غادرت كثير من العائلات منازلها في مدينة دير الزور بعد أن باعت ما تملك للحصول على ثمن الرحلة نحو المجهول، لتصبح حالة الاستعداد لمغادرة دائرة الموت البطيء المذِل الذي أثقل كاهل أهلها؛ ظاهرة من الظواهر الحاضرة.
وهو قرار اتخذه كثيرون مؤخراً من أبناء مدينة دير الزور بعد قناعتهم بأن أي مكان سيكون أفضل من الواقع المعيشي المنهار في المدينة التي استمرت فيها حرب النظام ضد شعبه لأكثر من 5 سنوات. فمهما كان الثمن ومهما كانت نتيجة هذا القرار، هو بكل الأحوال لن يكون أسوأ من البقاء.
حملة كبيرة على صفحات (الفيس بوك)، المختصة في البيع والشراء تحديداً، وفي السوق المحلي أيضاً، لبيع المنازل -لمن يملك منزلاً-، وبيع الأثاث المنزلي، بأسعار بخسة تدل على حجم الاستعجال وحجم المعاناة والغم والأسى التي تجثم على قلوب المهاجرين.
عوائل كثيرة وبالجملة تستعد للرحيل، تعرض أثاثها المنزلي للبيع، طمعاً بالخروج من دون عودة، وطمعاً ببعض المال الذي قد يُعين على بعض الطريق، طريق الهجرة المحفوف بالمخاطر المجهولة والمعلومة.
تحدثت عوائل تستعد للمغادرة لموقع تلفزيون سوريا، وأوضحت حقيقة الواقع المعيشي المأساوي في مدينة دير الزور.
بيع الأثاث في دير الزور مر بمراحل عدة، بدأ في نهاية عام 2017 عندما دخلت قوات النظام بدعم من روسيا والميليشيات الإيرانية إلى المدينة بعد هزيمة “تنظيم الدولة”، واجتياح هذه القوات للمنازل وسرقة (تعفيش) محتوياتها، ثم بدأت هذه القوات ببيع الأثاث “المُعفَّش” للأهالي بأقل من ربع قيمته السوقية، والذي استفاد من هذا الأمر -في الغالب- هم المقيمون في منطقة النظام في حيي الجورة والقصور، أي المنطقة التي كانت محاصرة من قبل التنظيم.
كما أن كثيرا من عساكر النظام “المُعفِّشين”، كانوا يتفقون مع بعض التجار من الضباط وعناصره، على تفريغ شحنات الأثاث لديهم في مخازنهم، وبيعها لهم بالجملة، ثم يقوم هذا التاجر بفرزها وعرضها للبيع بالمفرّق.
ثم بدأ هذا الأثاث يدور بين الأهالي من شخص إلى آخر عن طريق البيع والشراء، وبما أنه لم يكن هناك أثاث جديد يدخل إلى المدينة، بات هذا الأثاث الخيار الوحيد لمن عاد أو أراد أن يعيش في المدينة.
أسعار مفروشات المنازل ومستلزماته
وباعتباره الخيار الوحيد الذي كان يدور بين الناس، بدأ سعره يرتفع حكماً، حتى وصل إلى أسعار خيالية، حيث وصل سعر الغسالة المستعملة لـ 600 ألف ليرة، والبرَّاد المستعمل لـ 800 ألف ليرة، والمكيف والشاشة تخطى سعر كلٍ منهما المليون.
أما اليوم، فقد هبطت هذه الأسعار بشكل كبير لأقل من النصف وأحياناً لربع الثمن السابق، وصار السوق المحلي يغص بها، وربما نستطيع أن نعزو الأمر لسببين أساسيين:
أولاً: استعجال أصحابها في البيع لأن كل يوم أسوأ من سابقه
ثانياً: عدم وجود السيولة المالية التي ترفع مستوى السوق عند البقية الباقين في ديارهم، وكما يقال (الجمَل بليرة وما في ليرة)، فقد أصبح الهم الأول للمواطن هو لقمة الطعام.
انعدام أدنى مقومات الحياة في مدينة دير الزور
وعند سؤالنا لأحد أرباب الأسر العازمة على الرحيل عن سبب بيعه لأثاث منزله المستأجَر وعزمه هذا، أجاب: “الأحوال من سيئ إلى أسوأ، لم يعد بمقدوري إطعام أولادي فالأسعار بصعود دائم والرواتب لا تكفي ليومين، تحصيل ربطة الخبز صار يحتاج لحظٍ وافر”.
وأضاف: “لا كهرباء ولا غاز، الشتاء على الأبواب ولا يوجد مازوت.. وإن وجد ليس بمقدوري شراؤه”.
وأشار إلى أن “ما يخيفني أكثر من هذا كله هو الوضع الأمني المرعب، إني أخاف على نفسي وعائلتي من الاعتقال وبطش فروع الأمن وعناصر الميليشيات المنتشرة في كل شارع، هؤلاء حتى الشرطة المسلحة التابعة للنظام تخاف منهم”.
وأكد أنه لا يهتم للوجهة التي سيذهب إليها، بقدر ما يهمه “الخروج سالماً من هذه الغابة، فلم نعد نطيق هذه الحياة”.
وما ذكره محدثنا هو جزء من الأهوال التي يعيشها الأهالي، فمن خلال جولة على الأسواق المحلية والاطلاع على أسعار الطعام واللباس والدواء ومتطلبات الحياة بشكل عام، ستتوضح أكثر حجم وأبعاد الكارثة، بغض النظر عن الوقائع الاجتماعية الأخرى.
أسعار المواد الغذائية والمستلزمات المعيشية
وصل سعر كيلو البطاطا لـ 800 ليرة، وكيلو البندورة لـ 900 ليرة، وكيلو البصل لـ 500 ليرة، أما البامية “محبوبة الديريين” وصل سعر الكيلو لـ 1800 ليرة وهي في موطنها الأصلي، فكيف بها إن شُحنت إلى مدينة أخرى؟
لا ترى في أسواق المدينة الكثير من الحلويات المعروضة كونها رفاهية كبيرة لا يقوى عليها النسبة الساحقة من الأهالي، حيث يبلغ سعر كيلو البقلاوة 7000 ليرة سورية بالسمن النباتي وليس الحيواني.
وبالحديث عن السمن النباتي، فسعر علبة السمن بوزن 2 كغ وصل لـ 17 ألف ليرة، وبالنسبة إلى صندويشة الفلافل “أكلة الدرويش” وصل سعرها لـ 1200 ليرة.
وبإجراء حساب بسيط بالنسبة لعائلة مكونة من 5 أشخاص تعيش الشهر كله على “الفلافل” من دون أي شيء آخر، ولكل شخص صندويشة واحدة فقط في اليوم، هي فطوره وغداؤه وعشاؤه، ستحتاج هذه العائلة إلى 180 ألف ليرة سورية في الشهر.
إذا توجهنا إلى سوق العقارات، فأجرة المنزل الصغير ذو الغرفة الواحدة بحمام ومطبخ “المجتزأ من منزل المالك” وصل لـ 50 ألف ليرة سورية، وذلك في المناطق نصف المدمرة، مثل الموظفين وأطراف الجبيلة والعمال، أما منطقة القصور فوصلت قيمة استئجار المنزل فيها لـ 150 ألف ليرة، باعتبارها الآن هي “الوسط” وخالية من الدمار.
أما قيمة المنازل في البيع والشراء فتتراوح بين الـ 30 مليون والـ 150 مليون حسب الموقع والمساحة والجودة.
أما بالنسبة للباس، فسعر بنطال الجينز الوطني وصل لـ 35 ألف ليرة سورية، والتيشيرت الصيفي الخفيف لـ 15 ألف ليرة، والخفافة لـ 38 ألف ليرة.
والجدير بالذكر أن راتب الموظف بعد الزيادة الأخيرة وصل إلى الـ 100 ألف بمعدل وسطي، أي ما يقارب الـ 30 دولاراً، وهذه الـ 100 ألف لن تكفي العائلة 10% من مصاريفها الشهرية كأجرة المنزل والطعام واللباس والطبابة والوقود والعلاج ومصاريف المدرسة وإصلاح الأعطال وغيرها.
الواقع الطبي في مدينة دير الزور
لا يوجد سوى مستشفى واحد هو “مشفى الأسد” أو كما يسميه الأهالي “مقصلة الأسد” التي تفتقد أدنى مقومات المستوصف أو العيادة.
وبغض النظر عن المصائب والمهازل الطبية والعلاجية التي تحدث فيها يومياً، فهذه المشفى “كما هو على الورق” هي مشفىً حكومي مجاني، لكن على أرض الواقع فيحتاج المريض لدفع ثمن العملية للطبيب كي يقبل أن يجري له العملية.
ويضطر الأهالي للدفع للأطباء الفاسدين والمرتشين لأن المبلغ يبقى أوفر بكثير من الذهاب للعاصمة دمشق ومشافيها الخاصة.
ويوجد في المدينة أيضاً مستشفى آخر هو المستشفى العسكري، وهو من كل النواحي لا يقارن بمشفى الأسد “المدني”، لكنه خاص بقوات النظام والميليشيات التابعة لها.
إضافة إلى المشفى “الإيراني” الحديث، وهو أيضاً خاص بالقوات الإيرانية والميليشيات التابعة لها.
خيارات المجهول ووجهة الأهالي بعد دير الزور
في الحديث عن الوجهة المنشودة لهذه العوائل، فقد تباينت الخطط، منهم من ينشد مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وهم الأغلبية، ومنهم من ينشد مناطق سيطرة فصائل المعارضة في الشمال، وهؤلاء تكاد نسبتهم تكون معدومة، ومن العازمين أيضاً من ينشد تركيا، أما من يمتلك المبلغ الكافي من المقتدرين مادياً فهؤلاء ينشدون أوروبا وتحديداً ألمانيا.
الغالبية -في الواقع- هم الذين يبتغون مناطق سيطرة “قسد”، وذلك لأسباب أهمها:
القدرة المالية التي لا تساعد للوصول لأبعد وأفضل من ذلك
وجود بعض الأقارب أو المعارف في هذه المناطق بحكم حركات النزوح السابقة
توفر العمل في مناطق سيطرة “قسد”، خاصة الوظائف لدى قسد نفسها، والرواتب المغرية التي تمنحها لموظفيها
يعد الوضع الأمني في تلك المناطق مقبولاً نسبياً، إضافة إلى الأمان الذي توفره أميركا لـ “الإدارة الذاتية” الذراع الإدارية لـ”قسد” في تلك المناطق، وهذا الأمان “الثاني” هو الأهم من وجهة نظر القاصدين.
أما الذين ينشدون تركيا فهم أقل نسبة، لصعوبة وخطورة الوصول إليها والكلفة الباهظة، ومعظمهم لا يرون في تركيا مستقراً وإنما محطة عبور إلى أوروبا.
36 ألف دولار كلفة وصول العائلة من دير الزور إلى ألمانيا
وتصل كلفة وصول العائلة من دير الزور إلى ألمانيا لـ 120 مليون ليرة (36 ألف دولار)، وقد حدث هذا مع عائلة هاجرت منذ شهرين تقريباً.
بكل الأحوال، ما يُلتَمس من نية هذه العوائل المستعجلة في بيع أثاثها وحزم أمتعتها، هو الخروج من هنا حتى وإن كان إلى الأبد، والمضي مهما كان الثمن ومهما كانت النتيجة، فالبقاء صار مأساةً متجددة في ظل هذا الواقع المزري، والهروب حتى وإن كان إلى المجهول يبقى أخف وطأة مهما بلغ من شدة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا