في أصل “الحدوتة” الطائفية للجيش السوري

عبير نصر

عندما طالب العالمُ كلّه برحيله، وظنّ أنّه ساقطٌ لا محالة، تمكّنَ جيشُ النظام السوري من حماية عرّابه في أسوأ الأوضاع، ولم ينقلب عليه كما في دولٍ أخرى، وهذا ما جعل بشار الأسد نموذجاً استثنائياً في ما عُرفت بثورات الربيع العربي. وبالتفكير مليّاً في أصلِ السردية الطائفية للجيش السوري، الذي ضُخّ فيه العنفُ المُمنهج وفقاً للاستنساباتِ السياسية للنظام الحاكم، فإنّ نواةَ هذا الجيش تأسّست ما بعد اكتمال احتلال الفرنسيين سورية، الذين أعلنوا عن افتتاحِ مكاتب “قوات الشرق الخاصة”، لتجنيدِ الشبّان، خصوصا من الأقليات، فالتحقت بها أعدادٌ كبيرةٌ من العلويين الذين ركزتْ فرنسا، بشكلٍ رئيسي، على انضمامهم إليها، كما انخرط بها شبّانٌ من الإسماعيليين والأرمن والأكراد والشركس، وبات عديدها جاهزاً عام 1921. وفي الحقيقة، وفّرت هذه القوات للشبّان العلويين عملاً ودخلاً مستقراً في ظلّ البطالة العالية في الجبل، بالإضافة إلى انفتاحهم الواسع على العالم الحديث، بعد قرونٍ من العزلةِ والتهميش والاضطهاد. وكان الغرض من إنشائها استخدامَها قوّةً محليّةً ضاربة، للتصدّي لأيّ تحرّكٍ ضد الانتداب في أنحاء سورية كافة.

ومع مرورِ الوقت تصاعد نفوذُ الضباط العلويين في القواتِ الخاصة، ونمتِ التجربةُ العسكرية في أوساطِ شباب الطائفة. إثر ذلك، تدارستِ القوى الوطنية وضعَها بقلقٍ شديد، نظراً إلى ارتباطها بالمؤسسةِ العسكرية الفرنسية. وبينما رأى القسمُ الأعظم ضرورةَ حلّها بعد جلاء الفرنسيين، فريقٌ آخر اقترح بقاءها لتكونَ نواةً للجيش الوطني، بعد التأكّد من وطنيّة ضباطها. بحكم أنّ أصحابَ الرتب العالية من هذه القوات كانوا من أبناء الأقليات الذين يغلب ولاؤهم العائلي والإثني والطائفي على ولاءاتهم الوطنية والقومية. وبعد الجلاء، قرّرتِ الحكومةُ فتحَ بابِ الكليّةِ العسكرية في حمص لجميع أبناء سورية من دون أدنى تمييز. وفي حين كان أبناءُ المدن يشقّون طريقهم إلى الوظائف الحكومية والمهنِ الحرّة، جذبت الكليةُ العسكرية أبناءَ الأقليات الذين لم يأملوا في الحصولِ على فرصِ عملٍ لضعفِ تأهيلهم العلمي والمهني، فوجدوا في السلكِ العسكري وظيفةً واعدة. وقد استثمرتِ الأحزابُ العقائدية التي كانت قد بدأت في التشكّل هذه الفرصة، كي تدفعَ الشبّانَ من أعضائها (والقسم الأكبر منهم من أبناء الأقليات) إلى الانتسابِ للكلية الحربية، فيصبحوا ضباطاً تعتمد عليهم في تحقيق طموحاتها السياسية لاحقاً. في وقتٍ ارتكبت فيه العائلاتُ المدينية التجارية، وعائلاتُ الملّاكين في الأرياف، غلطةً تاريخية سيدفع أفرادها ثمنها غالياً لاحقاً، تجلّت في تعاليهم عن الخدمةِ في الجيش، ما جعل أعداءهم الطبقيين أصحاب نفوذٍ وسلطةٍ في القواتِ المسلّحة، استعملوها في ما بعد لاستلامِ مقاليد الحكم في سورية.

وبعد الاستقلال، شكّلتِ الأقلياتُ المذهبيةُ والعرقيةُ نواةَ الجيش الوطني، من جنود وعرفاء ورقباء وصغار الضباط. كما أنّ انتشارَ العقائد والتيارات السياسية في هذه الفترة جعل من الجيشِ الحاضن الأساسي لتفريخِ الثوراتِ والانقلاباتِ المسلحة، في وقتٍ بدأتْ فيه روائحُ التكتّل الطائفي تفوح داخل الجيش السوري بعد انقلاب 8 آذار/ مارس (1963). وبدل أن تكونَ الطائفيةُ مُعطىً وجودياً قَمَعَه نظامٌ علمانيّ مُفترض، كانت في الواقع ثمرةَ السلوك السياسي لهذا النظام بالذات. والتسريحاتُ بالمئات استهدفت جميعَ الضباط من أبناء المدن الكبرى، حتىّ فرغتْ أسلحةٌ كاملة من ضباطها الرئيسيين، كسلاحِ الطيران، وسلاح البحرية، والآليات. كذلك اتُبعت الخطة نفسها حيال صفّ الضباط والجنود، حتّى أصبح من المتعارف عليه أنّ ألويةً كاملة، بأركان حربها وصفّ ضباطها وجنودها، وقفٌ على طوائف معينة، كاللواء السبعين واللواء الخامس مثلاً.

وبفعلِ جملةٍ من التظلّماتِ الناجمةِ عن سلطةٍ سياسيةٍ انتهازية، أُعيد إنتاج المزايا التفضيلية الطائفية التي طُبّقت على أعلى المستويات، فكان الضباطُ “الموثوقون” من الأقليات يتكتلون في قطاعاتِ الجيشِ الهامة سياسياً واستراتيجياً القريبة من دمشق، بينما استبعد “غير الموثوقين” على الأساس نفسه لكونهم من السنّة. ولم تقتصر الروابطُ الطائفية على القيامِ بدورٍ هامٍ في تعيينِ الضباط في المراكز العسكرية العليا، بل أيضاً في المستوياتِ الدنيا، وكان من الممكن أنْ تتلاشى سلطةُ القادة السنّة على الطواقم العلوية إلى الصفر، لدى إعطاء الضباط العلويين العاملين في الوحداتِ المسلّحة الأخرى تعليماتهم لأقرانهم في العقيدة بعدم تنفيذِ الأوامر. وقد تمَّ التعبيرُ بوضوحٍ عن مثل هذه الاتصالات الجانبيةِ المحظورة في تصريحاتِ اللواء محمد عمران، الذي أعلن صراحةً أنّ محمود حمرا (المتحدر من حماة) لا يستطيع قيادة كتيبته في اللواء السبعين المدرّع، لأنّ 70% من صفّ الضباط في الكتيبة يقودهم علي مصطفى المؤيد لمحمد عمران.

وثمّة أدلة قطعية على وجودِ استراتيجيةٍ ممنهجة داخل الجيش، تستهدفُ تفجيرَ الصراعِ الطائفي بين الأقليات الريفية الضاربةِ جذورها في منابع الخوف والتهميش، وبين الكتلةِ المدينية العريقة سياسياً. في وقتٍ سعى الجميعُ فيه، وبشكلٍ فجّ، إلى الاستحواذِ على السلطة من منطلقٍ جهوي أو طائفي. وما لبث أنْ ازداد عددُ أعضاء الأقليات في سلكِ الجيش السوري على حسابِ الأغلبية السنيّة، واستدعى هؤلاء عديدين من الضباط وصفّ الضباط، الذين تربطهم بهم أواصر عائلية أو عشائرية لتعضيد مراكزهم الجديدة التي حصلوا عليها بصورةٍ سريعةٍ في انقلاب عام 1963. وعلى الرّغم من أنّ رئيسَ البلاد، ورئيسَ المجلس العسكري، ووزيرَي الدفاع والداخلية، كانوا من السنة، فإنّ الضباط العلويين البارزين، أمثال صلاح جديد وحافظ الأسد، قد حظوا على الدوام بمساندةِ جماعاتٍ عسكريةٍ قويةٍ من الأغلبيةِ العلوية التي التفّت حولهم. وأصبح اتهامُ الرئيس أمين الحافظ لرئيسِ الأركان صلاح جديد علنياً بأنّه يعمل على بناءِ كتلةٍ علوية طائفيةٍ داخل الجيش، الأمر الذي أدّى إلى نشوء كتلتين متنافستين عملت كلٌّ منهما لضمانِ بقائها: كتلةٍ سنيّةٍ التفت حول أمين الحافظ، وأخرى علوية التفت حول صلاح جديد وحافظ الأسد. وأدّى هذا الاستقطاب العلني والطائفي داخل الجيش السوري إلى وقوع انقلاب 23 شباط/ فبراير (1966)، فقُضي على أمين الحافظ بالسجن ثم بالنفي إلى لبنان عام 1967. بعدها تولى صلاح جديد منصبَ أمين عام مساعد للقيادة القُطرية لحزب البعث، أما حافظ الأسد فقد ترقّى من قيادةِ سلاح الطيران ليصبحَ وزيراً للدفاع. كلّ هذا من خلف رئيسٍ مدني صوري لم يكن يملك من أمره شيئاً، هو نور الدين الأتاسي.

وأسفر انقلابُ شباط عن تصفيةِ مزيدٍ من القياداتِ البارزة للضباط السنّة، ليزدادَ تمثيلُ أعضاء الأقليات الدينية مرّة أخرى، لكن هذه المرّة من دون توازنٍ واضح. وبعد إطاحةِ صلاح جديد، الندّ القوي لحافظ الأسد، نصّب الأخير نفسه أوّلِ رئيسٍ علوي في صورةٍ فاقعةٍ لديكتاتورٍ مستبدّ، ليبدأ فصلٌ جديدٌ من احتكارِ السلطة وتوريثها في بيت الأسد، القائم على إرثٍ ثقيلٍ من الحتميات الطائفية والعنصرية. وعلى الرغم من تقلُّد الضباط التابعين لطوائف دينية أخرى مهامَّ عسكرية عليا، فإنّ أغلبيةً علويةً تسيّدتِ المناصب المفصلية والحسّاسة في الدولة السورية، وكانت قادرةً على سحقِ أيّ مقاومةٍ أو انقلابٍ محتمل ضدّ النظام الحاكم. لتدخل سورية منذئذ حقبةَ دولةٍ براغماتية تستثيرُ المشاعر الطائفية لحمايةِ سلطتها الاستبدادية المقدّسة، يحميها جيشٌ عقائدي مبرمجٌ على ذاكرةِ الخوفِ واللاثقةِ الطائفية، مؤمناً بأنّ حمايةَ النظام هي حمايةٌ للطائفةِ المضطهدة تاريخياً، وأنّ زوالها “حكماً” من زواله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى