يواجه السودان العديد من الأزمات والتحديات البنيوية التي قد تطيح بكل مُنجزات المرحلة الانتقالية في حال عدم احتوائها، ويمثل ملف الخلافات بين دوائر صنع القرار ومكوناتها التحدي الأبرز لهذه المرحلة الفارقة من عمر السودان، إذ عاد هذا الملف ليطفو على السطح مرة أخرى في الآونة الأخيرة، وذلك في ضوء الخلافات المدنية – المدنية بين بعض الفاعلين الذين ينتمون إلى التيار المدني، والتباينات المدنية – العسكرية الموجودة بطبيعة الحال منذ بداية المرحلة الانتقالية.
عاد الحديث عن خلافات بين المكونات المدنية في السودان في الآونة الأخيرة، مع تلويح عدد من الأحزاب والفصائل في كتلة “نداء السودان”، بتجميد نشاطها في تحالف قوى “الحرية والتغيير”، حيث طالب التكتل “بإعادة هيكلة المجلس المركزي للحرية والتغيير، بما يضمن تمثيل كل القوى التي ساهمت في إحداث التغيير في البلاد”، ولم تكن هذه المرة الأولى التي تظهر فيها خلافات بين مكونات قوى الحرية والتغيير، حيث شهد التحالف من قبل انسحاب حزب الأمة القومي الذي كان يرأسه “الصادق المهدي”، وكذلك تجمع المهنيين السودانيين.
على الجانب المقابل تصدرت الخلافات المدنية – العسكرية المشهد ولو في شكل ضمني خلال الأيام الماضية عندما استفاض رئيس الحكومة عبدالله حمدوك في الحديث عن انقسامات داخل المكون العسكري، وخطورة هذه الانقسامات على وحدة بلاده، وهو الحديث الذي جاء عقب تقارير تحدثت عن لقاء سري جمع بين مسؤولين في الموساد الإسرائيلي مع محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، حيث تلقفت بعض الدوائر الخبر وحاولت تصديره على أنه من جانب يعكس محاولة إسرائيلية لتقويض رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان وحكومة عبدالله حمدوك، ومن جانب آخر يعكس وجود خلافات بين “حميدتي” والفريق “البرهان”، لكن هذا الأخير خرج يوم 24 حزيران (يونيو) بصحبة “حميدتي” واجتمعا مع القيادات الأمنية في الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في إشارة استهدفت الرد على ما يُثار عن وجود خلافات بين الجانبين، وقد أدى حديث “حمدوك” إلى غضب بعض الدوائر العسكرية في البلاد، وهو الغضب المدفوع بالعديد من المبررات المرتبطة بحساسية العلاقة بين المدنيين والعسكريين.
مع تزايد الجدل والخلافات بين الفصائل المدنية، والعسكرية، وخوف رئيس الوزراء “عبد الله حمدوك” من انفراط مسبحة “قوى الحرية والتغيير”، طرح “حمدوك” مبادرة يوم 22 حزيران (يونيو) التي تستهدف “دعم قضايا الانتقال والتحول الديموقراطي واستكمال السلام في السودان”، وقد سلطت المبادرة الضوء على “أهمية توحيد الكتلة الانتقالية وتحقيق أكبر إجماع ممكن داخلها حول مهمات المجلس الانتقالي، وطالب بوضع جدول زمني متفق عليه للوصول إلى تشكيل جيش وطني واحد مهني وقومي بعقيدة عسكرية جديدة”، لكن هذه المبادرة وإن كان قد ترتب عليها تداعيات إيجابية على صعيد المكون المدني حيث بدأت الأطراف المكونة للتحالف المدني الحاكم في السودان “قوى الحرية والتغيير”، في تجاوز خلافاتها التي كادت أن تؤدي إلى انشقاقات كبيرة، إلا أن المبادرة قد تؤدي إلى تعميق الفجوة بين المدنيين والعسكريين، لأن العقائد العسكرية للجيوش في المنطقة عموماً ترفض فكرة تدخل المدنيين في تحديد العقيدة العسكرية ومسائل دمج الجيوش والأمور الخاصة بهذه المؤسسة فضلاً عن التحكم في هذه الملفات. وما يعزز من حساسية طرح حمدوك كونه يأتي عقب تحركات مشابهة في ملف النشاط الاقتصادي للجيش والمطالبة بحصره في الصناعات ذات الطبيعة العسكرية، وهي التحركات التي تم تأويلها من قبل الدوائر العسكرية على أنها محاولة لفرض سيطرة المكون المدني على العسكري.
إن الحديث عن تحييد تام للجيش عن المؤسسات السياسية والمجال العام في الدول العربية، فضلاً عن “سيطرة مدنية كاملة” على هذه المؤسسة، هو حديث يفتقد إلى وضع الأمور في سياقاتها، فهذه الفرضية لا تتحقق في مجتمعات ودول أدت فيها المؤسسة العسكرية أدواراً سياسية داخلية على مدار عقود، وتكوّنت منها النخب السياسية، والأحزاب، وشكلت دوائر صنع القرار، فضلاً عن أن الحديث عن مثل هذه الفرضية في حالة كالحالة السودانية هو ضرب من ضروب الخيال والمخاطرة، لأن هذه الفرضية تحتاج لتحققها “النسبي” مجتمعات ودول تشهد استقراراً اجتماعياً، وسياسياً، وإقليمياً، أما السودان فهو دولة تعيش مرحلة انتقالية تواجه العديد من التحديات الاقتصادية، والاضطرابات الداخلية، فضلاً عن البيئة الإقليمية المتوترة في ظل الأزمة الحدودية مع إثيوبيا، وأزمة سد نهضة، وما لحقها من توترات في منطقة حوض النيل، وبالتالي يجب على صانع القرار السوداني إدراك هذه الاعتبارات والسياقات حتى لا تتعمق الفجوة بين مكونات الحكم في السودان، وهو الأمر الذي يهدد المرحلة الانتقالية.
يظل استكمال عملية التحول الديموقراطي في السودان مرهوناً بعدد من المحددات، في القلب منها مدى قدرة النخب السياسية المتنوعة المدنية والعسكرية، على إيجاد الحد الأدنى من التوافق العام الذي يعلي من المصالح الوطنية، ويجنب النظام الانتقالي الانقسامات السياسية الحادة التي تهدد استقراره، وتهدد المرحلة الانتقالية ككل.
*كاتب مصري
المصدر: النهار العربي