باستثناء فترة الحكم الأموي، لم تكن سورية ذات حضور مركزي قائد في المنطقة. ويصلح هذا الوصف للفترة منذ انتشار الإسلام وتجذّره ضمن إطار العروبة، وفق مفاهيم متفاوتة في الدلالة، حسب تطوّر مصطلحي العروبة والإسلام ذاتهما. لقد أمْلَتْ الصراعات البينية على السلطة، والتي ثارت أواخر عهد الخليفة عثمان بن عفّان، على الأمويّين من أبناء عمومته التمترس في دمشق، لصيانة مُلكهم العضوض الذي نصحهم كبيرهم أبو سفيان بالعضّ عليه بالنواجذ والأنياب، وبتقاذفه بينهم تقاذف الكرة. لقد كانت قوّات الأمصار القادمة من الكوفة والبصرة ومصر قادرةً على إطاحة الخليفة ذي النورين، بعد حصار دام أربعين يوماً حسبما يذكر الطبري والبلاذري وغيرهما من المؤرّخين الإسلاميين. وقد كان في وسع معاوية (حكم دمشق أربعين عاماً منها عشرون والياً وعشرون أميراً للمؤمنين) إرسال جيش جرّار خلال هذه الفترة لفكّ الحصار عن ابن عمّه، لكن، يبدو أنّ اعتبارات السياسة، والنظر بعين الطامع للحكم من سدّته، فرضت عليه التريّث، ليكتب التاريخ أكبر مأساةٍ سياسيةٍ دينيةٍ في تاريخ الإسلام، حديث النشأة آنذاك بعد حروب الردّة.
لعلّ هذه الضرورة، أو مجموعات المصادفات وتقاطع الاحتمالات، هي ما صنع لدمشق هذه المكانة المميزة في التاريخ الإسلامي. لكن، لو نظرنا إليها بغير هذا المنظار، لوجدنا أنّ سورية، المعروفة باسم بلاد الشام، كانت على مرّ التاريخ مسرحاً للصراع بين الإمبراطوريات والممالك والأحلاف. ولعلّ التاريخ القريب يذكّرنا باحتلال إبراهيم باشا هذه المنطقة قبل إعادتها بمساعدة الغربيين إلى السيطرة العثمانية، وكذلك نستذكر قادة المنطقة من أبناء الشريف حسين وتأسيس الممالك السورية والأردنية الهاشمية، وحتى العراقية، على يد أبنائه، قبل إطاحة الحلم العربي على يد البريطاني سايكس والفرنسي بيكو. ثم لا ننسى حلف بغداد ومراكز الثقل الكبرى بالتشارك مع القاهرة والرياض.
على الرغم من الموقع الاستراتيجي لسورية، فإنّه لم يكن لها في العصر الراهن سوى أدوار ملحقة وتابعة، وما كانت لتستطيع وحدها أن تتزعم قيادة العالم العربي. وباستثناء الخطابة الجوفاء عن الوحدة العربية، والتي تميّز بها عهد حزب البعث منذ انقلاب 1963، لم يكن للحضور السوري سوى مواقع التخريب على الحضور العربي. وربّما كانت الفترة اللاحقة لاتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل أهمّ مرحلةٍ بالنسبة لهذا الدور، إذ قاد حافظ الأسد خلالها، وعبر خطاباته العنترية، موجة القومية الجوفاء. وهي كذلك بكلّ جدارة، لأنّه اصطفّ مع الإيرانيين الفرس في حربهم ضدّ العراقيين العرب، فكان خنجراً بظهر القومية العربية التي طالما صدّع رؤوسنا بها.
والآن، والحال التي أوصل سورية إليها حكمُ الأسد وابنه لا تخفى على أحد، وبعد عشر سنواتٍ من حرب طاحنة على سورية وشعبها، حربٍ لم يبقَ من دول الجوار القريب والبعيد من لم يشارك بها بقسط كبُر أو صغُر، لا بدّ من حلّ ينهي مأساة العصر. ملامح هذا الحل عربيّة بالضرورة، ولا يمكن أن ينقذ هذه المنطقة من براثن التغيير الديموغرافي المرسوم بحرابٍ إيرانيةٍ والمحمي بسلاح الجو الروسي، سوى درع عربي. وبغضّ النظر عن موقف أنظمة الحكم في الدول العربية القادرة على رفع هذا المشروع من قضايا ثورات الشعوب وحقوقها، إلّا أنّ قضايا الأمن القومي العربي تفرض عليها أن تُدرك مدى التهديد الذي يحيق بها جرّاء تنكّبها عن الوقوف مع سورية وشعبها.
لقد بات الهلال الشيعي، وهو في الحقيقة قومي إيراني بصبغة طائفية دينية، والذي حذّر منه ملك الأردن، عبد الله الثاني، قبل أعوامٍ طوال، واقعاً لا جدال فيه. والواجب الآن التحرّك بجديّة لدعم القوى المحلّية التي يمكن أن تشكّل قوس الصدّ العربي في مواجهة هذا الهلال الإيراني. يجب أن يتوسّع التفاهم المصري الأردني العراقي الذي بدأت ملامحه الاقتصادية تظهر أخيرا ليشمل السعوديّة. هذا هو العمق الاستراتيجي الحقيقي لسورية، والأخيرة لا وجود لها ولا قيامة إلّا بعمقها العربي. وعلى قادة هذه الدول أن يوازنوا بين اعتبارات السياسة والأمن القومي لدولهم وبين مصالح الشعب السوري بالانتقال السياسي. يجب أن يدركوا أنّ بشار الأسد ليس قادراً وليس راغباً بإخراج سورية من حضن إيران، وعليهم أن يقبلوا بتطلّعات السوريين التي من دونها لن تنجح دولهم بتحقيق أمنها على المدى البعيد، فلا يمكن القفز على إرادة شعبٍ حارب عشرة أعوام من أجل حقوقه.
لا يتوقف التغلغل الإيراني في سورية على بناء قواعد عسكرية، ولا على الاستيلاء على المرافق الاقتصادية، وهو ليس مثيلاً للوجود الروسي بأي شكل كان. إنّه نوعٌ من الاحتلال الاستيطاني بأدواتٍ لم يعرفها العالم من قبل. وقد أثبتت هذه الأدوات نجاعةً فائقةً بتخريب المجتمعات وتفتيتها عبر أربعين عاماً ونيّف من سيطرة الملالي على مقاليد الحكم في إيران. لا يُقارن الخطر الاستيطاني الصهيوني بأيّ حال بالخطر الإيراني. يجب أن يفهم العرب أنّ هذا الغول لا يهدف إلى نهب ثرواتهم فقط، بل إنّه يحارب من أجل تغيير جيناتهم القومية والدينية عبر المتحوّل الطائفي. لا يستهدف هذا الاستيطان إحلال قومٍ آخرين مكان العرب، بل يريد تغيير هؤلاء بتغيير عقائدهم، ومن خلف ذلك يريد محو ليس الحاضر فقط، بل والماضي قبل المستقبل.
ما زال الوقت سانحاً لانتشال سورية من بين براثن هذا الغول، وعلى العرب أن يبحثوا مع الوطنيين السوريين عن أسس تدعيم قوس الصدّ العربي هذا. عليهم أن يدركوا أنّهم بحاجة لشركاء لا لعملاء. السياسة والمصالح القومية تفرض عليهم أن يساعدوا أشقاءهم لبناء قواهم السورية ببعدها العربي. ولأجل ذلك، عليهم أن يساعدوهم بصناعة هذه الطبقة السياسية الوطنية، التي ستُنجز حصّتها من مشروع الأمن القومي العربي، عندما تنجز مشروعها الوطني السوري بالتحرّر من الاستبداد والخلاص من حكم الأسد. سورية اليوم مريضة، وشعبها منهكٌ، حائرٌ، خائر القوى، وعلى إخوتها أن يقفوا معها، قبل أن يأتي يومٌ لا ينفع فيه الندم.
المصدر: العربي الجديد