المعارضة السورية والحاجة إلى وقفة تأمل

حازم نهار

هذا كلام قديم جيد، كتبته مرات عديدة، وبطرق مختلفة، طوال السنوات العشر الماضية، وما تكراره اليوم، على الرغم من كراهيتي، وكراهية سائر البشر الفطرية للتكرار عمومًا، إلا نتيجة أن المسألة السورية كانت في حدّ ذاتها شكلًا من أشكال التكرار الكريه، والمؤلم، في كل شيء، تكرار واجترار من دون أي نقطة ثابتة ننطلق منها لرسم خط مستقيم، ولو بشكل متقطع، نحو الأمام.

أعلن “الائتلاف الوطني” أنّ انتخاباته ستجري في موعدها المحدّد، في 11 و12 تموز/ يوليو 2021، مشيرًا إلى أنّ منصب رئاسة الائتلاف أتى عليه 8 رؤساء خلال 9 سنوات. عادة ما تكون هذه المناسبة “الديمقراطية” فرصة للتندّر أو لشتم الائتلاف أو لكثرة المبادرات التي تسعى لتقديم بديل عن الائتلاف ممن هم خارجه. في الحقيقة، أصبح هذا الحدث، في حدّ ذاته، نكتة منذ سنوات، لكنها نكتة تثير الألم إلى جانب الضحك، نكتة تعادل في سماجتها نكتة “انتخابات” “النظام السوري”. عند “الائتلاف الوطني” إسهال انتخابي، وعند “النظام السوري” إمساك انتخابي. لا يوجد حل وسط، وفي الحالتين تصبح الانتخابات غير مهمة أو بلا قيمة؛ في الأولى من فرط الاستهتار بالمنصب، وفي الثانية من فرط الاستهتار بالبشر، على أن الجهتين تشتركان في الاستهتار بالعقل والمنطق. كثرة الانتخابات وتداول المنصب دليل أزمة وليست دليل صحة، على العكس هي دليل على عقل “قرباطي” لا على عقل “ديمقراطي”.

لا أحد راضٍ عن أداء “المعارضة السورية”، خاصة “الائتلاف الوطني”. لكن، للأسف، في النقاشات والندوات التي تحصل بين فينة وأخرى يتركز النقد في معظمه حول مسألتين فحسب؛ الأولى، تبعية “المعارضة السورية” و”الائتلاف الوطني” إلى الدول، والثانية اتهام الائتلاف بالفساد وعدم الشفافية المالية، ليأخذ النقد في الحصيلة شكل شتائم، وكأن لسان حال المنتقِدين يقول “هم تابعون وفاسدون، فيما نحن لسنا تابعين ولا فاسدين، فلماذا لا نكون مكانهم، وإذا أصبحنا مكانهم فإننا سنستطيع قيادة المعارضة والثورة”. هذا جوهر كل النقد للمعارضة، وهو نقد سطحي وهزيل.

تحتاج “المعارضة السورية” إلى نقد أكثر تشريحًا وعمقًا، وإلى الإقرار أولًا أن من هم خارجها ليسوا بمنأى عن النقد أيضًا. البقاء في ساحة النقد/الشتم السابق يشير إلى أن المنتقِدين لن ينتجوا تجارب سياسية أفضل حالًا من تجربة “الائتلاف الوطني”. النقد ضروري في كل لحظة، لكن نقد الائتلاف تحوَّل إلى طريقة سهلة لتحصيل صك براءة من كوارثه طوال السنوات الماضية (اشتم الائتلاف وتحصل على جائزة أو صك براءة)، مع أن أغلبية السياسيين والمثقفين والثوريين والناشطين، شاركوا الائتلاف في منطلقاته وتصوراته وتحليلاته وخطابه، بل على العكس، كان الائتلاف في هذه الجوانب تعبيرًا صادقًا عن الوعي العام، وخيرَ ممثِّل لما يُريده أو ينادي به أو يمارسه من هم خارجه (مناشدة الناتو والاعتماد على الدول، السلاح والفصائل، فوضى الخطاب والإعلام، الهلامية التنظيمية، التحليلات السطحية للعلاقات الإقليمية والدولية، عدم المعرفة بـ “النظام السوري”، الاندراج في استقطابات إقليمية ومذهبية… إلخ).

كانت الحكمة، وهي جوهر السياسة، تقتضي معرفة أن الوضع الحالي للائتلاف الوطني متوقع وطبيعي منذ لحظة تشكيله، وليس بعد سنتين أو خمس أو عشر سنوات. لا توجد أي فضيلة في معرفة الخطأ بعد وقوعه بعشر سنوات، وليس لمن ينتقد الائتلاف اليوم، بعد أن صفق له، أن يدعي الفهم والمعرفة. هل كان من المتوقع لحالة سياسية أنتجتها الدول، وبلا أي معايير لاختيار الأفراد والقوى، أن تصبّ في مصلحة الشعب السوري؟! هل كان هناك من يتوقع فعلًا أن ائتلافًا يُشكّل بطريقة سريعة واعتباطية، بلا برنامج أو رؤية، وبلا نظام داخلي مضبوط، أن ينجح خطابًا وأداءً؟! هل كان هناك من يتوقع أن ينجح ائتلاف سياسي لا يلتزم أعضاؤه بأي قانون تنظيمي للعمل الجماعي، وكلٌّ يتصرف على هواه؟!

النقد الأول الذي يُفترض أن يوجه إلى من شاركوا فيه، وإلى من توقعوا خيرًا منه، بصريح العبارة، هو “الجهل السياسي” أو “الطفولة السياسية”، أو “نقص الوعي السياسي”، وهذا النقد هو النقد الأشد، وهو المطلوب، خصوصًا إذا كان بقصد السعي لإنشاء تجربة جديدة تتجاوز تجربة الائتلاف، ويريد لها فعلًا أن تنجح، وليس طمعًا في موقع أو توصيف يرضي به غروره أو لقب يختم به حياته. أكثرية المنتقدين للائتلاف لا يقتربون من هذا النوع من النقد، خوفًا من أن يُضطروا، على ما يبدو، إلى القراءة أو التأمل أو المراجعة أو نقد أنفسهم أيضًا لأنهم ضمنيًا يشاركون الائتلاف خطابًا وأداءً ورؤيةً، لذلك يذهبون إلى تهمٍ أخرى تشبه إلى حدٍّ ما التهم التي يلقيها “النظام السوري” في وجه كل من يعارضه. لا بدّ من تسليط بؤرة النقد أولًا، وقبل كل شيء، على الوعي والتفكير والرؤية والخطاب، ومن دون ذلك سنظل نكرِّر الكوارث إلى ما لا نهاية.

لنلاحظ مسار “الائتلاف الوطني”، على أن النقد نفسه يطال من هم خارجه أيضًا، فكثير من مواقف “المجلس الوطني” و”الائتلاف الوطني” كانت تعكس فعلًا مواقف أغلبية أهل الثورة، وهذه إحدى مصائب السياسة؛ عندما يصبح السياسي مجرد صدى لما يسمعه في الشارع. ما أقصده أن الأخطاء السياسية (وفي الأحرى اللاعقلانية السياسية) للائتلاف هي أخطاء شاركته فيها قوى ومجالس وفصائل وتنظيمات ثورية ومثقفون وسياسيون وناشطون وإعلاميون خارجه، ولا ينبغي التبرؤ منها، على الأقل احترامًا للصدقية.

رفض المجلس الوطني، وأهل الثورة في أغلبيتهم، خطة كوفي أنان ذات النقاط الستّ في شباط/ فبراير 2012، وقبلها مبادرة جامعة الدول العربية في أواخر 2011، ورفضت المعارضة وقوى الثورة في اجتماعها في القاهرة في 2 و3 تموز/ يوليو 2012 بيان جنيف، وكان قد صدر قبل الاجتماع بيومين في 30 حزيران/ يونيو 2012. قلائل جدًا هم من رأوا أن قبول هذه المبادرات خطوة مهمة، وأداء سياسي حكيم، على الرغم من أن “النظام السوري” لم يكن ليقبل بها بالطبع، ولم يكن ليأخذ وزنًا لذلك كله بما يعادل قشرة بصل، وما زال على هذه السياسة إلى الآن، ولن يتغيّر. لكن مع ذلك ينبغي للمعارضة أن تعمل بدلالة الحقيقة والمنطق، وبدلالة المصلحة الوطنية لا بدلالة السلطة. عندما عملت المعارضة بدلالة السلطة، جرتها السلطة إلى كل ما اتهمت به الثورة السورية في البدايات؛ جرتها إلى التسلح والارتباط الخارجي، وإلى الخطاب الطائفي في بعض الأحيان.

بعد نغمة مناشدة الناتو وأميركا على الفضائيات العربية، التي شارك فيها من كانوا في “المجلس الوطني” وخارجه، ومن ثم عزفها أيضًا ائتلافيون وغير ائتلافيين، انتقلنا إلى نغمة التسليح والمجالس العسكرية والفصائل الإسلامية، والتعويل على “جيش الإسلام” و”أحرار الشام” و”جبهة النصرة”، وهذه أيضًا شارك فيها العقل الائتلافي، داخل الائتلاف وخارجه. ومن ثم أُجبر الائتلاف على الذهاب باتجاه مفاوضات جنيف، وكان الرافضون له سابقًا في مقدمة الصفوف، ولا عجب في ذلك، فهم عارفون بالحرب والسلام والسياسة والإعلام والقانون الدولي!

بعد ذلك، بدأت سياسة الزواريب والمياه الآسنة، في سوتشي وأستانا وغيرها، ومن قوى وشخصيات داخل الائتلاف وخارجه، الأمر الذي يُشعر المراقب بعدم وجود أي ضابط أو معيار أو اتفاق أو حد أدنى من التنسيق أو التفاهم بين القوى والشخصيات الائتلافية؛ حالة لا تدعو إلى الاطمئنان أو الثقة، وكأننا أمام مستنقع كريه من البلاهة التي يحاول أصحابها إيصالها لنا بإيحاءات تُفيد بعبقرياتهم وأهميتهم وحنكتهم السياسية. هم يركضون اليوم وراء فتات لا يشكِّل واحدًا في المئة من بيان جنيف الذي رفضوه في أواسط 2012. ألا تدعو هذه الحالة إلى التحلّي بنسبة واحد في المئة من الخجل؟!

النقطة الثابتة اليوم التي يمكن الانطلاق منها باتجاه المستقبل هي الإقرار بالهزيمة، بل بهزيمة مربعة الأركان؛ هزيمة الدولة السورية، هزيمة “النظام السوري”، هزيمة “المعارضة السورية”، هزيمة المجتمع السوري. الإقرار بالهزيمة يتيح لنا التفكير والمراجعة وإعادة البناء على أسس جديدة؛ لماذا هُزمنا؟ وكيف السبيل إلى الخروج من الهزيمة؟ وليس من أجل البقاء في أحضان الهزيمة.

هناك صخب وضجيج يصمّان الآذان، ويمنعان التفكير، ويشوِّشان الرؤية. نحن أحوج ما نكون إلى وقفة صمت وتأمل وتفكّر، بعيدًا من ضجيج المبادرات الفارغة، والتشكيلات الخلبية والهلامية والمؤقتة. قليل من التأمل يُحيي قلب المؤمن.

في الحقيقة، وبوضوح، لا يوجد أي أمل من كل الحراك الموجود على صعيد بناء تشكيلات وتجمعات ومجالس وائتلافات، لأنها دائمًا تجري، كما وصفتها في أواخر 2011، وفق منطق “اللمة” أو كمن يدعو إلى “عرس” لا إلى عمل سياسي يخدم سورية والسوريين، لنكون في الحصيلة أمام “كراكيب” سياسية قديمة-جديدة تزيد الطين بلة.

نحتاج إلى عدم التهوين من مشكلتنا السورية، ومن حلّها، فقد قتلتنا السذاجة والتسطيح والتبسيط. نحتاج حقًا إلى مبادرات سياسية، وبناء تشكيلات سياسية حقيقية، لكن بعد مراجعة وتأمل وتفكير. نحتاج إلى لحظة إبداعية خارج الاستقطابات، وخارج التحليلات التبسيطية، خارج المكايدة والمناكفة، خارج المزاودات والادعاءات والغوغائيات. نحتاج إلى اكتشاف الكلمة أو البؤرة السحرية التي يمكن أن تعيد شيئًا من الأمل إلى السوريين، شيئًا من الثقة بالمستقبل. لا شيء من هذا سيحدث مع استمرار “الصراخ الثوري”، ولا مع المبادرات المستهلكة من شخصيات وقوى مستهلكة، واستهلكها الآخرون بما فيه الكفاية، وجرى اجترارها مرارًا وتكرارًا.

 

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى