بكل الاعتبارات تعتبر الدولة التركية: السلطة والشعب والمؤسسات، أفضل دول الجوار السوري تعاملا مع اللاجئين السوريين، وقد وفرت هذه الدولة لللاجئ السوري الكثير من الخدمات والاحتياجات، وسبل التعامل الإنساني، ما خفف عنه كثيرا ألم اللجوء وإشكالاته.
هذه حقيقة ظاهرة لم تعد بحاجة إلى إثبات، لذلك كان ملفتا ومستغربا إلى درجة كبيرة ما تعرض له السوريون “أشخاصهم وممتلكاتهم وبيوتهم” الأربعاء الماضي من هجمات عنصرية في أنقرة على يد جماعات من الغوغاء متذرعين بجريمة قتل ارتكبها لاجئ سوري حين طعن في مشاجرة شارك فيها صديق له شابين تركيين ما أسفر عن مقتل أحدهما، واعتقلت الشرطة السوريين اللذين كانا طرفا في هذه المشاجرة بتهمة “القتل العمد”.
وحادث المشاجرة حادث عادي يمكن أن يقع في كل حين بين أي شخصين أو عدة أشخاص بغض النظر عن جنسية هؤلاء أو دينهم أو طائفتهم، وأن يسفر الشجار عن مقتل شخص وإصابة آخر فهذا يقع، وهذه جريمة أيا كانت دوافعها وظروفها، هي جريمة لا بد من التصدي لها بحسم ومحاسبة مرتكبها، هذا أمر واضح لا يحتاج إلى بيان، لكن رد الفعل على هذه الجريمة الذي اتسم بالعمل الجماعي، وبالتوجه العنصري وبشعارات بشعة وغير إنسانية على غرار ” إبادة اللاجئين”، فهو ما يحتاج إلى بحث وإلى تدقيق وإلى التعرف على دوافعه والبيئة التي سمحت به.
لا نقول هذا لأن من حق اللاجئ السوري ـ وكل لاجئ ـ أن يشعر بالأمان والاحتضان في بلد اللجوء، وقد اضطرته الظروف إلى مغادرة بلده بعد أن فقد فيها الأمن والأمان على نفسه وعرضه وماله، وإنما أيضا ـ وعلى نفس الدرجة من الأهمية ـ لأن من حق المجتمع التركي ـ الذي اتسم بهذا الرقي في التعامل مع قضية اللاجئين منذ اليوم الأول ـ أن يصون نفسه ويتصدى لكل أشكال العنصرية التي تهدد أمنه واستقراره، وتهدد القيم التي يريد أن يبني من خلالها مستقبله وإسهامه الحضاري.
ولا شك أن رد فعل السلطة التركية على هذه الجريمة العنصرية، المشبعة بروح الكراهية، كان سريعا وحاسما حيث اعتقلت 76 شخصا شاركوا في هذه الهجمات ونشروا معلومات كاذبة على وسائط التواصل الاجتماعي لغايات الاستفزاز وإثارة النعرات، وقالت هذه السلطات إن من بين المشتبه بهم 38 شخصا معروفين لدى الشرطة بارتكاب أعمال سرقة واعتداء وضرب وتهريب مخدرات، أي أن خمسين بالمئة ممن قام بهذا الفعل العنصري هم من “الشبيحة” والعناصر الاجرامية المعروفة، ولا يجتمع هؤلاء بمحض الصدفة.
كذلك مما لا شك فيه فإن السلطات التركية المختصة لن تكتفي في التعامل مع جرائم الكراهية والعنصرية هذه بمجرد إعمال القوانين المعتمدة، وإنما ستعمد إلى بحث جذور هذا الحدث الفارق، ومحاولة التصدي لمولداته.
إن التدقيق فيما ما جرى يظهر أن الحادث لم يأت في سياقه الطبيعي، كما أنه لا يعبر عن رد فعل طارئ على حدث عارض، وإنما يشي بأنه فعل كان يعمل له في الخفاء، وكان ينتظر اللحظة المناسبة، وقد جاءت هذه اللحظة، افتعالا أو صدفة ليكون رد الفعل العنصري على النحو الذي ظهر أمامنا.
ليس طبيعيا أن يحصل هذا التحشيد الشبابي ضد اللاجئين السوريين في هذا الحي من أحياء العاصمة التركية، وأن يهاجم السوريون في كل أماكن وجودهم، وعلى مستوى كل أنشطتهم، ليس طبيعيا أن ترتفع شعارات تنادي ب”إبادة اللاجئين”. هذا أمر ليس طبيعيا في المجتمع التركي الذي هو بطبيعته مجتمع متعدد الأعراق، وبطبيعته مجتمع قائم على احترام هذا التعدد، وعلى تعزيز مفهوم التسامح.
لذلك كان من الضروري أن نقف أمام هذا الحدث الذي نصفه بأنه حدث جلل محاولين تفسيره تفسيرا يكشف عن الحقيقة، ويكشف عن المستفيدين والمتورطين فيه بشكل مباشر وغير مباشر:
1ـ لأسباب عديدة ومفهومة دخل ملف اللاجئين ميدان التنافس بين الأحزاب التركية، واتخذت أحزاب اليمين التركي، و الأحزاب الكردية من هذا الملف تكأة لإحراج حزب العدالة والتنمية، بدعوى أنه يحمل المواطن التركي تكاليف ما يقدم للاجئين من دعم. وهو ادعاء لا يثبت في البحث، وفيه تضخيم شديد، لأن ملف السوريين ينقسم في حقيقته إلى جزئين رئيسيين:
** جزء يخص اللاجئين الذين يحملون بطاقة الحماية، وهؤلاء تتلقى الحكومة التركية دعما دوليا لمساعدتها على تلبية احتياجاتهم، وبالتالي فإن ما تتحمله الدولة التركية مشكورة هو أقل بكثير مما يصور، وهو يدخل في إطار مسؤولية الجوار، وأيضا في إطار حماية الأمن القومي التركي.
** وجزء آخر يمثله السوريون الذين قدموا للإقامة في تركيا ومعهم استثماراتهم، أو هم يقيمون إقامة سائح ولديهم مدخرات يصرفونها في تركيا على السكن والعيش والطب …الخ، وهؤلاء يمثلون كتلة ليست بالقليلة من السوريين، ويقدمون بذلك دعما حقيقيا للاقتصاد التركي.
2ـ وليست أحزاب المعارضة التركية مبتدعة في موقفها المناهض للاجئين، فمثل هذا الموقف وجدنا مثيله في أحزاب اليمين المتطرف في النمسا والمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، واسبانيا، والتشيك، وبلدان أوربية عديدة. وقد أسفر استغلال هذا الملف من قبل هذا اليمين إلى تطورين خطيرين:
الأول: صعود هذا اليمين المتطرف سياسيا ودخوله البرلمان، أو تعزيز موقعه فيه.
الثاني: تصاعد خطاب الكراهية في هذه المجتمعات، وبسببه وقعت العديد من الهجمات العنصرية الدامية التي طالت اللاجئين والمهاجرين. لكن المكاسب التي حققتها هذه أحزاب في الفترة الأولى من انتشار هذا الخطاب العنصري ما لبثت أن تراجعت. لأن الخطاب العنصري بطبيعته لا يقف عند جماعة معينة، أو فئة محددة، وهو يهدد السلام الاجتماعي، ويهدد تماسك المجتمع وأمنه.
في تركيا ظهر الخطاب العنصري نفسه، وقام العديد من سياسيي أحزاب المعارضة بتبني موقف عنصري من اللاجئين، وبات اللاجئون السوريون من أهم الملفات التي يتقاذفها أحزاب المعارضة وهي تتقدم إلى الانتخابات العامة النيابية والرئاسية المقررة عام 2023، وبات هؤلاء اللاجئين كبش المحرقة في هذا الخطاب.
3- وتميز الوضع في تركيا إزاء ملف اللاجئين عن كل ما جرى في تلك الدول الأوربية بأن بعض أحزاب وقوى المعارضة باتت تغطي صراعات داخلية طائفية وعرقية بستار ملف اللاجئين، وهي صراعات لا يمكن اعتبارها جزءا من التنافس الداخلي بين الأحزاب، لأنها ليست صراعات برامج سياسية واجتماعية، وإنما صراعات تتناقض مع موجبات الوجود الوطني التركي، والأمن القومي التركي، وتهدد وحدة الأراضي التركية.
إن ما حدث في أنقرة تجاه اللاجئين السوريين يشي بدور ما لجماعة PKK التي يتزعمها عبد الله اوجلان وتصنفها الدولة التركية بأنها “تنظيم إرهابي”. والتي تقود حربا ضد الدولة والمجتمع التركي، وحين نذكر هذا التنظيم فإن من الطبيعي أن نستحضر امتداده السوري ممثلا ب PYD، الذي ينفذ رؤية واستراتيجية التنظيم الأم. وهنا من الضروري للمتابع أن يستحضر دورا للنظام السوري في مثل هذه الاضرابات. لأنه من الثابت وبالعودة لوقائع لا شك فيها أن للنظام السوري مخططا يستهدف الداخل التركي، وخصوصا في مسألتي الأكراد واللاجئين السوريين.
4- ونحن حين ندقق في خارطة وجود اللاجئين السوريين في دول الجوار وأوضاعهم سنكتشف تميز وضعهم في تركيا، إذ يتوزع هؤلاء اللاجئين على دول الجوار الأربع: تركيا، ولبنان، والأردن، والعراق. وفي تركيا العدد الأكبر من هؤلاء اللاجئين.
وفي اثنتين من هذه الدول، لبنان والعراق، فإن وضع اللاجئين صعب ومزر، وهم تحت رحمة أنظمة حليفة للنظام السوري، وبالتالي هم عمليا تحت رحمة النظام السوري، أما في الأردن فإن وضعهم الإنساني كان دائما صعبا، ومع التقارب السوري الأردني مؤخرا أضيف إليهم القلق والتخوف الأمني.
في تركيا وحدها يختلف الوضع، حتى في المناطق السورية الخاضعة للسيطرة التركية يبقى الوضع مختلفا،
وللنظام السوري هدف واضح في زعزعة حالة “الاستقرار” التي ينعم بها اللاجئون في تركيا.
وقد حاول هذا النظام قبل الآن زعزعة هذا الاستقرار بتنفيذ تفجيرات في مناطق الحدود، حيث المركز الرئيس لانتشار اللاجئين، ونفذ بعض الهجمات في الداخل التركي، وكانت أدوات التنفيذ لهذه الهجمات ذات ارتباط مباشر أو غير مباشرة بأجهزة المخابرات السورية.
ذلك لا يمكن استبعاد أصابع النظام السوري عما حدث الأربعاء في أنقرة، وقد شهدنا من قبل حالات ووقائع تكشف عن تخادم منظم وقوي بين النظام السوري وPYD. سواء في المعارك والعمليات القتالية في مناطق مختلفة من سوريا، حيث يتخلى أحدهما للآخر إذا ما اضطرته المعارك مع المعارضة السورية للتراجع، أو في السيطرة ومن ثم بيع وتصريف الثروات الطبيعية السورية من بترول وغاز وغيرهما.
إن هذا التخادم المستمر بين الطرفين يفتح المجال لتنفيذ مثل هذه العمليات، وتعتبر أجواء الشحن العنصري غطاء مناسبا وفعالا لإخفاء هذا الرابط.
5- مؤكد أن الدولة التركية تريد إغلاق ملف اللاجئين. لكنها تريد تحقيق ذلك بشكل انساني وآمن. لذلك اشترطت أن يتم ذلك من خلال توفر حل سياسي للملف السوري يولد سلطة في دمشق يأمن لها اللاجئون وبالتالي يعودون آمنين ودون خوف إلى ديارهم، وكذلك سلطة في دمشق تملك القدرة على ضبط الحدود السورية- التركية، بما يزيل خطر التوجه الانفصالي لحزب PKK وذراعه السوري PYD.
هذا الموقف الذي نشير إليه هو موقف الدولة التركية، أي أنه موقف أعلى من الصراعات الحزبية بين القوى الوطنية التركية على اختلاف انتماءاتها، ومن هذه الزاوية فإن كل الدعوات العنصرية التي تطلقها المعارضة تجاه ملف اللاجئين والدعوة إلى إعادتهم فورا إلى سوريا لا تعدو أن تكون لغوا وعملا دعائيا غوغائيا لا يمكن تطبيقه من قبل أي سلطة تركية قادمة.
7- يبقى أن نقول إن أحداث أنقرة يجب أن تفتح أعين السوريين لاجئين ومقيمين إلى وجود مثل هذه الجهات وتغلغلها في الداخل التركي، وهي تعمل على تدمير العلاقة بينهم وبين إخوتهم الأتراك الذين فتحوا قلوبهم وبيوتهم للاجئين منذ الأيام الأولى يدفعهم إلى ذلك إحساس بحق الجوار، وبالمسؤولية الإنسانية وبالعلاقة التاريخية، وبالأخوة الدينية. وبالتالي فإن عليهم، على السوريين مقيمين ولاجئين أن يتنبهوا لهذه الحقيقة، وأن يقفوا بالمرصاد لأي محاولة لتخريب هذه العلاقة، وأن يتسموا بحس عال من المسؤولية تمنع أي استجرار لصدام أو احتكاك أو توتر.
وأن يضعوا في حسبانهم أن ذاك قد يكون مقصودا، وأن أيادي العنصريين والطائفيين من داخل المجتمع التركي. وأيادي النظام السوري المتحالف مع الانفصاليين الاكراد في سوريا وتركيا قد تكون وراء ذلك.