ليست عمليات الانسحاب الفوضوية للولايات المتحدة استثناءً، بل هي القاعدة السائدة في الشرق الأوسط الأوسع. فمن الأمور المُلفتة في الانسحاب الأميركي من أفغانستان أن الكثير من الأميركيين قاربوا الحدث انطلاقًا من مفهوم الاستثناء الأميركي الذي يتفاخرون به. فالرسالة الضمنية، والصريحة أحيانًا، هي أن تخلّي الولايات المتحدة المُباغِت عن عشرات آلاف الأفغان الذين كانوا يعملون معها يُعدّ حدثًا مخجلًا في سجل دولة لا تسوّل لها معاييرها الأخلاقية الرفيعة أفعالًا كهذه.
وقد حدا هذا التفكير ببعض قدامى المحاربين الأميركيين إلى السعي من أجل نقل زملاء ومتعاونين أفغان سابقين إلى الولايات المتحدة. وكان حجم عمليات الإجلاء ملحوظًا أيضًا، إذ نُقل 114,000 شخص من كابل في غضون أسبوعين فقط. لكن، وباستثناء هذه الأمثلة المشجعة، سيُترك عشرات آلاف الأفغان في بلادهم ليواجهوا عواقب الانسحاب الأميركي.
لكن هذا الأمر لا ينبغي أن يشكّل مفاجأة لأحد. فالولايات المتحدة انسحبت مرارًا وتكرارًا من النزاعات في الشرق الأوسط الأوسع، متخليةً عن السكان المحليين الذين يعتمدون عليها. لكنها لا تزال تعوّل على سمعتها كدولة حافظت على وجود عسكري لها في أوروبا بعد العام 1945 من أجل ردع الاتحاد السوفياتي وصون ديمقراطية القارة الأوروبية. مع ذلك، تشكّل الالتزامات الأميركية الطويلة المدى في الدول الاستثناء لا القاعدة في السلوك الأميركي عمومًا.
ففي شهر شباط/فبراير 1984، انسحبت قوات المشاة البحرية الأميركية التي كانت جزءًا من بعثة حفظ السلام المتعددة الجنسيات من بيروت، فيما كان الجيش اللبناني يحارب الميليشيات المدعومة من سورية. وقد شعر الرئيس رونالد ريغان آنذاك بالرمزية السلبية التي تنطوي عليها مغادرة البلاد، فكذب للحفاظ على ماء الوجه، قائلًا: “لا أعتقد أننا خسرنا بعد، لكنني أدرك أن الأمور تبدو قاتمة”. وأضاف: “ما دامت هناك فرصة، فلن ننسحب، بل ننوي إعادة الانتشار والتموضع في موقع دفاعي أكثر”. لكن للذين كانوا يعيشون في بيروت آنذاك، عنت عودة قوات البحرية الأميركية إلى سفنها قبالة الشواطئ اللبنانية أن الولايات المتحدة تغادر البلاد على عجل.
يُضاف إلى ذلك ما فعله الأميركيون في أفغانستان في أعقاب الانسحاب السوفياتي في شباط/فبراير 1989. فبعد أن زوّدت الولايات المتحدة المجاهدين بالأسلحة لمحاربة الاتحاد السوفياتي، وقفت مكتوفة الأيدي بعد مغادرة القوات السوفياتية أفغانستان، ولم تحرّك ساكنًا لتجنّب انزلاق البلاد نحو الفوضى. لم يكن من المطلوب، ولا من الضروري، أن يؤدي ذلك إلى تدخل عسكري أميركي في البلاد، لكن كان من المحبّذ لو أن واشنطن قرّرت إطلاق مبادرة دبلوماسية دولية من أجل إرساء الاستقرار هناك. أما ما حدث فكان بروز نجم حركة طالبان، متبوعًا بعودة أسامة بن لادن إلى أفغانستان بعد طرده من السودان، ما أسفر عن تداعيات بعيدة المدى.
ثم ازدادت الأوضاع سوءًا في العام 1991، حين دفع التحالف الدولي القوات العراقية إلى الخروج من الكويت. وكان الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الأب يحث الشعب العراقي على الإطاحة بنظام صدام حسين. ففي خطاب ألقاه في بلدة أندوفر في ماساتشوستس، قال بوش: “ثمة طريقة أخرى لوقف إراقة الدماء، وهي أن يتسلّم كلٌّ من الجيش العراقي والشعب العراقي زمام الأمور وأن يُرغما الدكتاتور صدام حسين على التنحي”. لكن، حين انتفض الشيعة والأكراد ضد نظام البعث في آذار/مارس 1991، وقفت واشنطن مجدّدًا مكتوفة الأيدي فيما شنّت القوات العراقية حملة بقيادة علي حسن المجيد، ابن عم صدام حسين، لسحق الانتفاضة.
يعيدنا كل ذلك بالذاكرة إلى حدث يعتبره الأميركيون تجسيدًا للتخلي المهين، وهو انسحاب الولايات المتحدة من سايغون في نيسان/أبريل 1975. وفي كتاب ينتقد الإجراءات الأميركية، حمّل العميل في وكالة الاستخبارات المركزية فرانك سنيب، كلًّا من وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر وسفير الولايات المتحدة في سايغون غراهام مارتن مسؤولية فشل التحضير لعملية الإجلاء، لاعتقادهما بأن ذلك كان ليقوّض حكومة فيتنام الجنوبية. لذا، حين سقطت سايغون، تُرك الكثير من الفيتناميين الذين عملوا مع الأميركيين لمواجهة مصيرهم، ووقعوا في أيدي الشيوعيين.
يُلقي كتاب سنيب، الذي يحمل عنوان Decent Interval (المهلة الزمنية اللائقة)، الضوء على التفكير الاستهزائي الأميركي. ويشير إلى أنه لو انقضت مهلة زمنية لائقة بين اللحظة التي قررت فيها الولايات المتحدة التخلي عن حلفائها الفيتناميين الجنوبيين وبين هزيمتهم أمام أعدائهم، لكان الوضع مقبولًا. وينطبق المنطق نفسه على حالة أفغانستان. ففي واشنطن، لم يعتقد أحد بإمكانية إلحاق الهزيمة بطالبان، لكن لو تمكنت الحكومة الأفغانية من الصمود فترة كافية ريثما يكون الناس قد نسوا إخفاقات الولايات المتحدة، لنجت إدارة بايدن بفعلتها هذه.
لكن ما الذي يفسّر ميل الولايات المتحدة إلى التخلّي عن أصدقائها؟ حقيقة أن الكثير من هذه الأحداث وقعت في الشرق الأوسط الأوسع تدفع إلى الافتراض بأن الأميركيين هم أكثر استعدادًا للتضحية بالشعوب التي لا تجمعهم معها روابط ثقافية كبيرة. وتكتسب وجهة النظر هذه المزيد من المصداقية عند سماع بعض الأميركيين يطالبون بمنع الأفغان الهاربين الذين ساعدوا الولايات المتحدة من دخول أراضيها. لكن الأميركيين، حتى في أوساط الجمهوريين، منقسمون حول هذه المسألة، لذا يبدو من غير الدقيق اختزال كل شيء في هذا الشرح.
غالب الظن أن الأمور أبسط من ذلك. فخلال أي صراع محبط، يعمد المسؤولون الأميركيون في مرحلة معينة باحتساب التكاليف والمكاسب، قبل أن يرجّحوا الكفّة لصالح الانسحاب إلى الجزيرة الأميركية. في هذا المنطق، تؤدي السياسات الداخلية والدوافع الانعزالية دورًا مهمًا. لكن هذا يفترض أن الأميركيين يتحركون وفقًا لما تمليه عليهم مصالحهم، لأن هذا ما يقتضيه تقييم التكاليف والمكاسب. مع ذلك، سواء في بيروت في 1984، أو أفغانستان بعد 1989، أو العراق في 1991، بدا جليًا أن الأميركيين عمومًا دفعوا أكلافًا باهظة ثمن سوء إدارتهم لعمليات الانسحاب. وهذا لم يحقّق مصالحهم البتّة.
فقد دفع الانسحاب من بيروت الكثير من خصوم أميركا، ومن بينهم أسامة بن لادن، إلى الاعتقاد بأنها تعاني من نقطة ضعف أساسية، وأتاح لإيران وسورية استخدام لبنان كقاعدة للوقوف في وجه المصالح الإقليمية لواشنطن وحلفائها. لقد سبّب قرار السماح لصدام حسين بالبقاء في السلطة والقضاء على أعدائه مشاكل لإدارة كلينتون، ما دفع إدارة جورج بوش الابن لاحقًا إلى غزو البلاد والإطاحة بالرئيس العراقي. ويصف الكثير من الأميركيين هذه الحصيلة بالكارثة التامة. يُضاف إلى ذلك أن عدم اهتمام واشنطن بشؤون أفغانستان بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي سمح لأسامة بن لادن باستخدام البلاد كقاعدة لشنّ هجمات مدمّرة على الولايات المتحدة في العام 2001.
بعبارة أخرى، قد يتمتع الأميركيون بالمهارة اللازمة لاحتساب التكاليف والمكاسب الفورية، لكنهم أقل براعةً في توقّع العواقب المحتملة لأفعالهم في المستقبل. فيبقى خارج المعادلة للأسف مصير الأشخاص الذين يضعون ثقتهم في أميركا. وهذه مسألة تستحق النظر إليها عن كثب. ففيما يزداد عدد الأشخاص المتضررين من القرارات الأميركية، ويواصل الأميركيون تبرير أفعالهم في إطار التفوّق الأخلاقي الباهر، قد تواجه واشنطن صعوبة أكبر في العثور على حلفاء مخلصين.
كتب مكيافلي أن “على الأمير أن يكون محبوبًا ومُهابًا. لكن إذا تعذّر تحقيق الحالتين معًا، فمن الأفضل أن يكون مُهابًا”. لكن استعداد الأميركيين للانسحاب من الدول والتخلّي عن حلفائهم حين تزداد الأوضاع صعوبةً يشير إلى أن احتمالًا مدمّرًا قد يطرأ، وهو أن يصبحوا لا محبوبين ولا مُهابين. ولا يمكن لأي قوة عظمى في العالم تحمّل ذلك لفترة طويلة.
المصدر: مركز مالكولم كير- كارنيغي للشرق الأوسط