تختصر معركة السيطرة على ريف محافظة إدلب، وعلى الطرق الرئيسية الواصلة بينها وبين المحافظات السورية الأخرى، جملة من الصراعات والتجاذبات بين الأطراف الفاعلة والمهيمنة على الأرض السورية. فالمعركة إذ تكشف حدة التناقضات، وتباين الرؤى، بين أطراف (مسار أستانة)، و(تفاهمات سوتشي)، تظهر بوضوح تبدلات مواقف الدول الضامنة، التي تشهد العلاقات بينها تصدعًا وانهيارًا، في مقابل ترميم علاقات أخرى، دولية، يعاد لها الدفء والحرارة المفتقدين، منذ زمن طويل، ربما معها، تعاد صناعة التحالفات والمحاور. من المؤكد أن استباحة إدلب ما كان لها أن تتم لولا جملة من التفاهمات الضمنية، غير البعيدة عنها الولايات المتحدة الأميركية التي تدخلت بشكل واضح، وعلني، أكثر من مرة لمنعها، أو توقيفها، أو تأجيلها، ومحاولة إيجاد مسار آخر لمعالجة ملفاتها العديدة العالقة، وعلى رأسها ملف جبهة النصرة الموصوفة بالإرهاب، قولًا وحقيقةً، والتي بسببها دفع الشعب السوري، ويدفع حتى الآن، أثمانًا باهظة، لما مثلته من توجهات، وانقلاب على مسار الثورة، وقواها المتطلعة للحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية. من نافل القول إن ما يجري في محافظة إدلب نتيجة طبيعية لارتهان سياسي، شمل الفصائل المقاتلة على الأرض، جعل بندقيتها للإيجار في أكثر من أجندة وموقع، والقوى السياسية التي تصدرت المشهد العام، واستحوذت على الاعتراف، وتمثيل الشعب السوري بغير حق، وأصبح جل همها مكاسب ضيقة شخصية وحزبية وجهوية، ومن ثم التجاذب الإقليمي بين الأطراف التي تبدو متفاهمة في تفاصيل كثيرة، ومختلفة في العمق على إدارة مصالحها، ومكاسبها من “الكعكة” السورية المستباحة. على جانب آخر، مهم، لا يبدو أي طرف إقليمي، أو دولي، مكترث بالمأساة المريرة للشعب السوري ومعاناته، حيث الصمت وعدم المبالاة، وحتى عدم إدانة ما يجري، خلا الموقف التركي المتميز، في الوقت الذي هجرت الحرب المفتوحة على أهالي المحافظة مئات الآلاف منهم إلى العراء دون غذاء ودواء أو خيمة تقيهم برد الشتاء، ودون أن يجدوا لصرخات استغاثاتهم، وبكائهم، صدىً إقليميًا، أو دوليًا. لقد كان واضحًا منذ أول اتفاق تهجير وانتزاع للسكان من أراضيهم وبيوتهم أنهم سيلاقون هذا المصير القاسي، في ظل سوابق نظام القتل الكوني وحلفائه من المارقين الدوليين، وسياساتهم المعهودة، مع عدم التزام أي طرف فاعل بتعهداته ووعوده الكثيرة والمتعددة. إدلب اليوم تختزل كافة معارك سورية السابقة، وربما لا ينافسها في هذا السياق والمعنى سوى صراعات المنطقة الشرقية، اللتين تخطفان الأبصار معًا وتحظيان بالقسم الأكبر من الأهمية ويتكثف فيهما التدخل الخارجي المباشر. مما يؤسف له أن هذا الصراع الدامي، الذي يدفع ثمنه الشعب السوري وحده، يجري في وقت تتعطل فيه العملية السياسية، دون أية آفاق واضحة لتنشيطها بشكل فعال وحقيقي، وفق قرارات المجتمع الدولي، وهيئاته الدولية، وذلك بسبب عدم جدية النظام وداعميه، وتغليب خيار القوة والسحق الكاملين، ودون بحث القوى الدولية، والهيئات الأممية، عن آليات أخرى، تفرض على نظام دمشق الانصياع لإرادة المجتمع الدولي الغائبة، أو المشلولة، توفر في الحد الأدنى ملاذات آمنة للمدنيين العزل تجنبهم الموت والقتل المنظمين والممنهجين. من المؤكد أن أطرافًا عديدة أخطأت الحسابات في ما يخص محافظة إدلب، من قوى فاعلة على الأرض، أو صديقة، في محور الدفاع عن الشعب السوري، جعلت المعركة بهذه الفداحة والثمن الباهظين، دون مقدرة على تجنب نتائجها الراهنة التي ستكون لها ذيول على القضية السورية برمتها، ومستقبلها. إدلب اليوم امتحان لجميع الأطراف، ونتائجها على الأرض ستعيد تموضع مختلف الأطراف، وتمركزها على خرائط النفوذ، والهيمنة، والقرار، بغياب السوريين، وإرادتهم المستلبة، والغائبة، وما يكشف ذلك ويفضحه امتدادات المعركة لخارج جغرافية المحافظة التي ما إن بدأت حتى توقفت في بازار الدم المفتوح والمسكوب في كل دقيقة. تأخرت معركة إدلب شهورًا عديدة، كان يمكن للأطراف الوطنية، والحليفة، أن تفعل خلال هذه المدة الكثير لتجنب وقوعها بتأثيراتها المفجعة، لكن أولويات أطراف الصراع وأمنها، ومصالحها، أوقع الجميع في هذا الشرك الجهنمي الذي يبدو أنه لا مناص منه، ولا مخرج له، حتى الآن، على الأقل.
المصدر: اشراق