لم ينتظر النظام السوري طويلاً هذه المرة قبل الانقلاب على اتفاق أبرمه مع أهالي أحياء منطقة درعا البلد، جنوبي سورية، محاولاً فرض شروط جديدة لإتمام الاتفاق، وهو ما رفضه الوفد الممثل للأهالي الذي عاد للمطالبة بترحيل جماعي لآلاف المدنيين، إما إلى الأردن المجاور، أو الشمال السوري، فيما كان مشهد وصول “الباصات الخضراء” التي لطالما ارتبطت خلال سنوات الثورة بتهجير السوريين من مناطقهم بعد رفضهم للتسويات المجحفة، يشير إلى أن فرص التوصل إلى تفاهمات جديدة شبه معدومة، لتبقى جميع السيناريوهات مفتوحة.
وكشف الناشط الإعلامي أحمد المسالمة، في حديثٍ لـ “العربي الجديد”، أن القلق يسود أحياء درعا البلد، مع انهيار الآمال بتطبيق الاتفاق الذي أعلن عنه قبل أيام، مشيراً إلى أن “الباصات الخضراء” التي اعتاد النظام على تهجير السوريين بها، وصلت صباح أمس السبت إلى مدينة درعا، في خطوة تؤكد نيّته تهجير عدد كبير من سكان درعا البلد. وتوقّع المسالمة خروج الآلاف من المدنيين من منازلهم، خشية من قيام مليشيات النظام بعمليات تصفية ميدانية وانتهاكات واسعة، في حال دخولها أحياء درعا البلد. من جانبه، أشار المتحدث باسم “تجمع أحرار حوران”، أبو محمود الحوراني، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن الحافلات التي دخلت مدينة درعا هدفها نقل النازحين من الأحياء المحاصرة الموجودين في مباني المدارس في درعا المحطة إلى منطقتي إزرع وخربة غزالة، وليست مخصصة لتهجير سكان درعا البلد.
وكان المتحدث الرسمي باسم لجنة درعا المركزية عدنان المسالمة قد أوضح، يوم الأربعاء الماضي، أن الاتفاق المُبرم مع النظام، تحت إشراف روسي، ينص على “الوقف الفوري لإطلاق النار، ودخول دورية للشرطة العسكرية الروسية، وتمركزها في درعا البلد”. كما نصّ على “فتح مركز لتسوية أوضاع المطلوبين وأسلحتهم، ومعاينة هويات الموجودين في درعا البلد لنفي وجود الغرباء، ونشر أربع نقاط أمنية، وفك الطوق عن محيط مدينة درعا، وإعادة عناصر مخفر الشرطة، والبدء بإدخال الخدمات إلى درعا البلد، والعمل على إطلاق سراح المعتقلين وبيان مصير المفقودين بعد مضي خمسة أيام على تطبيق هذا الاتفاق”. لكن النظام السوري عاد وطالب بتسليم السلاح، ونشر تسع نقاط داخل الأحياء السكنية، عند مدرسة القنيطرة والشلال والحرش في حي طريق السد، وعند مبنى البريد وفي مدخل حي الكرك من الجهة الغربية لدرعا البلد، ونقاط أخرى عند دوار الكازية من جهة حي المنشية ومبنى الشبيبة الواقع بقرب حاجز السرايا، ومسجد بلال الحبشي في حي الأربعين، والمسلخ البلدي بدرعا البلد.
ومع انهيار الاتفاق، طالبت لجنة التفاوض عن الأهالي، بتأمين مكان آمن لكل من يرغب بالخروج من مدينة درعا، بحسب المتحدث الرسمي باسم اللجنة، عدنان المسالمة، الذي أكد رفض أهالي درعا البلد وجود نقاط عسكرية داخل الأحياء السكنية، وتسليم جميع الأسلحة الفردية، وموافقتهم على تسوية أوضاع عدد من الشبان.
وحول هذه التطورات، أكدت مصادر مطلعة في درعا لـ “العربي الجديد” أن ضباطاً في قوات النظام وأجهزته الأمنية موالين للجانب الإيراني “أفشلوا الاتفاق”، مشيرة إلى أن قائد الفرقة الرابعة في محافظة درعا اللواء علي محمود، شدد على أن قوات النظام لن تتوقف عند درعا البلد، بل ستصل إلى بلدة طفس في ريف درعا الغربي، وإلى بصرى الشام في ريف درعا الشرقي، معقل أحمد العودة قائد “اللواء الثامن” التابع للجانب الروسي، ضمن “الفيلق الخامس”. مع العلم أن اللواء الذي يضم مئات المقاتلين من أبناء محافظة درعا، لم يتحرك باتجاه تقديم مساعدة عسكرية واضحة للمقاتلين المدافعين في أحياء درعا البلد.
من جانبه، أوضح أحد أعيان درعا البلد، عماد المسالمة، في حديث مع “العربي الجديد”، أن النظام “انقلب مرتين على الاتفاقات”، مضيفاً: وصلنا إلى طريق مسدود بسبب تعنّت النظام. واعتبر أن وفد النظام نقض اتفاق الأربعاء، مشيراً إلى أنه عاد للمطالبة بمائة بندقية ونشر تسع نقاط عسكرية وأمنية، وتفتيش كل المنازل في درعا البلد. وقال: في المقابل طالبنا بتوفير ممر آمن باتجاه الأردن أو الشمال السوري لنحو 20 ألف شخص من أحياء درعا البلد.
ويعاني آلاف المدنيين من تبعات حصار خانق تفرضه قوات النظام ومليشيات تساندها، منذ أكثر من 75 يوماً، متسبباً بأزمة معيشية تكاد تصل إلى حدود الكارثة مع انعدام الدواء والغذاء، فضلاً عن القصف المستمر الذي يؤدي إلى مقتل وإصابة مدنيين.
وتدل الوقائع على أن الأوضاع في درعا البلد، وفي عموم محافظة درعا، مفتوحة على كل الاحتمالات، بما فيها العودة إلى الصدامات العسكرية في أكثر من بلدة، مع انعدام كل السبل للتوصل إلى اتفاق يرضي الأهالي، الذين طالبوا الأردن بفتح حدوده لاستقبالهم. ويضمً الأردن أساساً أكثر من مليون لاجئ سوري، لذا من المستبعد أن يفتح حدوده مرة أخرى أمام لاجئين سوريين جدد. كما بات الشمال السوري مكتظاً بملايين المدنيين، وجلّهم من النازحين من مختلف المناطق في سورية، وسط ظروف معيشية صعبة. ويتكرر الأمر في محافظة إدلب، شمالي غرب سورية، الخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، فضلاً عن كون المنطقة هدفاً دائماً للطيران الروسي، الذي يقتل بشكل دائم مدنيين بحجة “استهداف تنظيمات متطرفة”.
وكان واضحاً منذ البداية عدم جدية النظام في التوصل لحل سياسي للأزمة التي افتعلها في درعا البلد، الخاضعة أصلاً لاتفاق تسوية أشرف عليه الروس في عام 2018، وينصّ على عدم دخول قوات النظام إلى الأحياء السكنية، واحتفاظ مقاتلي المعارضة بسلاحهم الفردي. ويبدو أن تسويات عام 2018 كانت خطوة باتجاه عودة قوات النظام والأجهزة الأمنية لاحقاً إلى كل المدن والبلدات في محافظة درعا، كما كان عليه الوضع قبيل انطلاق الثورة السورية في ربيع عام 2011. ويريد النظام فرض سيطرة كاملة على المحافظة لأسباب عدة، بعدما كانت السبّاقة إلى إعلان الثورة عليه في مارس/آذار 2011، مع خروج معظم مناطقها عن سيطرته.
كما يريد النظام وضع يده على الجنوب السوري برمّته والقضاء على معارضيه، في ظل حديث عن محاولة لبنانية لاستجرار غاز من مصر من خلال إحياء مشروع خط الغاز العربي الممتد من مصر مروراً بالأردن وسورية وصولاً إلى ميناء مدينة طرابلس في شمال لبنان. ويرى الباحث السياسي في مركز “الحوار السوري” محمد سالم، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “النظام يحاول استعادة السيطرة على عموم سورية، في إطار سياسة ثابتة معتمدة لديه، ولا يريد أي حل سياسي لأنه يؤدي إلى انهياره. ويشير إلى أن لدرعا رمزية عالية لدى الشارع السوري المعارض، والنظام يريد إجهاض الثورة في سورية بشكل كامل. ويرى سالم أن إيران “تريد تهجير كل الكتلة المعارضة للنظام في جنوب سورية، لاستكمال مخطط التغيير الديمغرافي الذي تقوم به في عدة مناطق سورية ذات مواقع جغرافية مهمة”.
المصدر: العربي الجديد