يمكن استعراض كثير من التعريفات التي تتحدث عن العقد الاجتماعي، والتي وضعها الفلاسفة خصوصاً، وراح كل منهم يضيف لتعريفات سابقة كثيرا من التفاصيل التي تُساعد على تنظيم المجتمع، وكثيرا من الأفكار البنّاءة والخلاقة، التي تسمو بسيادة الشعب والحريات والحقوق والإرادة العامة وتمتّن أسس الدولة الجامعة للبشر في إطار جغرافي مصلحي واحد، وهي تعري13فات كثيرة بحيث تُفرد لها مجلدات لعرضها ومقارنتها.
يركّز كثير من الباحثين والسياسيين السوريين على ضرورة أن يكون هناك عقد اجتماعي لسوريا المأمولة، باعتباره مجموعة التفاهمات المنظِّمة للمجتمع والدولة، أي مجموعة القوانين والمحدِّدات التي يجب أن يتفق عليها السوريون مسبقاً وتضمن لهم العيش المشترك بسلام، وتضمن الاستمرارية والتنمية والتفاهم، ويُصرّ بعضهم على أن التفاهم على العقد الاجتماعي أمر في غاية الأهمية ويجب أن يسبق وضع الدستور، الذي بطبيعة الحال يُحدد تفاصيل كل التفاهمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبنيوية التي يجب أن يسير عليها جميع المواطنين كقواعد غير قابلة للخرق أو الاستثناء.
لا شك في أن دعوة العديد من السوريين للحوار من أجل وضع عقد اجتماعي لسوريا، هو أمر في غاية الأهمية، وهو يتقاطع كثيراً مع العديد من السوريين الذين يدعون لوضع دستور جديد لبلدهم، خاصة بعد حرب لأكثر من عشر سنوات، ولا تزال قائمة، تشتت فيها السوريون في أصقاع الأرض، وتسببت بكثير من الشروخ الاجتماعية، على المستوى الطائفي والإثني والمناطقي، وتسببت بتفكك البُنى الأساسية الجامعة للسوريين، وخلّفت تناقضات فكرية وإيديولوجية وسياسية كبيرة.
هذا التأكيد على أحقية الدعوتين، لا يعني أن المطلوب إحقاق كليهما، فهنا لا بد من الانتباه إلى أن سوريا ما زالت في حرب، وفيها جيوش أجنبية من أربع دول على الأقل دون إرادة السوريين، ومجموعات عسكرية وميليشيات يصعب حصرها، ونظام فاقد للشرعية ولا يقبل بأي حل سياسي، ومعارضة مهلهلة تعيش طفولة سياسية، وحدود طبيعية مهددة بالتغيير، ورابطة وطنية لم تعد محل إجماع، وهوية وطنية ليست راسخة، بل بتعبير أدق أصبحت مهددة الوجود كلّياً، كما أن الظروف اللازمة لوضع عقد اجتماعي غير متوفرة، وعلى رأسها الحرّية، والاستقرار، ومصداقية التمثيل، والقبول بالحكم التداولي، كل ذلك يدعو لتجاوز المثاليات، والقبول بوضع دستور عصري لسوريا، مُصاغ وفق أفضل المعايير العالمية، مستفيداً من تجارب سابقة كثيرة، دون انتظار التوافقات المسبقة على عقد اجتماعي، خاصة وأن الدستور الجيد سيحدد فيما يحدد كثيرا من القضايا الأساسية التي من المفترض أن يحددها العقد الاجتماعي، وسيقوم بدوره برسم وترسيخ الهوية الوطنية السورية الجامعة.
لو وُضع دستور يضمن ما سبق في بنوده، فإن السوريين لن يحتاجوا إلى عقد اجتماعي مُسبق، لأن المجتمع الجديد سيتواءم بالضرورة مع الدستور الجديد، وسيُنتج هذا المجتمع بالتدريج ثقافة مجتمعية مختلفة عن الثقافة التنافرية السلبية السائدة، وستتوضح ملامح عقد اجتماعي تتواكب مع الدستور وتنسجم معه حُكماً، وتنعكس آثاره بالضرورة في القوانين اللاحقة للدستور.
العقد الاجتماعي ليس سوى مسيرة حوار بين مكونات المجتمع الواحد، تُتوج بوضع مبادئ عامة عمومية عما يجب أن يكون عليه الدستور، لكن الدستور عموماً ليس “اختراعاً” ولا هو وصفات سحرية، ولا أفكار إبداعية خلّاقة، ولا هو عمل تقني سبّاق، بل هو مجموعة من الأحكام والمحددات والقوانين الواضحة، غالبيتها مكررة في كثير من دساتير العالم المتحضر، والتوافق عليها “تحصيل حاصل” لأن كل إنسان طبيعي، وكل فرد في المجتمع الطبيعي، سيقبل بها، وبقية البنود غير التوافقية يمكن وضعها بما يتناسب مع بلورة هوية وطنية جامعة تضمن تحوّل سوريا إلى دولة مواطنة.
منطق الأمور يؤكد على ضرورة أن لا يكون هناك خلاف على وجود عقد اجتماعي يسبق الدستور من عدمه، فالمهم هو الدستور، الذي يجب أن يضمن أسس واضحة، الحرّية، الديمقراطية، الاستقرار، مصداقية التمثيل، وفصل السلطات، والقبول بالحكم التداولي، وإن تحققت هذه الأسس، فإن العقد الاجتماعي المسبق للدستور لن يعود أولوية لا غنى عنها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا