جمال الدين الأتاسي ومحاولة تغيير البنية العربية

آلاء عوض

مُفكّر سوري قومي عربي، شغلته الوحدة العربية؛ فدأب يبحث عن جذورها، محاولًا إيجاد عقدة متينة تربط بين أوصالها المتقطّعة، وجذبته المناهج الفكرية الحديثة فراح يتعمّق فيها، مُسلطًا الضوء على أبعادها الجيدة، ومنتقدًا أخطاءها، فكان منهجه الأساس الذي يعتمده في القول والفعل (النقد المزدوج طريقٌ للاستيعاب).

ولد جمال الدين الأتاسي عام 1922، لعائلة معروفة في مدينة حمص بعراقتها وأصالتها، ودرس في فرنسا، وحصل على شهادة دكتوراه في طب النفس والعقل، وبعد عودته إلى سورية زاول مهنته، وتسلم رئاسة مستشفى ابن سينا للأمراض النفسية في دمشق.

ساهم في تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي مع صلاح البيطار وميشيل عفلق، ولكنه ما لبث أن تركه، وأعلن عن توجهاته الناصرية، لكونه من المؤمنين بالاشتراكية والقومية، ووصفه الصحافي غسان الإمام بـ (أبي الاشتراكية السورية)، في سعيه لإعادة صياغة الفكر السياسي العربي، بناءً على أسس تاريخية وديمقراطية قومية.

كان للمفاهيم الوطنية كالعَلمانية والحرية والديمقراطية عنده مكانة خاصة؛ فسعى إلى توضيحها وإلباسها ثوبًا أنيقًا بسيطًا؛ لكي يَسْهُل فهمها ويُستساغ تطبيقها، وعلى الرغم من انحداره من عائلة أرستقراطية ثرية، إلا أنه انتقد العقلية النخبوية التي لا تضع الجماهير الكادحة مركز اهتمامها وخططها.

عندما حدثت الوحدة بين سورية ومصر، في 22 شباط/ فبراير عام 1958، كان من أبرز مؤيديها ومناصريها ( كان من بين الفريق السوري المشارك في محادثات الوحدة في القاهرة)، فكانت بالنسبة له الحلم القومي الذي يستطيع ترميم هفوات القيادات العربية المتفكّكة، وعدّها طريقًا للنهضة، ومع ذلك لم يكن متشددًا غير مبصر لأبعادها فانتقد أخطاء قياداتها وحاول شرح مقوماتها.

بعد وفاة جمال عبد الناصر أدرك حجم الغياب الكبير الذي تركه، وتلمّس الحاجة الماسة لقيادة جماعية، تملأ الفراغ الذي تركه، دون التركيز على إيجاد بديل مُشابه؛ فكانت سياسته عقلانية حكيمة، تجاوز من خلالها كل من سبقه من المفكرين الناصريين الذين دأبوا على إعادة إنتاج قيادة أخرى بحجم عبد الناصر.

شغل رئاسة تحرير جريدة (الجماهير)، التي كانت تصدر من دمشق، في أثناء الوحدة، حيث صدرت لمدة 200 يوم فقط، حاول من خلالها أن ينتقد بعض الممارسات الخاطئة للأجهزة، مرة بالكلام وتارة بالصمت الذي اعتمده نهجًا؛ لجعل القادة يشعرون بأخطائهم ويتداركونها.

بعد الانفصال الذي حصل في 28 أيلول/ سبتمبر العام 1961، نقد تجربة الوحدة بكل جرأة، وتحدث عن الأسباب التي سهّلت للطغم المجرمة فعل ما استطاعت فعله في الأمة الموحّدة، وتابع نشاطه السياسي والثقافي؛ فأشرف على إصدار جريدة البعث وخطها السياسي، كما أصدر “كراسي” في الفكر السياسي؛ حيث ظهرت أسماء جديدة رعى الأتاسي تقديمها، وكان أبرزها ياسين الحافظ، وعندما قام انقلاب الثامن من آذار/ مارس 1963، أيده بقوة، وعُيّن وزيرًا للإعلام في أول وزارة أُلّفت بعد تلك الحركة، ثم انسحب منها بعد خلافه مع الضباط البعثيين، كما أيدّ حركة 18 تموز/ يوليو عام 1964، وبعد فترة وجيزة، بدأ عمله السياسي المعارض أمينًا عامًا لـ “حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي”، الذي بقي فيه حتى وفاته.

اعتُقل عام 1968، وخرج ليتابع معارضته للحكم، وبعد انقلاب حافظ الأسد، مطلع السبعينيات، شارك في ما يسمى بـ “الجبهة الوطنية التقدمية”، ولكنه عندما اكتشف الكذب والنفاق فيها أعلن انسحابه منها في العام 1972، وكثّف عمله السياسي المعارض؛ حيث أسس مع مجموعة من القوى والمفكرين السياسيين، ومنهم رياض الترك، وياسين الحافظ، التجمع الوطني الديمقراطي الذي ترأسه حتى وفاته.

توفي مطلع العام 2000، عن عمر يناهز الـ 78 عامًا، وبقي طوال حياته مؤمنًا بالوحدة، ومناديًا بتحقيق الحرية التي عدّها المبدأ والأساس؛ فقال في إحدى مقالاته: “إننا حين نضع التأكيد على الحرية في البداية، كمنطلق لا بد منه، سواء في بناء حركة النضال، أو في بناء تلاحم القوى الوطنية والقومية، أو في تصوّر طريق النضال وطريق البناء، وفي تصور النظام الذي نطالب به، ونريد أن نبنيه، نستطيع أن نتصدى لمرحلة التحوّل التي تمر بها أمتنا على يد نظم الاستبداد والردّة”.

في ذكرى وفاته الأولى في العام 2001، نظّمت مجموعة من الناشطين والمثقفين -تكريمًا له- منتدىً سياسيًا فكريًا، باسم (منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي)، وكان على مدار سنوات قليلة منبرًا حرًا، شرع أبوابه لكل المفكرين والسياسيين، ممن رغبوا في طرح الرؤى والأفكار، وعُرفت تلك المرحلة بربيع دمشق، ولكن النظام -كعادته- لم يكن نزيهًا، وتعامل مع المنتدى بطريقته المخابراتية؛ فلم يترك له ولا لرواده الحرية والشفافية؛ ما أدى إلى إغلاقه.

المصدر: جيرون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى