يُعدّ عمل منظمات المجتمع المدني، في الوقت الحاضر، ركيزةً من ركائز الاقتصاد المعاصر في أيّ مجتمع، إذ أصبحت تلعب الدور الرئيس والفاعل في تمكين المقدرة التنافسية التنموية ورفعها، بين المجتمعات المحلية على المستوى الوطني، وبين الدول على الصعيد العالمي، ولا يمكن للقوانين والتمويل وحدهما أن يشجعا أفراد المجتمع على الانخراط الفعال في منظمات المجتمع المدني، من أجل خلق فرص عمل جديدة، ما لم تتوفر ثقافة مجتمعية داعمة لها، يتم تأسيسها في مؤسسات النظام الاجتماعي كافة (التعليمية، التنشئة الاجتماعية والأسرية، وسائل الإعلام، الأحزاب السياسية.. إلخ)، إضافة إلى خلق نماذج لمشاريع إنتاجية وابتكارات تقنية، يتم احتضانها ورعايتها لتكون نماذج ناجحة يقتدي بها أفراد المجتمع كافة.
عرف المجتمع السوري الجمعيات الخيرية والأهلية، منذ حكم الدولة العثمانية الإسلامية، واستمرت تلك الجمعيات في مرحلة الانتداب الفرنسي بنشاط فعال في المجالات الاجتماعية والاقتصادية كافة، وأبرز ذلك وجود نشاط مجتمعي لمنظمات مجتمع مدني متقدم وفاعل، طوال فترة الأربعينيات والخمسينيات، إضافة إلى تأسيس الأحزاب السياسية الجديدة، وصدور قانون الجمعيات رقم 47 لعام 1953، الذي أتاح للسوريين كافة تشكيل الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية بشكل واسع.
استمر العمل في هذا القانون حتى تاريخ قيام الوحدة السورية المصرية عام 1958، حيث قامت الدولة بإغلاق هذه الجمعيات والنوادي الاجتماعية والثقافية والصحف المستقلة، من خلال إلغاء قانون الجمعيات 47، وإحلال القانون رقم 93 مكانه، الذي يتيح للدولة السيطرة على هذه الجمعيات بالمطلق، واستمر العمل بروح هذا القانون في مرحلة حكم البعث والأسد، وقد أجريت عليه تعديلات عام 1969، زادت من سلطة الدولة عليها. واستنادًا إلى تجربة الدول الاشتراكية في تلك المرحلة التي لا تؤمن بعمل منظمات المجتمع المدني، فإن الدولة ومؤسساتها هي المسؤولة عن متطلبات الفرد والمجتمع كافة.
بعد انقلاب الأسد الأب عام 1970، أصبح حزب البعث الحزبَ القائد للدولة والمجتمع، بقوة القانون، من خلال دستور عام 1972، في المادة الثامنة التي تتنافى مع أبسط المبادئ الديمقراطية، وعمل منظمات المجتمع المدني، حيث يحتاج القيام بالأنشطة السياسية والاجتماعية والثقافية الإعلامية والرياضية والترفيهية من خلال مؤسسات دولة البعث، إلى موافقة الأجهزة الأمنية. وهكذا تلاشى دور المنظمات والمؤسسات المدنية والأهلية، واقتصر العمل على الجمعيات الخيرية والخدمة الاجتماعية، بإشراف الدولة، من خلال وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.
وفي الوقت نفسه، على المقلب الآخر (المجتمع)، كان هناك قبول من قبل المثقفين السوريين، وخاصة السياسيين، بقيام الدولة بقيادة المجتمع منفردة لفترة طويلة، وبالتحديد حتى مرحلة انهيار الدول الاشتراكية في بداية التسعينيات، حتى المعارضة السورية في تلك الفترة كانت تتطلع إلى تغيير النظام السياسي فوقيًا فقط، مع استمرار فلسفة وثقافة قيادة الدولة للمجتمع في الميادين الحياتية كافة، بل إنهم جعلوا من برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بؤرة اهتمامهم الثقافي والسياسي، حيث الدولة هي المحور الرئيس في كل الأبحاث والكتابات السورية مثل (الدولة والتنمية، الدولة والتعليم، الدولة والتغيير..)، وكل ذلك على حساب الاهتمام بالمجتمع وثقافته المجتمعية، التي من المفترض ملاحظتها في عمل منظمات المجمع المدني المغيبة من الطرفين (النظام السياسي والمعارضة).
مع بداية حكم الأسد الابن 2000، ظهر ما أطلق عليه بـ “ربيع دمشق”، وبدأت تبرز ثقافة بعض منظمات المجتمع المدني (لجان إحياء المجتمع المدني والمنتديات السياسية، منظمات حقوق الإنسان)، ولكنها لم تستمر سوى أشهر معدودة، حيث شعر بشار الأسد بخطورتها، في حال تجذرها في الأنساق الاجتماعية السورية، فقام بإغلاقها وباعتقال بعض الشخصيات الفاعلة فيها، ولكن النظرة إلى منظمات المجتمع المدني بدأت بالتغير من قبل المثقفين والسياسيين السوريين، باتجاه أن يكون لها دور فاعل في التغيير السياسي والاجتماعي التنموي.
اندلعت الثورة في سورية 2011، وكانت منظمات المجتمع المدني غائبة عن الأنساق الاجتماعية السورية كافة، ومع الوقت واستخدام النظام لوسائل العنف كافة لقمع الثورة، بدأت منظمات المجتمع المدني بالظهور العلني، عبر مبادرات بعض الشخصيات الفاعلة في الخارج، مع وجود فروع لها في الداخل السوري.
لا شك في أن سورية شهدت، في السنوات العشر التي أعقبت الثورة والحرب، سلسلةً من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكان من أبرزها بروز قطاع الأعمال الخيرية والتطوعية، بمؤسساته ومنظماته غير الحكومية، التي حلت محل الحكومة المركزية في تقديم كثير من الخدمات والمنافع العامة، خاصة في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، وبعد غياب مؤسسات الدولة السورية، اتسع نشاط عدد كبير منها عبر الحدود، وخاصة مع تركيا.
لذلك لا يمكن فصل ظاهرة الثورة والحرب السورية عن انتشار وتوسع المنظمات غير الحكومية، وزيادة النشاط التطوعي والخيري عبر الحدود، حيث أصبحت هذه المنظمات قوة فعالة على المستوى المحلي، حيث عادلت مواردها وخبراتها المؤسسات الحكومية الرسمية، واتسع مجال نشاطها وأعمالها إلى إنتاج أفكار جديدة لم تكن معروفة في الثقافة المجتمعية السورية قبل 2011.
بقيت هذه المنظمات تلعب الدور الخيري القديم للجمعيات السورية، باعتبارها مجرد وسيط بين المانح والممنوح، عبر تنظيمها لأدوار العمل الخيري والاكتفاء بتقديم المساعدات إلى المحتاجين، بعيدًا عن التنظيم الإداري الفعال، فضلًا عن الفساد الذي استشرى في بنيتها، الذي كاد أن يكون الجناح الآخر لفساد مؤسسات النظام السوري، إضافة إلى كونها لم تعد تلبي الحاجات الاجتماعية المتجددة للسوريين، وحضرت الحاجة الماسة إلى تفعيل ثقافة عمل منظمات المجتمع المدني، التي من المفترض أن تلعب دورًا فاعلًا في دفع المواطن السوري إلى العمل الفعال في المجالات الاجتماعية كافة، وخاصة في المجال الاقتصادي، من أجل خلق فرص عمل جديدة، وتحويل أفراد المجتمع من خانة المتواكلين الباحثين عن عمل، إلى خانة المبادرين القادرين على خلق فرص العمل.
تبرز أهمية تفعيل ثقافة العمل المدني، في الأنساق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية السورية كافة، من كونها تساعد في خلق فرص عمل ومشروعات جديدة، وتفسح المجال واسعًا أمام المواطن، من أجل أن يكون شريكًا قادرًا على تفعيل دوره في الأنشطة المجتمعية، ورفع مقدرته التنافسية من خلال تنمية مهاراته المهنية وغيرها، إضافة إلى الاستجابة لمستجدات ومتطلبات سوق العمل في عصر المعلوماتية، باتجاه الابتكار نحو مستويات متقدمة وإيجابية للطموح وإدراك الذات.
أما الشروط الأولية لنجاح منظمات المجتمع المدني، فلا بد من توفر البرامج الواضحة والفعالة، التي تعمل على خلق المناخ السليم، بهدف تسليط الضوء على الممارسات السليمة للشخصيات الفعالة في المؤسسات المجتمعية كافة، وتشجيع روح ثقافة المبادرة الاجتماعية، وإطلاق مبادرات المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات المجتمعية ذات الطابع التنموي المستدام لدى شركاء الأعمال الفاعلين، للمساعدة في إعادة تعريف مهمات منظمات المجتمع المدني، بما يخلق تأثيرًا اجتماعيًا إيجابيًا، وتسويق مخرجاتها في الأوساط الاجتماعية السورية كافة.
ولكي تكون نشاطات منظمات المجتمع المدني فاعلة، لا بدّ من توفر ثقافة عملها لدى القائمين عليها، خاصة في ما يتعلق بمفهوم المواطنة، بما تعنيه من مركزية الفرد وحريته وحقوقه وواجباته في المجتمع، ومن ثم الرفض المطلق لأيّ شكل من أشكال الاستبعاد للمواطنين في العمل المؤسساتي المدني، استنادًا إلى مبدأ الإشراك والتشارك، الذي يُعدّ من القيم المثلى لبناء منظمات المجتمع المدني.
وفي الوقت نفسه، إذا كانت منظمات المجتمع المدني تشمل تلك القطاعات التي تنمو وتترعرع في المجتمع بعيدًا عن سلطة الدولة وتدخلها، فإن علينا من الناحية الواقعية الاعتراف بأنه لا يمكن إحياء منظمات المجتمع المدني دون إصلاح الدولة باتجاه الدولة المدنية الديمقراطية.
تعدّ ثقافة المجتمع المدني بمنزلة مدارس للتنشئة السياسية على كيفية ممارسة الديمقراطية، في المؤسسات المجتمعية كافة، سواء كانت جمعية خيرية، أو ناديًا رياضيًا، أو مؤسسة ثقافية، أو حزبًا سياسيًا، أو نقابة عمالية، فالمطلوب تدريب أعضائها على الفنون والمهارات اللازمة لممارسة الديمقراطية في أنساق المجتمع السوري كافة.
وفي الوقت الذي تجري فيه إعادة النظر في أدوار الدولة السورية في الحلّ السياسي المستقبلي، من قبل معظم التيارات السياسية السورية، خاصة في ما يخص حدود تدخلها وتقليص سلطتها في المجتمعات المحليّة، كجزء من إجراءات عملية التغيير السياسي، خاصة في بعدها الاقتصادي من خلال اللامركزية التنموية المحلية، لا بدّ من الاهتمام الفاعل، من أجل تعزيز ثقافة عمل المنظمات والمؤسسات غير الحكومية المحلية والإقليمية والدولية، وإنمائها وإعطائها أدوارًا مؤثرة في مراكز اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية في سورية المستقبل.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة