حيثما يجلس نابليون

حازم نهار

سمعت أستاذي في الإعدادية يقولها “حيثما يجلس نابليون يكون صدر الطاولة” عندما أشار إليه مدير المدرسة ليجلس قريبًا منه في أثناء الإعداد لحفل مدرسي آنذاك. وفي الرواية الأصلية التي تُحكى عن نابليون بونابرت يُقال إنه دُعي إلى حفل عشاء، فجاء متأخرًا عن موعده، فجلس على أول مقعد وجده، فقال له صاحب الدعوة والعرق يتصبب من جبينه: يا سيدي هذا ليس بمكانك.. مكانك في المنصة، فردّ نابليون بثقة: أينما يجلس نابليون تكون المنصة!
التنافس على المكانة والصورة والموقع والمنصب واللقب والمقعد والمنصة ظاهرة مستشرية، ويُصرف فيها وقتٌ وجهدٌ كبيران، وتُستخدم فيها وسائل غير نزيهة أحيانًا، وأدوات مضلِّلة أحيانًا أخرى، ويتخلّلها كثير من الكذب والنفاق في أغلب الأحيان. فالمجالس الشعبية والرسمية والاحتفالية، والمؤسسات السياسية والاقتصادية والإعلامية، وغيرها، كلها تكون عادة ميدانًا للتنافس على الجلوس في أقرب مكان إلى المقدمة.
تشيع أيضًا ظاهرة التنافس على الاقتراب من الرجل الأول، في الحياة الاجتماعية، أكان زعيم طائفة أم شيخ عشيرة، وفي الحياة السياسية يجري التنافس على العلاقة مع رئيس الحزب أو الأمين العام. وفي المؤسسات الثقافية والاقتصادية والإعلامية تشيع ظاهرة التملق للرئيس أو المدير أو الشخصية الأولى، فكلما كان المرء أقرب إليه كان أكثر مكانة وحظوة، بصرف النظر عن مؤهلاته وإمكاناته. لكن في الحقيقة، كلما ازداد المرء هشاشة ازداد سعيه للاقتراب من التمسّح برؤسائه، وقد يكون الاقتراب في حدّ ذاته وسيلة لتغطية العجز الذاتي أو بقصد الحصول على الاعتبار أو الفوائد المادية. إذا قال المدير شيئًا سنجد مديرًا أقل رتبة ينقل عنه، ويروِّج له، من دون تفكير، وهذا الأخير سيجد مديرًا أو موظفًا أقل رتبة منه يًروِّج له هو الآخر، وهكذا، حتى لنشعر أننا أمام سلسلة من النفاق تشبه السلاسل الغذائية، كلٌّ يتغذى من/أو على غيره. وتكون المشكلة أكبر عندما تغذي الشخصية الأولى هذه الظاهرة أو تقبل بها ضمنيًا.
هناك ظاهرة شائعة تتجلى بمن ينصِّب نفسه لموقعٍ غير جديرٍ به، فقد يتعمّد أن يأتي باكرًا إلى جلسة أو مؤتمر لمنح نفسه موقعًا مميزًا، أو ربما يحصل على الموقع بسبب قربه أو تقربه من صاحب المنصب الأول، وقد يكون احتلاله لموقع ما مجرد احتلالٍ أجوف لمقعد هو دونه بمراحل. مثل هذه الظواهر حدثت كثيرًا في سياق الاجتماعات السياسية للقوى والتشكيلات المدنية والسياسية في سورية.
في يوم الإعلان عن “المجلس الوطني السوري”، في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، ظهر أعضاء مكتبه التنفيذي جميعهم على المنصة، في حركة تدلّ على تنافس شديد الوضوح على “أضواء المنصة” و”سحر الميكروفون” وعلى الظهور في الصورة، خاصة أن السوريين كانوا ينتظرون وقتها مركزًا قياديًا سوريًا يدير شؤون ثورتهم. تعمقت هذه الحال وازدادت وضوحًا مع رغبة أكثرية العاملين في الحقل العام في الظهور الإعلامي، ولم يكن من النادر، خلال العقد الماضي، رؤية اصطفاف عدد من السيدات والسادة وراء الميكروفون في سياق حدث ما أو عند إصدار بيان أو تصريح ما، في مشاهد تُذكِّر بمشاهد المعارضة العراقية التي استلمت الحكم بعد إسقاط نظام صدام حسين، وهي ما زالت اليوم تُكرِّر المشهد الكاريكاتوري ذاته بعد نحو ثمانية عشر عامًا على الرغم من أنها أصبحت في الحكم. منذ نحو عام، في المناطق الواقعة تحت سيطرة “المعارضة السورية”، اصطفّ عدد من الأفراد الذكور، من “الائتلاف الوطني” و”الحكومة المؤقتة”، وربما من هيئات أخرى، بجانب بعضهم بعضًا، وشكلوا صفًا واحدًا، وحمل جميعهم المقصات، لقصّ شريط واحد في إحدى المناسبات!
في التوقيع على البيانات العامة مثلًا، بقصد تحشيد الرأي العام، يُلاحظ اهتمام كاتبيها بمواقع أسمائهم في قائمة موقعي البيان أكثر من البيان ذاته. يكتبون البيان ويضعون أسماءهم في مقدمة الموقِّعين في حالة أشبه ما تكون بحجز صدر المجلس لهم، مع أن هناك طريقة سهلة في هذه الحالة لا تضرّ أحدًا، ولا تقلِّل من قيمة أحد، ولا تشعل صراعًا على المقدمة؛ ترتيب أسماء الموقعين بحسب التسلسل الأبجدي.
تحتل ظاهرة النزاع على صدر المجلس، مكانة كبيرة في ذاكرتنا وعقليتنا، وفي حياتنا الاجتماعية، وهي ظاهرة شديدة الذكورية، لا تحدث في أوساط النساء بحكم غيابهن عن الحياة العامة أو تحدث في نضاق ضيق جدًا بين النساء اللواتي يعملن في الميادين الثقافية والسياسية والمدنية. صديقي الذي كان أقل طلاب الثانوية اجتهادًا وإنجازًا علميًا، واضطُرّ إلى ترك الدراسة، التقيت به بعد سنوات في مجلس عزاء، فإذا به يجلس في صدر المجلس، يهدي الناس ويحدِّثهم في شؤون الدين والدنيا بلغة يُسمّيها لغة عربية فصحى، وهم يستمعون إليه باهتمام، مع أنه كان يخطئ عشرة أخطاء نحوية في الثانية. صديقي “المتدين” أو “الشيخ” الذي كان كسولًا، ولا يعرف الفعل من الفاعل، أصبح في صدر المجلس لأنه لبس العمامة ويحفظ عددًا من الآيات القرآنية.
يتوزّع الناس في المجالس الشعبية والاجتماعية على فئاتٍ ثلاث؛ فئة صدر المجلس، وتضم أصحاب المكانة الاجتماعية والأصل العشائري، وكبار السن ورجال الدين، وأحيانًا بعض الضيوف. أما الثانية فهي فئة المتزاحمين على الأماكن القريبة من صدر المجلس. أما الثالثة فهي الفئة العامة أو الشعبية التي يجلس أفرادها في أماكن بعيدة من صدر المجلس، وتقل أهمية الشخص بحسب بعده عن صدر المجلس، وأسوأ مكان هو القريب من الباب، وهذه الفئة غالبًا لا تنافس أحدًا. يظهر التنافس بين أفراد المجموعة الثانية كما يقول دكتور علم الاجتماع عبدالرحمن بن عبدالله الشقير، على الجلوس قريبًا من صدر المجلس، ولذلك يكونون في حاجة إلى الاعتراف الاجتماعي بمكانتهم من قبل الفئتين الأولى والثانية؛ فئة الكبار في صدر المجلس، والفئة العامة أو الشعبية، وهذه الأخيرة يمكن لها أن تمنح المتنافسين الاعتراف أو أن تحجبه عنهم، بحكم كونها الفئة التي تروِّج للآخرين.
في العمل الدبلوماسي هناك أيضًا صراع على مكان الجلوس في اللقاءات والمؤتمرات والحفلات، وربما تكون لهذا الأمر، في هذه الحالة، مبرراته وضروراته التي تستند إلى مجموعة من المعايير المنطقية؛ مثلًا درجة قوة الدولة التي يمثلها الدبلوماسي أو مستوى العلاقات بين الدول، وغيرها. لكن مع الزمن، أصبح هناك تراث دبلوماسي ضخم تُحدَّد في ضوئه قواعد السلوك في اللقاءات والمجالس، وأصبح عدم التقيد بها مصدرًا للإساءة إلى العلاقات بين الدول.
بالعودة إلى نابليون بونابرت وعبارته الثمينة؛ إن قيمة الفرد هي قيمة ذاتية أولًا وأخيرًا، فإن كان ذا قدرة وعلم لن يكون في حاجة إلى أن يضيِّع وقته في التنافس والصراعات، ولا إلى ممارسة النفاق بقصد الحصول على الحظوة، وسيركِّز جهده على تنمية الذات وتحقيق الإنجازات وتقديم الفائدة للذات والآخرين، وسينظر باستخفاف أو تجاهل إلى كل من يسير في هذه الطرق البسيطة التي تشير بوضوح إلى هشاشة أصحابها، وإلى فقرهم الروحي وفقدانهم الثقة بأنفسهم.

المصدر: ميسلون للثقافة والترجمة والنشر

زر الذهاب إلى الأعلى