفون الأوائل من هذه البرامج آنذاك هم اللاجئون، في سياق التعهد إلى جهات خارجية بسياسات الهجرة الأوروبية. وبتواصل الحرب في سوريا، بدأت البرامج الإنسانية تشمل اللبنانيين الأكثر تهميشا. بعض السفارات الغربية لم تكن تستحسن هذا التطور، بتعلة أن الأمر يتعلّق بالـ“سيادة الاقتصادية”، كما ذكر لي دبلوماسي أوروبي فضّل ألا يُذكر اسمه.
لكن مع تفاقم الأزمة، باتت مساندة اللبنانيين تبدو ضرورية بالنسبة للمولين الرئيسيين، من أجل استقرار بلد الأرز. لم تعد الأزمة الإنسانية تقتصر على اللاجئين، بل أصبحت تطال كل السكان وتضع المتبرعين أمام سابقة: أزمة إنسانية لم تتسبب فيها حرب أو كارثة طبيعية، بل انحطاط الطبقة السياسية الحاكمة والفاسدة. من هنا يأتي هذا التناقض: فجهاز المساعدة الدولية يأتي لتعويم أولئك المسؤولين عن هذه الكارثة. هناك فرق شاسع بين خطاب المعارضة اللبنانية التي تكرّر ليلا نهارا أن على هذه الطبقة أن تترك السلطة، وبين القنصليات الغربية التي لا تزال تثق بها لتأليف حكومة، بعد قرابة السنة من انفجار المرفأ وتسعة أشهر من تسمية سعد الحريري (نفس الحريري الذي أجبر على الاستقالة بعد هبّة خريف 2019).
في هذا السياق، تأتي جميع المؤتمرات للبلدان المانحة للبنان، مثل مؤتمر باريس 1 و2 و3، والمؤتمر الاقتصادي لتنمية لبنان من خلال الإصلاحات ومع الشركات، ناهيك عن مؤتمرات لندن وبروكسل للإجابة السورية، جميعها بوعودها غير المنتهية تبدو مجرد عناوين حزينة لجهاز مساعدة منهك.
انجرافات مؤسسية للمنظمات غير الحكومية
علت عديد الأصوات من المجتمع المدني ومن العالم الفكري للتنديد بانجرافات مؤسسية المنظمات غير الحكومية، في سياق استقالة تامة للسلطات العمومية. في منبر نشرته جريدة “لوريان لوجور” في 14 ديسمبر/كانون الأول 20202، تؤكد المختصة في علم الاجتماع منى فوّاز والمخططة الحضرية منى حرب -وكلاهما أستاذة في الجامعة الأمريكية ببيروت- أن لبنان “لا يمكن أن يصبح جمهورية المنظمات غير الحكومية”. فتفويض ملف إعادة البناء تماما إلى المنظمات غير الحكومية يمثل خطأ -كما في العراق واليمن وهايتي- حيث “حال ذلك دون أي إمكانية حقيقية لظهور تجمعات سياسية قادرة على تولي شؤونها”. بالعكس، تنادي الأستاذتان إلى “تجميع كل القوى التي تهدف إلى إنقاذ أي جزء -مهما كان صغره- من المجال العمومي (…) للشروع في إعادة بناء الدولة من الأسفل -ببطء، ولكن بثبات”.
هذه الاستنتاجات لا تقتصر على إعادة البناءـ فالفاعلون من المجال العمومي هم في آخر المطاف المسؤول عن المصلحة المشتركة. ومن هنا تأتي أهمية المنظمات اللبنانية التي تعمل من أجل تحقيق إصلاح سياسي.
فاقمت الأزمة كذلك من استنساخ علاقات الهيمنة ضمن جهاز المساعدات، مع ديناميكية إخضاع الفاعلين المحليين للمنظمات الدولية. ففي 2020، تم إرسال 1.1 مليار دولار من المساعدات إلى لبنان، لتغذية جهاز وُضع تحت رقابة الأمم المتحدة بعد أن تم تحييد الحكومة اللبنانية بسبب ممارسات الفساد التي شوّهت سمعتها. وكان المستفيد الأول من هذه العملية هي الوكالات الأممية مثل مفوضية شؤون اللاجئين، واليونيسف، وبرنامج الغذاء العالمي. هذه المنظمات الثلاثة حظيت لوحدها بـ70% من هذه الأموال المتدفقة3
بقية المساعدات ذهب بالأساس إلى منظمات دولية أخرى، مثل بنك التنمية الألماني، واللجنة الدولية للصليب الأحمر والمجلس النرويجي للاجئين. في آخر المطاف، لا يتحصل الفاعلون المحليون سوى على 4% من المساعدة الدولية4. وهذه مفارقة في بلد يعد أعلى عدد للمنظمات غير الحكومية للساكن الواحد في العالم.
عقدة التفوق الأممية
مع ذلك، يبقى الفاعلون المحليون أول من يستجيب لنداء الميدان. وقد أثبتت دراسة لـ“دعم لبنان” (Lebanon Support)5 أنه خلال الحجر الصحي ليناير/كانون الثاني-مارس/آذار 2021، 45% من مبادرات دعم الأهالي الأكثر هشاشة جاءت من المجتمع المدني الوطني، و33% من منظمات محلية، و7% من مبادرات فردية. 10% فقط من هذه المبادرات كانت لمنظمات دولية.
ميدانيا، تندد المنشآت الصغيرة بـ“عقدة تفوق” الأمم المتحدة التي تحتكر نشاطات يمكن لهذه المنشآت أحيانا أن تقودها أحسن. يلخّص عضو من فريق “ألف”، وهي جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان، قائلا: “مشكلة نظمة الأمم المتحدة أنها تعتقد نفسها أساسية دائما، حتى عندما لا يكون الأمر كذلك”. وهو ما يحدث بالنسبة لنشاطات الحماية، إذ ترفض الأمم المتحدة إحالة الملفات القانونية حول الحماية للجمعيات المحلية، حتى عندما تمنع الحكومة المنظمة من العمل. لكن هذه الجمعيات مؤهلة أكثر لهذا العمل لأنها عارفة أكثر بالميدان، وأكثر قدرة على المناورة أو التفاوض مع السلطات المحلية للوصول إلى هدفها.
يعكس هذا الموقف تسلسلا هرميا للمعرفة، أسسه استعمارية جديدة، حيث تُعتبر مؤشرات ذات مصطلحات منمقة أرفع من المعرفة الحقيقية للميدان. فمن جهة، يعيد هذا التسلسل إنتاج ممارسات استعمارية تتسم بقلة المعرفة وإخماد أفكار غنية بتعددها وبمعرفتها المحددة. ومن جهة أخرى، يعتبر هذا الموقف المساعدة كمجرد أداة تقنية بحتة، وهي بذلك تنشر رؤية خالية من كل بعد سياسي، وتمنع الفاعلين المحليين من العمل على تغييرات بنيوية حقيقية. كل هذا لا يشجع لا على المخاطرة لا على التغيير السياسي والاجتماعي. يقول ممثل المؤسسة الفكرية “ترييانغل” (مثلث): “العمل مع المتظمات الدولية ضروري، لكنه لا يسمح بنشاط عميق، أو بالتجديد، أو بمساءلة المنظومة”.
يترعرع هذا الفكر في كامل جهاز العمل الإنساني العالمي. فالوعي على الصعيد العالمي بحجم المظالم العنصرية نتيجة حملة # BlackLivesMatter طال كذلك هذا المجال المتهم بنقل وعي غربي يحظى بميزات. فالمساعدات تعيد إنتاج نمط استعماري يسمح للمؤسسات الغربية أن تفرض “حلولها” على بلدان أخرى، وذلك من خلال طاقم “بلا حدود” يتشارك عناصره في النمط الاجتماعي، والرموز الثقافية، ويطغى على حديثهم استعمال الإنكليزية، ومروا جميعهم بنفس الجامعات البريطانية أو الأمريكية ذات الصيت الدولي. ويتسبب الانعدام التام لتحميل المسؤولية وغياب الشفافية لدى الوكالات الأممية في انغلاق هذه المنظومة على نفسها. يلخّص عضو من الاتحاد الأوروبي فضّل عدم الكشف عن هويته قائلا: “ليس للمنظمات غير الحكومية خيار آخر سوى تشريع مصالح المتبرعين الأجانب”.
“الطبقات التكتونية”
صحيح أن قطاع المساعدة ساهم في خلق مواطن شغل بالنسبة لعدد من اللبنانيين. لكنه في نفس الوقت يساهم في ما يسمى بـ“الطبقات التكتونية”6 ، حيث ينتقل أحدهم من الفقر إلى الطبقة الوسطى إلى العليا بفضل عامل واحد، وهو الأجر بـ“الأموال الجديدة”. ففي السياق الحالي، تمثل وظيفة يتلقى صاحبها أجره بالدولار أثمن ما يمكن للمرؤ أن يتمناه، بينما تواصل الليرة انحدارها نحو الجحيم. كون هذه المناصب موجودة في مجال المساعدة الإنسانية، وكونها عادة حكرا على الأجانب أو على طبقة معينة من اللبنانيين الذين يتحدثون أكثر من لغة وباشروا دراستهم في الخارج، لا يساهم سوى في إثارة التوتر والإحباط، في الوقت الذي تشهد فيه المساعدات الموزعة بالليرة على المستفيدين تلاشي قيمتها.
نرى هذا الاستقطاب الاجتماعي بصفة واضحة في بعض أحياء بيروت، مثل الجميزة ومار ميخائيل وبدارو، حيث تظهر أشكال جديدة واضحة جدا من الفقر، وفي نفس الوقت، تجد نسيما من الاحتفالات والاحتفال يهب على الحانات والمقاهي والمطاعم الذين فتحوا مجددا بعد نهاية الحجر الصحي. لا شك أن الأجور التي تنصب لهم بالدولار تلعب دورا في عودة الاستهلاك وخلق فقاعات ثروة في الأحياء البيروتية الغنية.
هذا الفرق الهائل في الموارد المالية والوضع الاقتصادي بين هذه الأقلية وعدد كبير من اللبنانيين ينجر عنه نوع من الضغينة. ورغم بعض التطورات، لا تزال المنظمات تحتفظ بفارق غير مبرّر بين أجر المغترب وأجر الموظف المحلي الذي لا يمكن أن يتعدى سقفا معينا، والحال أن وجود لبنانيين ذوي درجة عالية من الكفاءة يصعّب تبرير إرسال فرق دولية. “دولرة” مجال المساعدة يعزّز كذلك التسلسل الهرمي الموجود بين مختلف المنظمات. فتمتع منظمة ما بتمويلات دولية يجعلها أكثر قدرة على دفع أجور العاملين بها بالدولار. لكن المنظمات غير الحكومية التي تتمتع بتمويل متبرعين دوليين لها معاييرها. وهي في أغلب الأحيان منظمات يغلب عليها النمط الأوروبي، ذات حجم كبير، وذات أسس معقدة (كما أنها تتمتع بحساب بنكي، وبممارسات خاصة بها لجمع التبرعات، وبمراجعات خارجية). هذه المعايير لا تنطبق على 99% من المنظمات اللبنانية وخاصة على المنظمات القاعدية، ناهيك عن المنظمات الناشطة التي تطمح لرسم بديل سياسي.
حتى آخر دولار
لكن أمرا آخر أكثر تهديدا للمستقبل، وهو كون المساعدة إحدى المصادر النادرة المتبقية اليوم للعملة الأجنبية في البلد، ما يعني أن الطبقة السياسية قد تبسط يدها عليها. وفق دراسة حديثة لتومسن رويترز، فقد تمت خسارة 250 مليون دولار من المساعدات الأممية بالقرب من البنوك (التابعة لمجموعات سياسية معينة) التي تطبق نسبا غير ملائمة. هذا المبلغ يمثل أكثر من نصف ميزانية برنامج كان موجها للاجئين الفلسطينيين.
كذلك، أكثر من نصف مبلغ 23 ميلون دولار التابع لبرنامج المساعدة الشهرية -والذي ينتفع منه 105 ألف لبناني- اختفى في بطن البنوك اللبنانية. وقد انصدم الأهالي المعنيون بالبرنامج، خاصة وأن الوكالات الأممية نجحت في تأمين حسابات بالدولار عند نفس هذه البنوك لدفع أجور فرقهم الخاصة. وتعلم مصادر عديدة في هذا التقرير أن البنوك احتكرت بين ثلث ونصف المال الذي أرسلته منظمة الأمم المتحدة إلى لبنان منذ بداية الأزمة الاقتصادية.
دق تقرير لسينابس في يونيو/حزيران الماضي ناقوس الإنذار، مشيرا إلى أنه إن لم يقرر المتبرعون معا ماهي الخطوط الحمراء الواضحة وغير القابلة للإزالة بالنسبة للتنازلات التي يرفضونها للنظام اللبناني، فستصبح أموال المساعدات الإنسانية مستهدفة من قبل النخبة التي تسعى لانتشال حتى آخر دولار. من أجل ذلك، قد تقوم هذه النخبة بسنّ تدابير مراقبة وتحّكم لمجال المساعدة، مثل إجبار المنظمات على التسجيل بالقرب من الحكومة، أو التحويل عبر مؤسسات مالية معينة، وتمرير عمليات الصرف على مصرف لبنان (والذي يتمتع بأسعار أبخس من أسعار السوق السوداء).
الزبائنية التي رأينها مثلا في حملات توزيع مستلزمات النظافة والطعام من قبل أحزاب أو منظمات سياسية خلال الجائحة، قد تطال جميع طبقات العمل الإنساني، من الوقود والمستحضرات الصيدلانية إلى الخدمات اللوجستية وقطاعي البناء والأمن. عندها، ستجد المنظمات الدولية نفسها في مأزق أمام تكتيكات التخويف من قبل القادة السياسيين، ومجبرة على تشغيل أشخاص ذوي انتماءات حزبية، وإلا فسيتم طردها.
يجب إعادة تعريف مستقبل المساعدات، حتى تواصل طريقها بين التنازلات الضرورية وحماية نطاقها الأخلاقي. ولن تساهم الأزمة إلا في استفحال هذه الظواهر. لكن على عكس المعارضة الداخلية في لبنان التي يخنقها الآن الوضع الاقتصادي، لا يزال لدى الجهات الفاعلة الدولية مجال للمناورة في مواجهة السلطة. يبقى السؤال هو إذا ما إذا كانوا سيستخدمونها.
كلوتيلد فوكون طالبة دكتوراه في علم الاجتماع، تابعة للمعهد الفرنسي للشرق الأوسط ببيروت. يدور موضوع أطروحتها حول التفاعلات بين الفاعلين الدوليين
المصدر: موقع أوريان21