راجت في السنوات العشر الماضية موضوعة ” حكم العسكر ” كبديل عن الحديث مباشرة عن الدكتاتورية , وفي تلك الفكرة محاولة ضمنية للقول إن الظلم والديكتاتورية و” حكم العسكر ” شيئان متماثلان . يمكن للمرء بعد ذلك أن يستنتج وحده أن الخلاص من حكم العسكر هو الهدف , وبذلك يتم حجب النظر إلى الديمقراطية بوصفها النظام البديل والنقيض للديكتاتورية .
وبالفعل فإن مانراه في السنوات الأخيرة هو ضعف التفكير بالديمقراطية لدى تيارات الاسلام السياسي , وتأتي موضوعة ” حكم العسكر ” لتقدم شيئا يشبه النظرية سوى أنه في العمق لايوصل لأي تقدم في الفكر السياسي . بل هو أشبه بما يعطى للطفل ليضعه في فمه ويتلهى به عن الرضاعة الحقيقية .
ولاتقتصر وظيفة موضوعة ” حكم العسكر ” على ماسبق لكن لها وظيفة أخرى هي تسويد المرحلة الناصرية ودمجها مع الديكتاتوريات الحالية في إطار واحد انتقاما من تلك المرحلة وكمساهمة في تصفية الحساب معها , وطمس كل انجازاتها والفكر الذي حملته بحيث تصبح ليس فقط موسومة بحكم العسكر لكن بأنها الأساس لحكم العسكر الذي هو أس المصائب وصولا إلى أوضاعنا الراهنة .
هكذا يتم دفن كل السمات الوطنية والعربية لتلك المرحلة , وكذلك التحولات الاجتماعية , ومارافقها من مد شعبي وفكر حداثي لامس وجدان الشعوب العربية من أقصاها لأقصاها , وإرخاء ستار أسود تحت لافتة ” حكم العسكر ” وكأن ” حكم العسكر مصيبة ضربت المجتمعات العربية من تاريخ الثورة المصرية عام 1952 واستمرت تلك المصيبة في جر المصائب حتى اليوم !
وماهو البديل ؟
ليس البديل هو الديمقراطية غير المعترف بها حتى الآن بطريقة صريحة ومستقيمة وحاسمة , بالتالي فالبديل وفق مايمكن التصور هو إنهاء حكم العسكر واستبداله بحكم المدنيين فقط , أو المدنيين المرتبطين بالأنا العائدة ضمنا لأحد تيارات الاسلام السياسي .
لكن هل حقا أن المسألة يمكن قلبها إلى ” حكم العسكر ” ؟ هل الديكتاتورية بما تحمله من قمع ومصادرة للحريات وتغييب لإرادة الشعوب هي نتيجة بسيطة لحكم العسكر بحيث أن الخلاص من جحيم حكم العسكر سينقلنا بصورة آلية إلى جنة عدن المدنيين ؟
دعونا نتفحص قليلا تلك الموضوعة الشعبوية ليس لأهميتها الفكرية ولكن لرواجها وتأثيرها على الناس .
فأسوأ الديكتاتوريين قاطبة في العصر الحديث لم يكونوا من العسكر ولكن من المدنيين .
فأدولف هتلر زعيم ألمانيا النازية التي قادت العالم لأسوأ حرب في التاريخ ذهب ضحيتها مايقارب 45 مليون إنسان وتسببت في دمار ألمانيا وهزيمتها الساحقة . والذي قام بسحق أقوى الحركات العمالية الاشتراكية في أوربة واشتهر بعنصريته وبطشه ومخابراته التي كان يرتجف لسماع اسمها أي ألماني , هتلر هذا لم يكن جنرالا عسكريا .
بل كان زعيم حزب سياسي جاء للحكم عبر الانتخاب لكنه انقلب بعد ذلك لحزب استبدادي عنصري دموي .
وستالين الذي حكم الاتحاد السوفييتي بالحديد والنار , وقام بتصفية رفاقه في قيادة الحزب , وشرد شعوبا بكاملها منها شعب القرم التتري , والذي يعتبره كثيرون أسوأ بالبطش وسفك الدماء من هتلر لم يكن أيضا عسكريا بل درس اللاهوت في شبابه ثم انضم لحزب العمال الاشتراكي الروسي الذي استولى على السلطة في الثورة البلشفية عام 1917 وتوصل في الحزب للمناصب العليا ثم أصبح أمينا عاما للحزب الشيوعي السوفييتي بعد وفاة لينين وهكذا تسلم السلطة السياسية بصورة مطلقة وأصبح ديكتاتورا قاسيا الى حد الوحشية دون حدود ولا قيود .
ولماذا نبتعد عن المنطقة العربية ؟
فهل كان صدام حسين الذي حكم العراق كديكتاتور مع عدم إنكار مشروعه في بناء الدولة العراقية لكن الحديث هنا عن طريقة الحكم من حيث كونها ديمقراطية أو ديكتاتورية هل كان ضابطا في الجيش العراقي أم أنه صعد للسلطة كحزبي بعثي ؟
سوف أكتفي بالأمثلة السابقة للقول إن الديكتاتوريين لاينحدرون بالضرورة من الجيش , وليست الديكتاتورية هي ذاتها حكم العسكر .
فإذا انتقلنا لفساد الادارة وسوء أداء الحكم انفتح أمامنا باب أوسع للقول إن الفساد وسوء الحكم لايقتصر على العسكر .
وفي حالات كثيرة تسبب الفساد وسوء الادارة والتخاذل أمام الأجنبي في دفع العسكر لاستلام السلطة السياسية .
ثم ماذا يمكن القول عن ديكتاتورية مثل نظام الحكم في ايران ؟ هل هم أيضا العسكر أم رجال الدين ؟
وماذا يمكن القول عن فساد الحكم في لبنان وتسلط الميليشيات على الدولة والجيش اللبناني ؟
بل لعل أفضل مايحلم به اللبناني اليوم أن يحكم العسكر بدلا عن ميليشيات حزب الله .
إذن ليست المسألة ” حكم العسكر ” بل الديمقراطية أم الديكتاتورية , دولة القانون والمؤسسات أم دولة العصابات والميليشيات , أم الدولة على الطريقة الخمينية في نسخة أخرى ؟
لايعني ذلك مديح حكم العسكر , فلا حكم العسكر ولا حكم رجال الدين ( الدولة الخمينية ) ولا حكم الميليشيات بل الحكم الديمقراطي الذي يضمن الحريات العامة والخاصة وحق المواطنة المتساوي لكل المواطنين وانتخاب الحاكم بحرية وبناء المؤسسات التمثيلية الحقيقية وسيادة القانون واستقلال القضاء .
وعلى الذين يحاولون الإفلات من استحقاق الديمقراطية بموضوعات جوفاء أن يكفوا عن خداع الناس .