قبل أن يجف حبر البيان الختامي لمؤتمر دول جوار ليبيا في الجزائر، الثلاثاء الماضي، وجهت الرباط دعوة رسمية لرئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح لزيارة المغرب، في حركة تكشف، بشكل أوضح من ذي قبل، أن المنافسة بين البلدين الغريمين وصلت إلى الملف الليبي.
ومثلما كان مؤتمر الجزائر إطارا للبحث في خطة عملية لإخراج القوات الأجنبية من ليبيا، وفرض الاستقرار، ركز وزير خارجية المغرب ناصر بوريطة محادثاته مع صالح الخميس في الرباط، على «الوسائل الكفيلة بإنهاء الأزمة الليبية ورفع العراقيل من طريق إجراء الانتخابات العامة» المقررة للرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر المقبل.
غير أن زيارة عقيلة إلى الرباط، الخميس، أتاحت له، مثلما خطط مُضيفوه على الأرجح، الاجتماع مع شخصيات سياسية ليبية مقيمة في المغرب، سعيا لبلورة رؤية مشتركة للحل السياسي في ليبيا بمساعدة المغرب، الذي سبق أن استضاف حوارات الصخيرات، العام 2015 والتي انبثقت منها حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، والمجلس الرئاسي السابق، قبل تجديد أعضائه في شباط/فبراير الماضي. وكان واضحا من تصريحات بوريطة أن المغرب يعتزم استضافة حوارات ليبية ليبية «للتغلب على الصعوبات التي تقف أمام إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية» مثلما أورد الإعلام المغربي.
ويمكن القول إن الرباط تحرص على تجميع الفرقاء الليبيين تحت خيمتها، وهو ما لم تتمكن الجزائر من اجتراحه بسبب الاضطرابات الداخلية التي عرفتها في أواخر عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة وبدايات خلفه عبد المجيد تبون على رأس الدولة. أما المغرب فاستضاف خمس جولات من الحوار بين أعضاء مجلسي النواب والدولة. إلى ذلك أجرى صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، في 25 يونيو/حزيران الماضي، مباحثات بشكل منفصل، مع كل من رئيس مجلس النواب المغربي حبيب المالكي ورئيس مجلس المستشارين عبد الحكيم بنشماس، ووزير الخارجية بوريطة. وفي الشهر نفسه، أجرى رئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة عبدالحميد الدبيبة، أول زيارة رسمية إلى الرباط بعد اعتلائه سدة رئاسة الوزراء، في شباط/فبراير الماضي.
تأتي هذه الحركة بعد تزايد اهتمام دول الجوار بالتوصل إلى حل سياسي يُنهي حربا أهلية مستمرة منذ العام 2014 خاصة أن الصراع الدولي في ليبيا وعليها انعكسا سلبا في الأوضاع الأمنية للجوار. لذا لاقت دعوة الجزائر إلى الاجتماع التشاوري، تجاوبا سريعا من دول الجوار، التي كانت تُدعى في أفضل الأحوال إلى مقاعد المشاهدين في المؤتمرات الدولية حول ليبيا.
غير أن المغاربة لم يتحملوا إقصاءهم من اجتماع الجزائر، وهم الذين ساهموا في وضع الملف الليبي على سكة الحل السياسي، من خلال خمس جولات من الحوارات الليبية الليبية في الصخيرات. وهل يُعقل أن الكونغو، على سبيل المثال، أقرب للملف الليبي من المغرب؟
بهذا المعنى بدت زيارة عقيلة صالح للرباط نوعا من الرد على اجتماع الجزائر، وكأن المغاربة أرادوا أن يقولوا لرعاة الحل الدوليين والاقليميين إن لديهم أوراقا ما زالت صالحة للدفع باتجاه الحل، بالرغم من أن المغرب لا يمثل أحد بلدان الجوار المباشر لليبيا.
تكامل جزائري مغربي؟
كيفما كانت مآلات الخلاف الجزائري المغربي حول المسائل القديمة، وخاصة الصحراء، فالثابت أن دوريهما يتكاملان في حقيقة الأمر. ومن الواضح أن الليبيين تخلصوا من هذه الثنائية بدعوتهم إلى مؤتمر أشمل من اجتماع الجزائر التشاوري، المُزمع عقده أواخر هذا الشهر أو مطالع الشهر المقبل، في ليبيا هذه المرة. ومن هنا يمكن اعتبار اجتماع الجزائر بداية لاستعادة زمام الأمور من الأطراف الدولية، التي كانت تدعو إلى اجتماعات ومؤتمرات في باريس وباليرمو وجنيف، بعيدا عن الداخل الليبي، وما يتفاعل في صُلبه من تطورات ومبادرات.
وما يؤمله الليبيون، الذين ضجروا من ويلات الحرب، هو أن توضع التوصيات الصادرة عن اجتماع الجزائر موضع الاختبار في ملف أساسي يتعلق بالسحب التدريجي للمرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا، إذ دعا المجتمعون في بيانهم الختامي إلى التنسيق مع دول الجوار لوضع آلية عملية لسحب المرتزقة، وإن اكتفوا بالتنديد باستمرار تدفق الأسلحة والمرتزقة على التشكيلات الخارجة عن القانون، ولم يتخذوا في شأنه إجراءات عملية.
مع ذلك، أعلنت وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش، أن الاجتماع توصل إلى اتفاق على ثلاث نقاط مهمة، أولها تفعيل الاتفاقية الرباعية بين ليبيا ودول الجوار لتأمين الحدود المشتركة، وثانيتها الاتفاق على خطة مرحلية لسحب المرتزقة، أما الثالثة فهي دعوة اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 إلى التنسيق مع دول الجوار، لوضع آليات عملية لتنفيذ تلك الخطة.
لكن هذه المخرجات تبدو طوباوية إذ أن دول الجوار الليبي، من جهة الساحل والصحراء، غير قادرة على ضبط حدودها والقضاء على شبكات الإجرام والتهريب، التي تتنقل على أراضيها منذ سنوات بلا رقيب أو ضابط. وعليه سيكون من الصعوبة بمكان أن تكون تلك الدول في وضع القادر على تقديم العون للسلطات الشرعية الليبية، من أجل إحكام السيطرة على حدودها الجنوبية، بينما مازالت الاشتباكات تندلع في طرابلس نفسها بين الأجسام المسلحة.
قتال في طرابلس
وما حدث أخيرا في منطقة صلاح الدين من اشتباكات مسلحة بين فصيلين متنافسين يؤكد أن قبضة الدولة مرتخية، وهي غير قادرة على فرض الانضباط على الميليشيات التي تحمي الحكومة. ودفعت الاشتباكات الأخيرة بين مجموعة تتبع ما يُعرف بـ»جهاز دعم الاستقرار» وثانية تتبع كتيبة «لنواصي» بعثة الأمم المتحدة إلى التعبير عن قلقها البالغ إزاء استمرار الاشتباكات، بما في ذلك إطلاق النار عشوائيا، في حي من طرابلس مكتظ بالسكان. وأدى تبادل إطلاق النار إلى سقوط ضحايا بينهم قتلى من الجانبين.
وحضت البعثة الأممية أيضا على الشروع «بشكل شامل ومفصل» في عملية نزع السلاح وتسريح المسلحين ومعاودة إدماجهم، إلى جانب إصلاح قطاع الأمن بهدف وضع جميع الأسلحة تحت سيطرة الدولة.
وسياسيا أتى الاقتراح الأمريكي بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في كانون الأول/ديسمبر، مع دورة ثانية من الرئاسية في خريف 2022 ليعكس الأهمية التي بات الأمريكيون يولونها لتسوية الأزمة الليبية سلما، واستطرادا ضبط الأوضاع الأمنية المُنفلتة في منطقة الساحل والصحراء، حيث لجأت كثير من التنظيمات الإرهابية، بما فيها «القاعدة» و»داعش». ويدل تقديم أمريكا الاقتراح بمفردها، على أن الأمور ليست على ما يُرام مع الحلفاء الغربيين، وخاصة فرنسا وإيطاليا، اللتان عقدتا عدة لقاءات ومؤتمرات حول الأزمة في ليبيا، لكنها ظلت عقيمة وأقرب إلى العلاقات العامة منها إلى الدراسة الجادة لملف الحرب في ليبيا.
وبحسب نشرة «أفريكا ريبورت» يرمي المقترح الأمريكي إلى «إنقاذ خريطة الطريق» المُفضية للانتخابات العامة، والتي ترفضها الحكومة المؤقتة ومجموعات ليبية خارج الدولة، بحسب النشرة.
وفي تفاصيل الاقتراح يحض الأمريكيون على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في الميقات المحدد لها، على أن تُجرى دورة ثانية من الرئاسيات في الخامس من ايلول/سبتمبر 2022. لكن الفجوة عميقة بين التاريخين، ما يطرح عدة أسئلة حول الوضع القانوني الذي سيكون عليه الفائزان بالرتبتين الأولى والثانية في الاقتراع، وعلاقاتهما مع السلطات التنفيذية والتشريعية القائمة. ويزداد الغموض مع النوايا التي تنسب لرئيس الحكومة المؤقتة عبدالحميد الدبيبة الرغبة بالتمديد لحكومته، وربما ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية، مع أنه يؤكد في العلن التزامه بالميقات المُحدد للانتخابات في خارطة الطريق، التي تحظر عليه المشاركة في أية منافسة انتخابية.
سيف الإسلام بين أمريكا وروسيا
ينطبق المنع أيضا، لكن لأسباب أخرى، على نجل الزعيم الراحل سيف الإسلام معمر القذافي، المطلوب للعدالة الليبية وللقضاء الدولي في آن معا. ولوحظ أن مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، جوي هود، عبر علنا عن رفض واشنطن ترشيح سيف الاسلام، مُعتبرا إياه «أحد مجرمي الحرب» وأنه يخضع لعقوبات أممية وأمريكية، في إشارة إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي طلبت مرات من السلطات الليبية توقيفه وتقديمه إلى العدالة.
ويُعزى هذا الموقف الأمريكي المتشدد إلى أن سيف الإسلام هو مرشح موسكو للانتخابات الرئاسية الليبية. وذهب موقع «بلومبيرغ» إلى التأكيد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يضغط على اللواء المتقاعد خليفة حفتر لدعم ترشيح سيف الإسلام لرئاسة ليبيا، على أمل فتح أبواب الاستثمار والتجارة واسعة أمام الشركات الروسية.
تُلقي تلك الأوضاع بظلالها على الليبيين الذين باتت حياتهم أعسر وأعسر، مع تراجع قيمة الدينار إلى رُبع قيمته السابقة وارتفاع الأسعار وانقطاعات الكهرباء المتكررة لساعات طويلة، مع أن ليبيا مُنتج رئيس لمصادر الطاقة في أفريقيا. واعتمدت الأسر القادرة على مولدات خاصة، فيما ظلت بيوت الفئات الفقيرة والمعوزة بلا كهرباء أو بالنزر القليل منها.
وبالرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على الاطاحة بالنظام السابق، ما زالت ورشات إعادة البناء تشتغل ببطء بسبب عدم وضوح الرؤية، وانتشار الفساد.
وتُؤاخذ الحكومة لأنها لم تستطع إيجاد حلول وإن وقتيا، لهذه الظواهر، بينما تُنفق أموالا طائلة على تنفيذ مشاريع غير مؤكدة الجدوى. ويعتقد الخبراء أن هناك فرصة أمام حكومة الوحدة الوطنية للبت في ملفات الاستثمار العالقة والمحافظة على المال العام من التبذير والنهب. وإذا ما استطاعت تحقيق هذا الهدف، مع تأمين إجراء الانتخابات في التاريخ المحدد لها، تكون قد وضعت البلد على سكة السلام والاستقرار.
المصدر: القدس العربي