يمر التاريخ الوطني السوري في مرحلة اختبار عسير، يتساءل المواطن خلالها بخوف وقلق عن البدائل الراهنة، المفروضة والمرفوضة مع حالة الانزياح والانحراف، التي يئن تحت وطأتها مشروع الحل السياسي الغائب المغيّب. الشعب ينزف وسورية تُدمر والتآكل يشمل الحاضر والمستقبل… ولا يطول الأسد ومواقفه الكلامية من ذلك الفتك شيئاً فالشعب ضحية وشباب الوطن ذبائح يصيح لانسكاب دمها الأسد مهللاً: شهداء الوطن وكأنه حرر الجولان
لقد روى الدم السوري كل شبر من أرض سورية، ومنذ عشرسنوات ونيِّفٍ وهو يسيل، ووقع العبء على مناطق أكثر من مناطق، ودفع المهجرون المشردون ثمناً لم يدفعه المستقرون في بيت من بيوت الوطن، ودُمِّر من البلد ما لا يُحصى عدداً، ولا يقدَّر تكاليف… وأسوأ ما وصلت إليه سورية أن تجذَّرت الفتنة، وأُعليت لها رايات، وأصبح الاقتتال طائفيا كما خطط له بشار الأسد وأراده أن يكون في كثير من الحالات… نقول هذا وقد تحاشيناه طويلاً، وأدمى قلوبنا كثيراً، لا يوجد نوايا طيبة للأسف، ولا يوجد حس أخلاقي ، ولا يوجد شعور بالمسؤولية، رفيعٌ ومترفِّع.. انفلت الوحش الأسدي ، فتداخلت الأحكام والأفعال والأقوال، سيئها وحسنها… وإذ يبدأ العدوان فإنه يستدعي العدوان، ويبقى البادئ أظلم، ومن ثم يأخذ الوضع قاعدة “الفعل ورد الفعل”، بصرف النظر عن الكمية والكيفية… حتى الرقم يغدو بلا قيمة، لأن الوحش الذي انطلق لم يعد يشعر بمعنى الكم ولا بمدار الكيف، فكل ما يهمه هو أن يقتل… والدم ينادي الدم، والكل يقتل، من تحت الطاولة ومن فوقها، والكل مع حلفائه، يهيئ للحرب، وتستمر المعارك هنا وهناك، والدم السوري واحد، ولكنه يسيل في كل الحالات والأماكن والأوقات… القتل – الموت – الإبادة – الإفناء دروس الواقع هي التي تحمل مصداقية…
إن بشار الأسد وعصابته هم المسؤولون عن الدم والدمار وعما أصاب البلد والشعب من مآسٍ وخراب وموت، سواء بالقتل أو بالأمر به وبالتحريض والحض عليه، وبرفض العقل والمنطق والحلول السياسية السلمية، وبالبقاء قيد المراوغة والاستعداء والتملص وتبادل الاتهام والسعي إلى امتلاك القوة واستخدامها وصولاً إلى حسم للصراع بالقوة المسلحة… وكل ذلك أتى على سورية الوطن والدولة وعلى الكثير من مكونات قدراتها ومكانتها وهويتها وهيبتها ومستقبل أبنائها.
التملص لن يفيد الأسد وشبيحته سواء أكان يقاتل في خندق أو من جدار وحاجز أو ستار، أو يقاتل في فندق من وراء البحار… فإنه مسؤول بدرجة ما عن الدم والدمار وعما آل إليه وضع البلد وحال الناس… ذلك لأن عليه، وهو يتنطع لقضية وطن وشعب، أن يضع مصلحة الشعب والوطن فوق كل اعتبار، وإلا فما هو الفرق بين قتلٍ وقتلٍ وقاتلٍ وقاتلٍ، وبين ظلم وظلم وظالم وظالم؟!
أنا لا أسأل أيًّا من االسوريين المعنيين اليوم بالأزمة وتفاصيلها ومآلاتها، وعما أسفرت عنه المواجهات الدامية أو ستسفر عنه من خسائر ومآسٍ، فتلك مهمة ومسؤولية على الجهات الدولية المعنية أن تقوم بها، عندما يستقر الوضع بنزاهة ووفق معايير وقيم وقوانين… بل أقول لكل من أولئك إنك مسؤول عما جرى بقدر مشاركتك ومسؤوليتك فيه وعن استمرار القتل والهدم، مسؤول بعدم التضحية وبعدم الميل إلى الحلول التي تحقن الدم وتبقي الوطن وتحفظ المواطن بأمن وكرامة… ومن ثم فأنت مسؤول بدرجة ما عن الدم والدمار، ويجب أن تتوقف عن السير في طرق التهلكة هذا، وتدع ما تبقى من الشعب ومن الوطن إلى شيء من الوعي والعقل والحكمة والمسؤولية
كل مؤيد للأسد معني وعليه أن يترك للشعب فرصة أن يلملم جراحه، وعليه هو أن يتوقف عن القتل والاقتتال والتحريض عليهما وأن يلت يديه بالتراب بانتظار الحساب لا أن يغسلهما فلا مغتسل من الدم والإثم والجرم في وطن دفع الكثير الكثير وما زال يدفع وسيدفع
لا يوجد منتصر في حرب سورية الشعب والقيم والهوية، الكل مهزوم، والكل خاسر… ولا انتصار، بأي حال وبأي شكل، وبأي طعم، وأي لون، حتى لو أباد فريق فريقاً آخر، في نهاية المطاف… ففي حرب يقتَل فيها أبناء البلد، ويدمر فيها الوطن، ويُهَجَّر أو يَنزح نصفُ الشعب، ويعيش كله المهانة وحياةً هي الموت، بل أفضل منها الموت… في مثل هكذا حرب في الوطن وعلى الوطن… لا يوجد نصرٌ ولا يوجد منتصر، والنصر الوحيد في مثل هذه الحالة رحيل المجرم بشار الأسد ووقف الحرب، ولجم الجنون والمجانين.
من يَقتل اليوم هو عدو الشعب والدين والهوية وهو الخاسر، وفعله الخسران، حتى لو كان واثقاً من “عدالة” ما يفعل، ومقتنعاً بأنه يرد على القتل بالقتل، ويدفع عن نفسه القتل بالقتل. وحين ندقق أكثر، ونفكر أعمق، ونستبطن ذواتنا بموضوعية ومسؤولية أخلاقية ووطنية وإنسانية، نجد أن الجميع مسؤول بدرجات، وعلى خطأ في الاختيار والمسار والمآل… وسنكتشف أن من يحرك القَتَلَة والقتال في أرض سورية وبين جموعها، ومَن يسوِّغ ذلك ويشارك فيه، ويدفع إلى المزيد منه، هو العدو الحقيقي للسوريين جميعاً، مهما تلون، وتقلب، وتقرب… وأنه إذ يمعن في قتل االسوريين اليوم وفي إشعال النار بالبلد والشعب… لا يخسر شيئاً، بل يربح، إذ يبيع ويشتري بالسوريين… بدمهم وبمستقبل أجيالهم، ومستقبل الوطن.
إنه الإيراني والروسي و يده الطُّولى في البلاد وفوق رقاب العباد، وإنه الجهل، والحقد، والعمى بأشكاله وألوانه، والعتَه، الذي يصيب البعض من السوريين، فينقلب أظفاراً ومخالب وأنياباً سامة ضد سورية… إن عدو سورية يستخدم قدراته وأدواته، لكي يكون ولا نكون. وهو الذي يَقتل اليوم ويكرس مناطق نفوذ له، يتقاسمها مع أنداده بالقوة والسطوة والشراكة في استباحة سورية والسوريين ، وهو يحقق مصالح خاصة فقط، واستراتيجيات بعيدة المدى، خاصة به هي الأخرى، من دون مسؤولية سياسية، أو أخلاقية، أو إنسانية، مما يفرضه عليه، أو يُفتَرَض فيه أن يَفرض نفسه عليه، بوصفه قوة دولية تتمتع بقدرات، وطاقات، ونفوذٍ، وحقوق ليست للآخرين، وهو، مع شركائه، يعيد رسم خريطة سورية، لتكون فُتات: مناطق، وطوائف، وأقليات، ويوحي بامتيازات لجهات وفئات، تعود لعصر الاستعمار المباشر، الذي دحرته بلدان المنطقة، ومنها سورية بالدم والتضحيات الجسام… ويقوم بوضع الحلول السياسية، يفرضها حسب الطلب، ويجمدها حسب الطلب
وإنه لمشروع حل سياسي عجيب، يُصاغ من خلال التواطؤ مع الشركاء الدوليين الكبار، تحت لافتة أشخاص ينتقيهم الشركاء، وأصحاب المشروع، ممن يلوذون بهم، والثابت لدينا، أنه لا يوجد قرار سوري خالص لمصلحة البلد والشعب، وبإرادة تامة غير محكومة بعوامل وضرورات وحقائق واستحقاقات… إذ كل معطيات القرار ومخرجاته محكومة بظروف، ومعطيات، وحسابات، خارجة عن الإرادة السورية الخالصة، ومدخولة بإرادة هذا الطرف أو ذاك، ممن أصبحوا يسيطرون على البلد، وعلى المتحاربين فيها، ويختارون لها من يشكل هيكلها، وصورتها، وشخصيتها، ومستقبلها، ويقررون من هم أصحاب الأهلية والمسؤولية فيها…
إن توالي الأحداث المروِّعة، وفتح الصراع الأسدي على مصراعيه، والانخراط أكثر فأكثر في الدموية والثارات والعنتريات، والحلول العسكرية… هو عمليًّا ترسيخ لحالة عداء أزمن، “عشر سنوات”، وسيزمن، بفعل عوامل كثيرة… وذاك حال لا يلتئم معه جرح الوطن، ولا يكف معه قلب الشعب عن النزف، ولا يصلح معه من بعد حال، ولا تجتمع كلمة، لا سيما وهو يفتح أبواب التدخل الخارجي بأكثر مما هي مفتوحة، ويحيج الأطراف المعنية بالصراع الدموي إلى الأطراف الخارجية… ولا يمكن تغيير هذا الحال، ولو جزئيًّا، إلا بتغيير ذاتي يبدأ من السوريين، على أن يكون تغييراً جذريًّا في أعماقهم، في النفس والعقل والقلب، في السلوك والنوايا والمواقف، وبكل ما يتصل بالأفكار والأحكام والنزع، والنظرة إلى الآخر، بوصفه شريكاً في الوطن والقرار والمصير
ولهذا تتطلع جماهير الشعب السوري اليوم، بل تطالب بالحسم في وجه الأسد وعصابته والمترددين والمتخاذلين الذين ينتظرون التوازنات والإشارات، وبعدم التساهل مع هؤلاء وداعميهم. فلا تسامح مع من يظن أن الأمن الوطني السوري ليس خطاً أحمر، ولا حتى مع من يتريّث لينتهز النتيجة الواضحة مسبقاً. فالموقف الرمادي مرفوض لأنه رديف الضعف والانهزام والخيانة والرهان على أعداء الشعب والأمة.
الدولُ التي تحترم نفسها وشعوبها، تبني جيوشا محترفة تتفرّغ لمهامها الدستورية في حماية الأوطان من أيّ خطر خارجي، وترفض أن تكون أداة قمع في أيدي الحكام المستبدّين، ولا تتردّد في الانحياز إلى شعوبها، وحماية خياراتها الحرّة، ولا تتدخّل في صراعات السياسيين على الحكم إلا بالقدر الذي يحفظ الديمقراطية في البلاد، ويضع حدّا لكل مستبدّ مصابٍ بجنون العظمة يرغب في احتكار السلطة رغم إجرامه
المصدر: سوريا الأمل