أرسى الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشاد نيكسون، أحد المبادئ المهمة في إدارة السياسة الخارجية الأمريكية حمل اسم «مبدأ نيكسون»، فرضته الظروف الأمريكية الصعبة للحرب الأمريكية في فيتنام. عندما وصل نيكسون إلى الرئاسة خلفاً للرئيس ليندون جونسون الذي فاقم توريط الولايات المتحدة في الحرب الفيتنامية، قرر ليس فقط سحب القوات الأمريكية من فيتنام بل (وهذا هو الأهم) التوقف نهائياً عن إرسال قوات أمريكية للقتال في الخليج، إلا في حالات الضرورة القصوى وللدفاع الاضطراري عن ذلك النوع المميز من المصالح الأمريكية المعروفة باسم «المصالح الحيوية»؛ أي المصالح التي لها علاقة مباشرة بحياة الشعب الأمريكي، دون غيرها من المصالح.
كانت «عقدة فيتنام» مستحكمة في المجتمع الأمريكي، لذلك جاء «مبدأ نيكسون» استجابة لمطالب داخلية مهمة، وحلاً لمعضلة مصادر تهديد مكثفة لمصالح أمريكية في مناطق وأقاليم متعددة في العالم.
نص «مبدأ نيكسون» على ضرورة القيام باختيار «حليف إقليمي» له مصداقيته والتزامه بالدفاع عن المصالح الإقليمية، وتدريبه وإمداده بكل أنواع الأسلحة والمعدات اللازمة التي تمكنه من الدفاع عن المصالح الأمريكية، على نحو ما حدث في الخليج عقب الانسحاب البريطاني منه عام 1971، حيث قررت الولايات المتحدة اعتماد إيران (الشاه) كحليف إقليمي تتولى به الدفاع عن مصالحها في الخليج والشرق الأوسط، بالتنسيق مع الحليف «الإسرائيلي»، لكن سقوط حكم الشاه فرض تحديات صعبة على الولايات المتحدة التي اضطرت إلى التراجع عن «مبدأ نيكسون» والحضور مباشرة في الخليج، خاصة بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت ثماني سنوات (1980 1988)، وتراجع الخطر السوفييتي على المصالح الأمريكية في الخليج مع دخوله مرحلة التفكك، وظهور القوتين الإيرانية والعراقية كمصدرين جديدين للتهديد من منظور التقييم الاستراتيجي الأمريكي.
استخدمت الولايات المتحدة «مبدأ نيكسون» في مناسبات كثيرة وتراجعت عنه في مناسبات كثيرة أيضاً، وها هي الآن توضع أمام الاختبار الصعب في أفغانستان في تجربة شديدة الشبه بالتجربة الفيتنامية؛ أي التعرض لخسائر مادية وبشرية وعسكرية فادحة نتيجة لسياسة التدخل العسكري المباشر والاضطرار للانسحاب والبحث عن الوسائل البديلة للحفاظ على المصالح بعد الانسحاب. واختارت واشنطن الحليف التركي للقيام جزئياً بالدفاع عن المصالح الأمريكية في أفغانستان، ومن بينها المحافظة على بقاء النظام الأفغاني الموالي، قادراً على حكم كابول العاصمة من دون إفراط في التفاؤل في تمكين هذا النظام من المحافظة على فرض سيطرته على كل الأراضي الأفغانية أو معظمها، وتحقيق الأمن والاستقرار المأمول. فهل تستطيع تركيا؟
يبدو أن تركيا ستعجز عن القيام بدور الحليف الإقليمي الذي يمكن الاعتماد عليه في المحافظة على نظام كابول، ومنع حركة طالبان من فرض سيطرتها على البلاد والتأسيس ل«ولاية إسلامية» على أنقاض تورط أمريكي امتد لعشرين عاماً.
هناك أسباب كثيرة ستمنع تركيا من أداء هذا الدور، لكن قبل الانخراط في التعرض لهذه الأسباب يوجد سؤال آخر مهم يفرض نفسه هو: لماذا لم تلجأ الولايات المتحدة إلى «الحليف الإسرائيلي» للقيام بالمهمة؟
إجابة هذا السؤال ستؤكد حتماً، محدودية الدور الوظيفي لتل أبيب في الدفاع عن المصالح الأمريكية، فهو إن كان قادراً على الدفاع عن بعض المصالح، فإنه أعجز عن القيام بأغلبها، خصوصاً في الأزمات ذات الخصوصية، كما هو الحال في أفغانستان ذات الخصوصية الإسلامية، وهذا ما أدركته الإدارة الأمريكية في تكليفها لتركيا بالقيام بمهمة حماية مطار العاصمة كابول (مطار حامد قرضاي) باعتبار تركيا دولة إسلامية، وجيشها يخدم في أفغانستان كقوة أساسية في حلف شمال الأطلسي.
من أبرز أسباب فشل تركيا في القيام بالمهمة، تلك التأكيدات الاستخباراتية الأمريكية التي تتوقع حدوث سقوط سريع لنظام كابول أمام التقدم المتسارع لقوات طالبان التي أضحت تسيطر على ما يزيد على 85% من الأراضي الأفغانية. في الوقت ذاته جاء هذا الطلب الأمريكي في ظل الظروف الداخلية الصعبة أمام الرئيس التركي أردوغان، وتشتت قواته بين ليبيا وسوريا والعراق، وفشله في مقايضة تدخله في أفغانستان مقابل المحافظة على نفوذه في ليبيا، فضلاً عن الملفات الأخرى الساخنة بين البلدين، مثل ملف أزمة صواريخ «إس 400» الروسية، وملف المعارض التركي فتح الله جولن المقيم في الولايات المتحدة.
تركيا غير مهيأة لأداء الدور خاصة أنها تراقب الحليف الأمريكي ينسحب بإرادته، مضحياً بحليف إقليمي آخر هو النظام الأفغاني. فهل تتورط تركيا في أفغانستان، خصوصاً أن طالبان أعلنت رفضها للدور التركي هناك إنقاذاً للحليف الأمريكي؟
المصدر: الخليج