انتصرت حركة طالبان في أفغانستان قبل نهاية موعد رحيل الجنود الأميركان في 11 الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول). بين ليلة وضحاها، اكتسحت أكثر من نصف البلاد، ما يشير إلى أن نظام أشرف غني كان فاسداً ومرفوضاً شعبياً، وليس قابلاً للاستمرار. انتهت المفاوضات السابقة بين ممثلي نظام غني و”طالبان”. والآن ستكون المفاوضات وفقاً للمشيئة الطالبانية، والتي ستميل إلى تخصيص مناصب وإدارات في النظام الإسلامي الجديد لخصومها، وبما لا يتناقض مع رؤاها للحكم والمجتمع وللحياة كافة؛ وربما تستبعدهم نهائياً، وتشكّل حكومة تكنوقراط، بإشرافها، وهذا سيكون ضرورياً، حيث تراقب دول العالم أية خطوات ستقدم عليها الحركة، وتطلق التحذيرات والاشتراطات لقبول سيطرتها على الحكم من جديد.
هل تغيرت رؤى طالبان، عما كانت عليها حينما حكمت في التسعينيات؟ تصريحات قادتها، منذ بدأت تكتسح المدن، وعلى أبواب كابول، تقول إن الحركة ستغيّر من شكل حكمها وإدارتها، وإنها تدرك أن أميركا التي قرّرت الانسحاب من أكثر من مكان في العالم تبتغي ترك أفغانستان تتدهور بسرعة، تبتغي إشعال حرب أهلية جديدة، وتوريط الدول المجاورة لأفغانستان في معارك كارثية.
تعلن دول عديدة، ومنها أميركا، أن على “طالبان” ألا تبني نظاماً إسلامياً دموياً، وأنها لن تدعمه في حال عاد إلى ممارسات منافية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة، وللحريات بعامة. طبعاً، لا يمكن أن تتقدّم “طالبان” بكل تلك السرعة، ومن دون أن تجري توافقات مع أميركا وروسيا وباكستان بشكل رئيسي، وسنقرأ عنها في مقتبل الأيام. العالم الآن مشغول كثيراً بالتساؤل عن مستقبل أفغانستان، والرأي المهيمن أن “طالبان” لن تخرج عن نهجها القديم، وحتى كثرة من الإسلاميين يؤكّدون الرأي ذاته. قلة ترى أن الحركة لم تعد شابة، ومشغولة بتطبيق مبادئ محفوظة عن ظهر غيب، ومن علوم قديمة. لا، لا، الحركة تعي نقاط ضعفها، سواء التي شابت تجربتها السابقة، ودمويتها، وسواء الهشاشة الشديدة التي تعاني منها أفغانستان، وما فعلته الحروب الأهلية والاحتلالات. وللإنصاف، لم تشهد معارك “طالبان” الأخيرة دماراً أو قتلاً أو انتهاكات تذكر. الفكرة الأخيرة، ربما ستساهم في البحث عن نظامٍ توافقي بهيمنة طالبانية، وتخفّف من سطوة الأخيرة، وتدفع بها إلى الواقعية أكثر فأكثر، والبحث عن مشروع سياسي للنهوض بهذا البلد المنكوب عقودا متتالية.
لن نناقش حصيلة الاحتلال الأميركي؛ حيث وظيفة الاحتلال الدمار والتخريب والنهب. الاحتلال الأميركي يؤكد أنه دفع تريليوني دولار، ولكن: أين هي المشاريع الاقتصادية والاجتماعية التي نهضت بأفغانستان. الأموال كانت لصالح إدارة شؤون الاحتلال، والسجون، وتقوية نظام الحكم التابع لها، لكنها لم تنهض بزراعة أو مشاريع صناعية. أفغانستان وقعت تحت الاحتلال المباشر، عشرين عاماً، وخرجت بخفّي حنين. هذا هو السبب الذي سهل على “طالبان” السيطرة السريعة، وهو ذاته ما دفع الجيش الأفغاني إلى أن يتبخّر، فليس من معركة وطنية يخوضها، وهو موصوم بعمالته للاحتلال، ولا أحد يحترمه، والنظام السياسي الذي كان يسيطر عليه فاسدون، وأمراء حرب، وبالتالي ليس من قضية يقاتلون من أجلها. استسلموا بالآلاف، وهرب بعضهم إلى الدول المحيطة، أو تركوا أسلحتهم وتبخروا.
شكّل تماسك حركة طالبان، وانضباط سلوك أفرادها، وندرة الممارسات العنيفة، وهي تفرض سلطتها على المدن والأقاليم، سبباً مركزياً لسلاسة تلك السيطرة. لا تتحرّك وفقاً لهذه الممارسات تلقائياً، تتحرّك وفقاً لمراجعاتٍ قامت بها، وتفيد، ووفقاً للوقائع التي نتحدّث عنها، بأنها ساعية إلى السلطة، ولإدارتها بشكلٍ يجذب إليها الأفغان، ويعطي تطميناتٍ كبرى للدول المحيطة بهذا البلد وللعالم. تقول “طالبان” إنها مع حقوق المرأة في التعليم والعمل والتنقل، شريطة أن تضع حجاباً، وليتابع أهل البلاد شؤونهم وحياتهم السابقة ومن دون أيّة تعقيدات، وهي ستحمي البعثات الدبلوماسية، والأقليات، وسوى ذلك.
ينتظر العالم الآن كيف سيكون شكل الحكم؟ هنا الورطة الحقيقية، حيث لم تفصح “طالبان” بدقة عن ذلك الشكل، وما زال طي الكتمان. وأميل إلى القول إنه سيكون نتاج مفاوضاتٍ مع أطرافٍ عديدة من الأفغان من غير الموالين للحركة وبإشراف أميركي. كان شكل الحكم زمن الاحتلال الأميركي “ديموقراطياً”، فكيف ستوافق عليه الآن، وهو الشكل الوحيد الذي سيتيح لها الاعتراف العالمي، ربما باستثناء باكستان وروسيا والصين. طبعاً سيتم التعامل معها، ولكن الاعتراف الأمني لا يكفي، فهناك العلاقات الاقتصادية والسياسية، والمراقبة الحقوقية العالمية على الدستور والقوانين وأشكال السيطرة على المجتمع، وفي المعتقلات، وسوى هذا كله كثير.
أفغانستان محاطة بدول لا تبالي كثيراً بالديموقراطية، ولكن تلك بدورها لا تستهدف النهوض بأفغانستان، كالصين وروسيا، بل تبتغي تحقيق مصالحها، ومنها توثيق العلاقة مع حركة طالبان، لكيلا تتحوّل أفغانستان إلى أرضٍ للتنظيمات الجهادية والعبور إلى الصين أو الجمهوريات في آسيا الوسطى والوصول إلى الأراضي الروسية. وهذه القضية تعيها جيداً “طالبان”، وتعي أن الغرب هو من سيتابع الأوضاع في هذا البلد، وأن أمراء الحرب السابقين أو شخصيات النظام القديم مرتبطة بالغرب وليس بروسيا أو الصين، ومصالح أميركا والاتحاد الأوروبي تستدعي بيئة “ديموقراطية” بحدود معينة. مصلحة “طالبان” وهي تعتلي سدة الحكم أن تبني نظاماً ديموقراطياً، ووطنياً، وألا تتهاون بدرجة كبيرة مع الفاسدين، وأن تبعدهم عن الاشتراك في الحكم. ذكرت أن “طالبان” ستفكر ملياً في حكومة تكنوقراط، ولكن أيضاً يفترض أن تبحث عن شكل للحكم، لا يتناقض مع الديموقراطية أيضاً، وهذا سيكون معقداً للغاية. القضية ليست سهلة أبداً، سيما على حركة جهادية، لكنها مسألة مطروحة عليها، ومنذ أن طُردت من الحكم، وتمّ العمل بالآليات الديموقراطية من ناحية أخرى.
قضايا حركة طالبان الآن هي قضايا بناء الدولة من جديد. فرضت سيطرتها على كامل البلاد، والآن عليها أن تنهض بكل الأقاليم. من السهولة الوصول إلى الحكم، ولكن الصعوبة تكمن في كيفية إدارة شؤونه. النظام السابق فشل في ذلك النهوض، وكان لخدمة مصالح الاحتلال الأميركي، فهل تستطيع “طالبان” تشكيل رؤية، لا تناقض العالم الخارجي، وتستجيب لمصالح الشعب الأفغاني، الخائف بشدّة من وصولها إلى الحكم. مشهد الآلاف في مطار كابول، وهم يلوذون بالفرار من “طالبان”، توازيه ملايين أخرى في أفغانستان اليوم. “طالبان” مطالبة برؤية سياسية تتجاوز منظورها الجهادي والإسلامي، وغير ذلك، فلن تكون أكثر إمارة منبوذة، كما حينما كانت في الحكم بين 1996-2001.
المصدر: العربي الجديد