قراءة في رواية: رصاصة أخيرة

أحمد العربي

حسن الخطيب روائي سوري، هذا أول عمل أقرأه له. (رصاصة أخيرة) رواية أخرى تتحدث عن الواقع السوري، قبل الثورة وبعدها. تعتمد أسلوب سرد الروائي المتابع للحدث عبر شخصياته المركزية في الرواية، في واقعها وتطور الأحداث حولها وانعكاسها عليها. في تسلسل زمني متتابع. تحوي الرواية الكثير من التورية بحيث لا تسمي الأشياء بمسمياتها. لكن الحقائق حاضرة بقوة. تحاول أن تهرب من المباشرة السياسية. لكنها مغمورة في وحل السياسة ودمها في الحدث السوري. قسمها الروائي الى قسمين رئيسيين هما الحلم والكابوس، وكل قسم الى فصول متعددة.

تبدأ الرواية من التاجر الدمشقي المسيحي ابو وليد الذي يملك متجرا في السوق القديم بجوار الجامع الأثري -الجامع الأموي- في دمشق القديمة. لديه ابنان الأول اسمه وليد والآخر اسمه عمر، وهما اسمان اسلاميان، لم يبرر الأب ذلك، لكن ذلك نستنتجه نحن بأنه تعبير عن تعايش وقبول مجتمعي متبادل بين مكونات الشعب السوري.

مرّ السوق في حالة توتر، فقد قام بعض الشباب بالتظاهر في السوق، وتدخل الأمن وانهى المظاهرة بالعنف، وليد الأخ الأكبر يفكر أن ذلك ليس مؤشر خير، فهو يعرف طبيعة النظام وبطشه وعنفه وقمعه وقساوته، ويعرف أنه لن يسكت عن محاولة تحديه، ولا عن مطالب هؤلاء الشباب التي اختصروها بكلمة الحرية. تعبيرا عن كل حقوقهم المهضومة. وليد يفكر أنهم كعائلة مسيحية وثرية وأمورها بخير، عليها أن تكون على الحياد في هذا الصراع الذي بدأ في البلد. كذلك والده له نفس الرأي، فقد عاصر هذا النظام منذ عقود وعلم ما حدث في تلك المدينة وسط سورية، يقصد حماه في ثمانينات القرن الماضي، وكيف قتل الآلاف ودمّر الكثير من الأحياء، لم يحترم حرمات النساء ولا براءة الأطفال. لذلك يتمنّون أن يكف الشباب عن حراكهم خوفا من القادم الأسوأ. لكن عمر الابن الأصغر للعائلة كان منخرطا بكليته في حراك الربيع السوري الذي يسعون ليكون ثورة تسقط الاستبداد، تنهي القمع والفساد والاستحواذ على السلطة. كان ينشط مع آخرين مكونا حركة تعمل لقيادة العمل للتغيير والثورة. اصدقاؤه من كل مكونات الشعب السوري، المسيحي والمسلم والدرزي والكردي، كذلك العلوي، رغم ادعاء النظام أنه يعبر عن مصلحة العلويين، مع العلم أن بنيته الفعلية المهيمنة في الجيش والأمن من الطائفة العلوية. لكن الوعي العام كان يدرك أن النظام يسيطر لمصلحة عائلة رأس النظام والعصبة الضيقة حوله. كان لدى عمر وكل المحيطين به من شباب الحراك الثوري اسبابهم من مظلومية مجتمعية تطالهم. الحرية المستلبة، وهيمنة الفساد والمحسوبية والواسطة والرشوة، والفقر والبطالة والسجون، غياب العدالة وانعدامها، هدر كرامة الإنسان، يعيش الإنسان في أفق مظلم لمستقبل غير محدد المعالم. لكل شاب سوري سبب شخصي يثور لأجله، هذا غير الأسباب العامة لعيش الناس في ظلم مستديم، يجني ثماره النظام وعصبته. لم يكن عمر واصدقائه يهابون النظام رغم معرفتهم بما يصيبهم إن ثاروا، مع ذلك استمروا في حراكهم الثوري. بدأ النظام يواجههم بالرصاص الحي والمطاردة والاعتقال. يموت البعض، يتحولوا لشهداء يشدون من عزيمة الباقين للاستمرار. يستطيع عمر وأصدقاؤه الهروب من المطاردة والاعتقال أكثر من مرة، لكنه يقع في المعتقل مع أغلب اصدقائه بعد ذلك.

في المعتقل انتقل واقعهم من عيش حلم الحرية بكل ألقه وروعته، ليعيشوا كابوس القمع والتعذيب الوحشي والقتل ايضا في المعتقلات. سيواجه عمر واصدقائه تعذيبا قاسيا، الضرب والشبح واغتصاب له وللصبايا ممن اعتقلوا معه. عاش شهور من الإعتقال ذاق فيها ما لا يطاق. ماتت صديقته أمامه، اغتصب هو و هي. وأخيرا أخلي سبيله. خرج من المعتقل وتوجه مباشرة إلى مناطق الثوار المحررة وقرر أن يشارك الثوار بالعمل العسكري ليسقطه، فقد اقتنع بذلك بعد ما عاشه في المعتقل.

نعود إلى وليد ووالده ووالدته. علموا بما حصل مع ابنهم عمر واعتقاله، حاول والده بكل طاقته أن يفدي ابنه بالمال ليفرج عنه ولا يقتل. وتحقق له ذلك وخرج عمر لكن لم يعد إلى اهله بل غادر للمناطق المحررة لمحاربة النظام. لم يكن أمام والده أي امكان لاستعادة ابنه، المهم أنه حي وإن كان هناك مع الطرف الآخر. أما وليد فقد كان مقتنعا مع والده أن هذه المعركة في سورية ليست معركتهم كمسيحيين. وكان لديه مشكلة أخرى. إنه يحب فتاة من الطائفة العلوية، طائفة النظام، يريد أن يتزوجها. الأهل يرفضون فهي من غير دينهم، وهي لم تخبر والدها الضابط الكبير السابق الذي كان له دور في مجازر حماة في الثمانينات،  يعيده النظام إلى الجيش ليكون قائدا في حربه على الشعب في كل سورية. تعب وليد كثيرا في اقناع حبيبته بأن تخبر والدها بأنه يود التقدم لطلب يدها. أو أن تهرب معه إلى خارج سورية ويتزوجا هناك. رفضت الخروج من سورية وأخبرت والدها بطلب وليد الزواج منها. التقى والدها بوليد، وضعه أمام خيارين، الأول أن يكون واحدا من قوات النظام في كتيبة قناصين لقتل اعداء الدولة والوطن، والثاني أن ينسى حبيبته. اختار بعد تفكير وتردد أن يكون جزء من فرقة قناصين يتواجد على بناء عال مطل على مناطق الثوار ويقتنص كل من تراه بندقيته في منظارها. الكل أعداء؛ المقاتلين واهلهم ونساؤهم واطفالهم. عايش وليد الجيش والتفاوت والفساد والمحسوبية، والجنود المجبرين على القتل أو الموت من رؤسائهم. تألم كثيرا حتى تكيّف مع فكرة القتل عبر قناصته، وعانى بعد أول قتل قام به، ثم رويدا رويدا أصبح مدمنا لعمله واصبح القتل والدم الذي يراه مراقا من ضحاياه امتع ما يعيش، خاصة وأنه أصبح شبه سجين في موقعه العسكري، تزوره حبيبته كل فترة داخل موقعه، كانت واحته الوحيدة، وحصل بينهم علاقة جنسية توالت على فترات زيارتها له. وهو لم يعد يرى من حياته. الا إدمانه للقتل وانتظار حبيبته. ومن ثم انتهاء مهمته والزواج منها والهروب إلى أوروبا أو أمريكا.

على مستوى العائلة علم والد وليد بما حصل مع ابنه وليد، حاول بداية أن يثنيه عن ما يريد أن يفعل، أخبره أن هذه المعركة ليست معركتهم كمسيحيين، وأنه يستخدم لأهداف النظام، وأنه إن أصبح قاتلا فلا شيء بعد ذلك سيعوض إنسانيته التي خسرها. لكنه ركب رأسه وذهب ليكون قناصا قاتلا كما أوضحنا. أما ابو وليد فقد تابع حياته في دكانه ومع زوجته، وفي أحد الأيام دخلت الى دكانه فتاة في مقتبل عمرها، جائعة بائسة، علم أنها من الأطفال اليتامى والمشردين الذين قتل اهلهم ودمرت بلداتهم وأصبحوا ظاهرة منتشرة في دمشق، حنّ على الفتاة وأخذها إلى بيته وتبناها هو وزوجته، استعاضوا بها عن ولديهما اللذين غادروا  ولم يعودا أبدا. لم تنته المشاكل بالنسبة لأبو وليد فقد بدأت حركة بيع وشراء في السوق القديمة حيث محله. لقد جاء الغرباء اصحاب الرايات الصفر، يقصد حزب الله اللبناني، طلبوا محله والمحلات المجاورة، لم يبع، وماهي الا ايام حتى احرق محله والمحلات المجاورة له. كانت نكبة كبيرة على ابو وليد، وألحقها خبرا بأنه مستهدف من الأمن لأن ابنه عمر التحق بالثورة ضد النظام. لذلك نصحوه بأن يغادر سورية الى أي مكان. غادر وزوجته والفتاة التي تبناها الى لبنان، وهناك التحق في منزل صديق لبناني من الشيعة – نعلم ذلك بالتورية – استقبله بود لأنه كان قد استقبله أيام الاجتياح الإسرائيلي الى لبنان عام ٢٠٠٦م وهروب أكثر من نصف مليون انسان الى سورية. لقد ظهر أن معاملة الكثير من اللبنانيين للسوريين كانت سيئة في لبنان. هناك في لبنان فتح أبو وليد متجر، نجح بداية وحاول بعض اللبنانيين مشاركته، لكنه رفض، حُرق محله في لبنان ولقي معاملة سيئة واهانة من عناصر حزب الله في لبنان وعاد وضعه ليكون أكثر سوءً . فكر هو وزوجته بحل لوضعهم ولم يكن أمامهم إلا أن يفكروا بالهجرة إلى أوروبا. يقرر ابو وليد أن يلجأ للذهاب عبر التهريب من تركيا الى اليونان – علمنا ذلك تورية ايضا -. يذهب عن طريق المهربين ويركب في قارب وينقلب في عرض البحر ويموت كل الركاب، يغرق ابو وليد. يصل الخبر الى ام وليد والفتاة التي تبنوها، و يصابوا بالفجيعة. تبدأ الفتاة العمل بالخدمة في البيوت، ويكتشفها ضباط مخابرات سوري سابق يدير شبكة دعارة من نساء سوريات في لبنان، أجبرهنّ على ذلك عبر استغلاله لظروف تشردهم و بالقهر والعنف، احتال على الفتاة وجذبها الى أحد الفنادق والزمها بالقوه والعنف والاذلال على امتهان الدعارة، وأصبحت شبه مسجونة، وانقطعت أخبارها عن أم وليد التي بحثت عنها كثيرا وماتت في احدى الحفر في المخيم حيث كانوا يعيشون تحت الثلج في ليلة عاصفة.

وبالعودة إلى وليد فقد وصله خبر عن أخيه عمر بأن الارهابيين – يعني الثوار- قد قتلوه، وهذا زاد حقده اكثر و ادمانه على القتل في قناصته. كما أنه بحث عن أهله وعلم ما أصابهم، فزاد ذلك من سوداوية حياته وغرقه في لعبة القتل والموت لكل من يتحرك أمامه، من طفل او امرأة او مدني، أصبح قاتلا موتورا. ولم يعد في حياته سوى حبيبته التي قررت أن تخرجه من هذا الجو وتهاجر هي وهو من سورية إلى أوروبا او أمريكا.

تنتهي الرواية عندما تعلم حبيبة وليد أن والدها قد قرر قتل وليد بعد أن انتهت مهمته. وذهبت إليه لتخبره بما قرر والدها بحقه. ذهبت اليه بطرق فرعية لاستحالة الوصول إليه عبر رجال والدها. كانت تحت مرمى قناصته. ارداها قتيلة في رصاصته الأخيرة.

في تحليل الرواية:

إننا أمام رواية أخرى تتحدث عن الثورة السورية. في جزئها الأول توضح الأسباب الحقيقية الذاتية والموضوعية لكل او أغلب الشعب السوري  حتى يخرجوا بثورة ضد النظام المستبد القمعي الطائفي الفاسد القاتل. وتوضح في الجزء الثاني المآلات المأساوية لكل الشعب السوري. من نظام تصرف على قاعدة حماية النظام وعصبة الحكم وحرق البلد وقتل الشعب وشرده، دمّر البلاد فوق أهلها وحولها الى خراب. يكشف النظام الذي لا يتورع عن فعل اي شيء ليحمي الحكم ومصالح العصبية الضيقة للسلطة.

وفي الرواية ترميز شديد، وعدم مباشرة، ومآلات اشخاصها الأساسيين كلها مأساوية.

إنها صورة سورية الآن التي أصبحت محتلة من الروس والإيرانيين والأمريكان، ويسيطر على بعضها حزب العمال الكردستاني الذي يعمل لخلق كيان انفصالي  ويساهم بتقسيم سورية.

كل ذلك حصل في سورية وادى لسقوط مليون شهيد واكثر، ومثلهم معوقين ومصابين، ونصف الشعب السوري مشرد خارج سورية وداخلها. والباقي في سورية يعيش تحت خطّ الفقر، دون ادنى شروط الحياة الإنسانية. كل ذلك جاء ردا على مطالب شعبنا بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل. في مواجهة نظام مستبد قاتل.  العالم كله يرى ويسمع لكنه صامت.

هل يستحق الشعب السوري كل ما أصابه لأنه طالب بحقوقه الإنسانية مثله مثل كل شعوب الأرض؟ !!. سؤال في ذمة الإنسانية والتاريخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى