انصرمت عشر سنوات على دخول دستور 2011 حيز التنفيذ في المغرب، في سياق التفاعل الذي أبداه النظام المغربي مع الرجّة الكبرى التي أحدثتها ثورات الربيع العربي في المنطقة. وعلى الرغم من مكانةِ المسألة الدستورية في الفكر الإصلاحي المغربي، وصدورِ خمسة دساتير منذ الاستقلال (1962، 1970، 1972، 1992، 1996)، وموقعِ الإصلاح الدستوري في صراع القصر مع أحزاب الحركة الوطنية عقودا، على الرغم من ذلك، إلا أن هذا الدستور مثّل تحولا في تاريخ الدستورانية المغربية، فقد كان أول دستور يأتي استجابةً للحراك الشعبي الذي قادته حركة 20 فبراير، كما اتسم أيضا بانتقال النقاش الذي واكب إعدادَهُ، من دائرة السلطة والنخب إلى الشارع، من خلال مطالب رئيسة، أبرزها اعتمادُ الديمقراطية في وضع مقتضياته، وإقامةُ نظام سياسي يرتكز على الملكية البرلمانية وفصل السلط واستقلال القضاء.
أدرك الملك محمد السادس أن دستور 1996 لن يستوعب مطالب الحراك الشعبي، ولو عبر إدخال تعديلاتٍ واسعةٍ عليه. ولذلك أعلن في “خطاب 9 مارس” عن ورشةٍ كبرى لإصلاح الدولة المغربية، انطلاقا من وثيقةٍ دستوريةٍ جديدة تضعها لجنة خبراء معيّنين من قبله. وكان يُنتظر أن يسهم الدستور الجديد في الحدّ من تصلّب السلطوية المغربية، من خلال مدّها بموارد تجعلها أكثر قابليةً لإصلاح سياسي متدرّج وغير مكلف؛ إصلاح يفتح المجال أمام تعديلٍ، ولو كان نسبيا، في علاقات القوة داخل الحقل السياسي. بيد أن ذلك لم يحدُث في ظل الانكماش والانتظارية اللذين أبانت عنهما الطبقة السياسية المغربية طوال السنوات الماضية، فضلا عن ارتدادات الانتكاسة التي مني بها الربيع العربي بعد 2013.
تضمن دستور 2011 مقتضياتٍ كثيرة تبدو، للوهلة الأولى، وكأنها ثورة دستورية، خصوصا بالنسبة لنظام سياسي عُرف بمحافظته الصريحة، وتجذّرِ بنيته الثقافية التقليدية، وتعاطيه الحذر مع موارد الحداثة السياسية التي ما فتئ يُدمجها بالقدر الذي لا تؤثر به على هذه البنية وعلاقات القوة التي تطبعها، غير أن هذه المقتضيات، على أهميتها القانونية (الشكلية)، لم تُحدِث امتداداتها السياسية والثقافية لأسبابٍ يطول الخوض فيها، وبقي الحقل السياسي تقليديا في خطوطه العريضة. بل حتى الدينامية التي كان قد أحدثها دستور 1996 في الحياة السياسية (تعيين عبد الرحمن اليوسفي على رأس حكومة التناوب، فورة المجتمع المدني، ازدهار الصحافة المستقلة، إحداث هيئة الإنصاف والمصالحة ..) لم يُحدثها الدستور الحالي الذي واكبته، للمفارقة، رتابةٌ سياسيةٌ غير مسبوقة، وبالأخص إبّان الولاية الحكومية الثانية لحزب العدالة والتنمية، الإسلامي (2016 – 2021) التي اتسمت بغيابٍ شبه كامل للسياسة، والتضييق على الحقوق والحرّيات، وتراجع تأثير المجتمع المدني، وتعثر الجهوية المتقدّمة، وتحكّم السلطة في الفضاء العمومي. وقد حاول الفاعلون، على اختلاف مواقعهم، التنصّل من مسؤولية عدم تفعيل الدستور، وقد تبدّى ذلك بشكلٍ لافتٍ بين الإسلاميين الذين قادوا ولايتين حكوميتين و”المعارضة” داخل البرلمان التي طالما حمّلت “العدالة والتنمية” مسؤولية عدم استثمار المساحات التي يمنحها الدستور للدفع بقطار التحوّل الديمقراطي إلى الأمام.
يعكس الدستور المغربي الحالي حدودَ فعالية الدساتير في إحداث تغييرٍ في علاقات القوة، ومأسسة السلوك السياسي للنخب، ووضعِ حدودٍ واضحةٍ لصلاحيات المؤسسات الرئيسة وكيفياتِ صناعة القرار العمومي وموقعِ الموروث التاريخي والتقليدي في محاصرة سلطةِ النص الدستوري المكتوب داخل الحياة السياسية. وفي وقتٍ كان ينتظر أن يكون هذا الدستور محطَّ ”تأويلات ديمقراطية” تُترجم وعي السلطة والنخب بأهمية المسألة الدستورية في التحوّل الديمقراطي، بقي أسيرَ السياسة المغربية المحكومة بتوازناتها التقليدية. وهي توازناتٌ تعكس الموقع المركزي الذي يحتله الدستور غير المكتوب في توجيه هذه السياسة وإدارة توتراتها، ما يجعل الدستور المكتوب مجرّد وثيقةٍ للاستئناس لا أقل ولا أكثر. يتعلق الأمر بفجوةٍ دالّةٍ بين واقع سياسي وثقافي تقليدي ووثيقة دستورية تبدو أكثر تقدّما وقابلية لإنجاز تحول ديمقراطي بدون تكاليف كبيرة.
المصدر: العربي الجديد