لم يَكُن مُنتَظَراً من الرئيس السوري بشار الأسد، وهو يبدأ ولايته الرابعة، أنْ يُخاطِب السوريين بمنطق المُنتصر الذي يُملي إرادته على أنصاره وخصومه على حدٍّ سواء، وهو الذي يحكم الآن بلداً شعبه مُقَسَّمٌ بين اللجوء والنزوح والعيش في ظروف بالغة السوء، إلى درجة أنّ ما يزيد على 87% من السوريين باتوا اليوم تحت خط الفقر، وفق إحصائيات الأمم المتحدة.
باتت الجغرافيا السورية اليوم مُقسَّمة فعلياً بين أربع قوى: الحكومة السورية في وسط البلاد وجنوبها، وإنْ بنسب سيطرة فعلية مختلفة، وكذلك في مناطق محدودة شمال شرقي سورية، هيئة تحرير الشام (جبهة النّصرة سابقاً)، في محافظة إدلب، وفصائل المعارضة السورية الموالية لتركيا في كُلّ من عفرين والباب وجرابلس وإعزاز ورأس العين وتل أبيض، وأخيراً قوات سورية الديمقراطية في كُلّ من كوباني (عين العرب)، والجزء الشرقي من منطقة شرق الفرات، بالإضافة إلى مدينة منبج، غرب نهر الفرات.
ما لم يقله الأسد في خطاب القَسَم، أكّدت عليه المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية لونا الشبل، في لقائها النادر مع الإعلام الرسمي السوري، ما زاد من حِدّة الانتقادات الشعبية للخطاب، حيث شكَّلَت لغة التخوين سِمَة بارزة في اللقاء، كما في الخطاب. قالت الشبل إنّ الأسد لم يَعِد السوريين شيئاً، وهو بالتالي في حِلٍّ من أيّ تعهّد يمكن أنْ يلتزم به رئيس جمهورية مُنتخَب تجاه شعبه. وشدّدت على أنّ السوريين صمدوا خلال سنوات الحرب، لأن عليهم الصمود وحَسْب، ولم يكن طلباً من القيادة السورية، وبالتالي لا خَيار أمامهم اليوم سوى الاستمرار في الصمود، من دون أنْ يمنّوا أنفسهم بأيّ انفراجة قادمة، تُنهي، أو على الأقل تُخفِّف، من هَول ما يعيشونه.
كان خطاب الأسد أشبه بِنَسْف أعمال اللجنة الدستورية التي تنعقد في جنيف برعاية الأمم المتحدة، والتي أوكِلَت بمهمة وضع دستور جديد لسورية، يكون بديلاً لدستور عام 2012 الذي وُضِعَ إبّان بداية الحرب السورية، وشاركت في صياغته حينها أحزاب من المعارضة الداخلية المُرخَّصة من الحكومة، وعُرِضَ حينها على الاستفتاء الشعبيّ العام.
وفي استكمال للتصوّر السوريّ للجنة الدستورية، قالت الشبل إنّ مشاركة وفد الحكومة السورية (أو الوفد الوطنيّ السوريّ وفق التسمية المعتمدة من الإعلام الرسميّ) تندرج في إطار التكتيك السياسيّ وحَسْب، وليس من تعويلٍ على نجاح عملها، فالقيادة السورية في اللجنة الدستورية، وفق الشبل، إنما تفاوض مع تركيا، وليس مع أي جهةٍ سوريةٍ معارضة، على الرغم من أن وضع دستور جديد للبلاد يمثل السلة الثانية من سلال دي ميستورا (المبعوث الأممي السابق) الأربع، إنشاء حُكْم غير طائفيّ يضمّ الجميع، وإجراء انتخابات حُرّة ونزيهة بعد وضع الدستور، وكذلك استراتيجية مكافحة الإرهاب والحوكمة الأمنية، وبناء إجراءات للثقة المتوسطة الأمد، وهي أيضاً جزء من قرار مجلس الأمن 2254.
وقد لاقت المواقف الأخيرة للرئيس الأسد انتقاداً من حليفه الروسي على لسان مستشار وزارة الخارجية الروسية، رامي الشاعر، والذي شدد في مقال له على ضرورة التزام دمشق بتنفيذ القرارات الدولية، لحلّ ما سماها “الكارثة الإنسانية السورية”، وشدّد على عجز الحكومة السورية عن فَرْض سلطتها في شمال شرق سورية وشمال غربها، وإنْ انسحب الأميركيون والأتراك من الأراضي السورية. قد تكون مواقف الرئيس الأسد جزءاً من السياسة التي انتهجتها القيادة السورية للتنسيق بين الدورَين الروسيّ والإيراني، في سورية، واستثمار الخلافات بينهما في الميدان السوريّ، وهي سياسة تنتابها مخاطر كثيرة، خصوصا في حال ترجمة التفاهمات المعلنة أخيرا بين الرئيسين الأميركي بايدن والروسي بوتين في الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، والتي تدعو إلى ضرورة التنسيق بين الجانبين في سورية، وهو ما قد يشكِّل مخاوف لدى القيادة السورية من جهة ضغوط أميركية على الجانب الروسي لتغيير موقفه من القيادة السورية.
التركيز الكبير على زيارة وزير الخارجية الصيني إلى دمشق، بالتزامن مع خطاب القسم، وتركيز الإعلام الرسمي السوري على الدور الصيني في سورية، وعلى المبادرة الصينية لحلّ الأزمة السورية، ربما كان جزءاً من الآلة الدبلوماسية الرسمية السورية لمواجهة أيّ ضغوط روسية قادمة لإلزامها بتسويةٍ سياسيةٍ غير مرضية.
نقطة أخرى أشار إليها الأسد في خطابه، وشنّ فيها هجوماً لاذعاً على “قوات سوريا الديمقراطية”، وأتبعته وزارة الخارجية ببيان شديد اللهجة ضد استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وفدا من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية ومن “مجلس سوريا الديمقراطية”، حيث اعتبرت الخارجية السورية أنّ “الإدارة الذاتية” مشروع انفصاليّ، ومُلحَق بمشروع أميركيّ في المنطقة، يهدف إلى إضعاف الدولة السورية. ولا ينسجم الموقف الرسمي هذا مع دعوة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لإجراء حوار بين “الإدارة” والحكومة السورية.
مهما يكن، كان من المأمول أنْ ينفتح الرئيس الأسد على معارضيه، في الوقت الذي تتعرّض فيه بلاده لأزمة وجودية ككيان موحد، خصوصا مع ترسيخ كيانات الأمر الواقع القائمة في سورية فترة طويلة من دون الوصول إلى تسوية سياسية، وبالتالي تمزّق النسيج المجتمعيّ الجامع في سورية، وكان الاستحقاق الرئاسي فرصة مناسبة كي يبادر الأسد للتقريب بين السوريين، ولم تكن زيادة الشرخ بينهم عبر المواقف الأخيرة مناسبة للوقت الراهن، ولا لمستقبل سورية.
المصدر: العربي الجديد