السؤال ليس متى ، ولكن كيف، ولماذا سنعود؟

د. أحمد سامر العش

السوريون والعراقيون واليمنيون والمصريون والأفغانُ وكثيرٌ من المشردين والنازحين في الأرض لديهم سؤالٌ محوريٌّ حقيقي كيف ولماذا سنعود، وسؤال زائف عنوانُه متى سنعود؟عادةً يمكن قياسُ التجربة بمثيلاتها، لكن هل يوجد لها مثيلٌ ، قد يكون زمنُ شتاتِ اليهود أو تجربةُ هجرات المجاعة التي ضربت بعض البلاد أو تجاربُ التهجير القسري كما حدث في فلسطين والقرم والبلقان وشبه القارة الهندية أو غيرها ، لكن هل نستطيع أن نتعلمَ من هؤلاء عن سيكولوجية المهجر أو المشرد أو النازح؟ والأهم من ذلك أن نصل من خلال دراستنا لجواب شافٍ للسؤالين المحوريين الزائف منهم والحقيقي؟!

هل نستطيعُ أن نتعلمَ من هؤلاء كيف تكونُ نفسيةُ النازحين أو المهجرين طوعاً أو كرهاً؟ ولماذا لم يعدْ هؤلاء إلى أوطانهم رغم مضي الزمانِ وانتهاء الأزمات؟

النازحُ أو المهجر يترك المكانَ الذي ألفه تحت ظروف قاهرة ويبدو أنه لن يعودَ إلى وطنه إلا تحت ظروفٍ قاهرةٍ أخرى ! أما الحديثُ عن العودة والرغبة الدفينة في ذلك فهي أحلام طوبائية تتمنى العودةَ إلى لحظات وحالات تكشف سننُ الحياة أنها لا تتكرر.  قد يكون حلمُ العودة يداعب مخيلةَ الجيلِ الأول من النازحين والمشردين، أما الجيلُ الثاني والثالث فتبدو العودة بالنسبة له تغريبةً جديدةً عن مجتمع وظروف ألفها على صعوباتها وتحدياتها.

إذن لماذا يظل السوريون والعراقيون واليمنيون يتغنون بحلم العودة ؟أم أن هذا جزءٌ من سيكولوجيا الهروب من تحديات الواقع ، أو نوعٌ من أحلام اليقظة التي تعطينا شعورًا مخدرًا من النشوة؟!

في تركيا عشنا بعد ثورات الربيع العربي في مجتمع جديد تماماً لا يمت للعناقيد الاجتماعية التي كنا نألفها ، فهنا نرى حباتِ عنبٍ مختلفةَ الشكل واللون بل وحتى الطعم لايربطها ببعضها بعضا إلا التصنيفُ الرسمي (سوري،عراقي،يمني….الخ) ،هذا التصنيف لايعكس هويةً ذاتية بل دمغة صنعها الآخرون ، وربما فشلوا أو كان هذا هدفهم  بإقناع حامليها بأنهم متشابهون أو يحملون شيئاً مشتركا.

اليهود بعد عصر الشتات استخدموا المال ،والخوف لدفع اليهود المبعثرين في كل أصقاع الأرضِ إلى الهجرة إلى أرض الميعاد ، لكن هل للمسلمين أو العرب أرضُ ميعاد مماثلة ؟ وهل نملك المال لصنع الدافع أم أن الخوف ربما يصبح الدافع الوحيد للعودة؟!

الخوف على لقمة العيش أو فقدان الأمان أو ربما ضياع الدين ربما يدفع المشرد على العودة لوطنه لكن هذا يعني حكماً عودةَ المكسورِ الخائب لا القوي المتمكن، فهل يكفي هؤلاء لبناء وطن؟

لقد أعاد الألمان واليابانيون بناء بلدهم المحطَّمِ لكنهم لم يفكروا يوماً بالهجرة إلى فرنسا أو بريطانيا أو سويسرا. فهل كان اللجوء حقًّا لمصلحة بناء الأوطان أم كان تمهيدًا لتفريغها وبداية لصناعة ديمغرافيا جديدة في المنطقة كما حدث قبل ذلك في الهند والبلقان …..؟

لقد ساهمت هجرةُ العقول والكفاءات من الهلال الخصيب ومصرَ إلى دول الخليج العربي في منتصف القرن العشرين بتفريغ تلك البلادِ من محركات التغيير ، ومكنت منظوماتِ السيطرةِ العالمية ووكلاءها في المنطقة من تعزيز نفوذِهم وإحكام الطوق على الدولة والمجتمع بل وحتى تغيير الأيديولوجيا الدينية وفلسفة الحياة ومفهوم الوطن و المواطنة بشكل سلبي لم يفعله أو يتمكن منه الاستعمار والانتداب!

والآن نجدُ أن الجيلَ الأول وليس الثانيَ في عصر ثورات الربيع العربي يشهد تحولًا دراماتيكيا في مفهوم الإنسان والدولة والدين وفلسفة الحياة تحت تأثير صدمة الحرب وكارثة التهجير وهذه التحولات العميقة تفأجى حتى صناع المؤامرة من مخططين ومنفذين فلم يكن أحد يتوقع هذا السقوط الأخلاقي وانهيار مفاهيم الدين الموروث أمام ماديات وفداحة الصدمة بالواقع وتحدياته!

من يحللِ الهجراتِ القديمةَ لأهل المنطقة العربية، وخصوصا بلادَ الشام يجدْ أن نتائجَ هجرةِ بداياتِ الحرب العالمية الأولى إلى أمريكا اللاتينية كانت كارثية – بكل ماتحملُه الكلمة من معنى-على الجيل الثالث والرابع وصولا لتاريخ اليوم، فلا يربط أصحابَ الأصول اللبنانية  والسورية في دول أمريكا اللاتينية أيُّ روابطَ دينيةٍ أو عاطفية أو حتى مصلحية مع الدول الأم ، وعلى النقيض من ذلك نجد أن الجيل الثالث من المهاجرين الأتراك في ألمانيا شكلوا حيرةً لعلماء الاجتماع الألمان في بقاء تعاطفهم وارتباطهم قوي مع البلد الأم بحيث يعجز المتبصرُ عن تفسيره إلا برابط الدين والعصبية القومية التي يعززها تشدد البيئة الحاضنة تجاهَ الأقليات والمهاجرين ولو مضى عليهم مئةُ عام! لكن ما فائدةُ كلِّ هذا التحليل إن لم يخرج بحلول واقتراحات؟

صناعةُ الرابط فنٌّ علينا التخطيطُ له بدقة حتى لانفرغ بلادنا لصالح أعدائنا ، وحتى نورث أبناءنا وطناً لا ملجأً ،وانتماءً لا جواز سفر ، ولكي نصنعَ هويةً حقيقية متجذرة بالأرض لا هويةً مصطنعة أو منسوخة، ربما هناك عدةُ حلول لكن يبدو أن السيناريو السوري أصعبُها أو أعصاها على الفهم أو الحل، فقد رأيت السيناريو الصومالي  ،والمصري ،واليمني وما أذهلني تشبثُ أولئك الإخوةِ بهويتهم واعتزازهم بها رغم تبوُّئهم مراكزَ علميةٍ ودنيوية مهمة في بلاد النزوح، لكنهم دائما يحنون إلى بلادهم المهدمةِ في الواقع لكن ليس في عيونهم ،  أما السوريون فكانت بلادُهم ولا زالت مهدمةً في عيونهم قبل الواقع نتيجةَ منهجيةِ تحطيمِ البشرِ قبل الحجر!

لقد امتلك اليابانيون والألمانُ وحتى الأتراكُ بعد الهزيمةِ العسكرية الثقةَ بالنفس والإحساسَ العاليَ بأهمية مفهومِ الدولةِ التي امتلكوها قبل الحرب وأثناءها ،بينما افتقد العربُ الثقةَ بالنفس وفقدوا الإحساسَ بمفهوم الدولةِ والوطن ربما لأنهم استسلموا لحكام السيفِ وركنوا لمفهوم التغلبِ واكتفوا بقرشية الحاكمِ في كتب الفقه ولم يلعبوا دورًا لمئات السنين في إدارة حياتِهم وصناعة مستقبلِ أولادهم.

كلُّ ماسبق يجعلُ أهلَ السنةِ والعربَ تحديدًا يبحثون عن دولة قويةٍ وصية عليهم كأفراد ومجموعات ، بدلا من صناعة دولِهم وتقرير مصيرهم ،وهنا تبدو العودةُ لصناعة دولةٍ انهكتها الصراعاتُ وتكالبت عليها الأعداءُ أمرًا أقرب للتنظير من الواقع ، وهنا يبدو أن  التقديرَ الواقعي للمشهد والاعترافَ بالفشل والحقائقَ بدايةٌ في الاتجاه الصحيح للتخطيط للتغيير ،فما أحوجنا أن نفكر بالبراغماتية التي تستند لأدبيات نملك منها الكثيرَ وعلى رأسها قدمُنا في هذه الارض بدلا من العيش في الوهم المريح!

وهنا نرجع للسؤال المحوري في هذا المقال كيف ولماذا ؟ فهنا نوجه البوصلة في الاتجاه الصحيح ،أما سؤال متى فيبدو سؤالا فارغاً من المضمون، مشتتاً، صانعاً للضياع !!!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى