قد لا تكون من فرصة قريبة لوقف نزيف العراق ، فقد تحول البلد من زمن إلى ملاعب دم مفتوحة ، للأمريكيين الذين احتلوا العراق من 18 سنة ، وللإيرانيين الذين استفادوا من تحطيم الدولة العراقية ، ولنزعات توحش طائفى ، من تنظيمات الولاء الإيرانى المتخفى وراء أقنعة الثأر الشيعى ، ومن خلايا “داعش” التى فقدت أراضى دولتها الغاربة ، لكنها تعيد تأسيس نفسها ، وتعاود بنشاط عمليات إرهابها ، فى بيئة احتقان سنى ـ شيعى محموم ومصنوع ، وعلى ما يبدو فى اتجاهات القتلة من اختلاف وتعارض ظاهرى ، فإنها كلها تتعاون فى المحصلة ، وتدفع بالعراق إلى هاوية عذاب بغير قرار .
وصحيح أن العراق بلد غنى جدا بموارده الطبيعية ، وهو القطر العربى الوحيد الذى يجمع وفرة موارد المياه مع موارد البترول ، لكن أنهار العراق جف ماؤها أو يكاد بسبب السدود التركية ، وعوائد احتياطى البترول الهائل تتبدد بانتظام ، الرئيس العراقى برهم صالح تحدث قبل أسابيع عن فساد نهب ونزح تريليونات الدولارات ، ورئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى يبدو طموحا ، ويستعين بذكاء مكتسب من عمله السابق كمدير للمخابرات ، ويناور مع كل الأطراف ، وربما يتصور أن انتخابات البرلمان المقررة فى أكتوبر المقبل ، قد تضع حدا للمأساة ، وتفتح طريقا آمنا للعراق ، يوازن فيه علاقاته مع دول الجوار الإيرانى والعربى والتركى ، بينما لا ضمانة جدية فى القصة كلها ، فقد يذهب الكاظمى نفسه ضحية للانتخابات إياها ، مهما قيل عن توافر الإشراف والرقابة الدولية ، وعن جهود توفير أمان نسبى للمرشحين والناخبين ، فهى انتخابات تتم فى النهاية ببلد خاضع لاحتلال فعلى مستديم ، واغتيالات النشطاء الوطنيين تتدافع ، فلا يبقى غير هوان التقسيمات الطائفية والعرقية ، وتوزيعات كعكة الولاء والانتساب بين التأثير الأمريكى والهيمنة الإيرانية ، بينما لا يبقى للعراق العراقى ـ لا الأمريكى ولا الإيرانى ـ من نصير ولا سفير .
وكلما بدا أن العراق تقدم خطوة ، تعقبها خطوات تسحبه إلى الخلف ، وكأننا بصدد قربة مقطوعة أو جرة مثقوبة ، حاول الكاظمى استعادة بعض حس الدولة ، وفرض سيطرة على الموانى والمعابر ، ورد بعض العوائد والجمارك ، واصطياد بعض أسماك الفساد الصغيرة ، وقال أنه أعاد بعض محطات الكهرباء وأبراجها للتشغيل ، وزاد فى إنتاجها إلى 20 ألف ميجاوات سنويا ، وهو رقم بدا معقولا ، وقد يضئ حياة العراقيين إلى حد ما ، وكانت المفاجأة التى هى ليست مفاجأة ، أن عمليات التخريب من الأطراف المنظورة والمطمورة ، راحت تدمر فى محطات وأبراج الكهرباء ، وجرت من بداية العام الحالى 2021 ، 35 عملية تخريب لمنشآت كهربائية ، لم تدفع الحكومة العراقية بعد تكاليفها ، ولا استحقاقات المستثمرين فيها ، وجاءت موجات الحر القاسية فى العراق لتكشف الحقيقة المريرة ، وانقطاع الكهرباء شبه التام عن أغلب محافظات البلد المعانى ، وقس على محنة الكهرباء والمياه الشحيحة كل شئ فى العراق اليوم ، فلا مدارس ولا مستشفيات ولا جامعات ولا خدمات ولا طرق ، إلا ما كان بنى قبل الدمار العظيم ، أو مشروعات جديدة على الورق ، جرى صرف مخصصاتها على عوالم الأشباح ، أو ما يعرف فى العراق بلقب “الكائنات الفضائية” ، أى ركام الأسماء غير الموجودة فى الواقع ، ويصرفون عنها بانتظام من الموازنات العامة ، فى الجيش أو فى أجهزة الأمن أو فى الإدارة المدنية ، أو على تشكيلات عبثية ، لا تنتهى سيرة مسمياتها ، تسرق بإتقان من وراء اللحى الكثيفة ، أو من وراء شعارات دينية زاعقة ، تمتهن الدين وتدهس مقدساته وأخلاقه ومثله العليا ، وتضيف إلى محنة العراقيين قبسا محرقا من قاع الجحيم ، فالغالبية التى تريد العيش فى بلد الأربعين مليون نسمة ، لا تجد ما يعينها ، وهى التى ولدت فى بلد فريد زاخر بموارده ومواريثه الحضارية الكبرى ، بينما لا يوجد حد أدنى من فرص الحياة الآدمية الكريمة ، أما الموت فعلى كل ناصية وفى كل دار ، ولك أن تختار ، فما أغنى وسائل الموت وطرقه فى العراق اليوم ، بنيران الغارات الأمريكية ، أو بالمسدسات المكتومة الصوت ، أو بقذائف الكاتيوشا ، أو بمتفجرات الطائرات المسيرة ، أو بقطع الرقاب على طريقة “داعش” المميزة ، ولن تجد للقتيل قاتلا معروفا فى أغلب الأحوال ، ولن ترى وجهه ، ولا أن تأمل فى قصاص ، فأجهزة الأمن لا تنفد أسماؤها ، ولا ينتهى عديدها المرئى والمخفى الحقيقى و”الفضائى” ، ولا الإعلانات الجهيرة عن نشاطها ويقظتها وعملياتها واعتقالاتها ، ومن دون أن تتوقف آلة القتل ، أو أن تفتر همتها ، وكأنها تغرف من بحر ظلمات لا ينضب ماؤه الأسود .
وقد يتفاءل البعض ، ونحن معهم ، بأحلام وخطط من نوع “الشام الجديد” وغيره ، وبقمم زاهية تعقد فى بغداد الرشيد ، وبرغبات استرداد العراق لعروبته ، وانفتاحه المتكافئ على محيطه الإقليمى ، وبأمل اكتساب استقلال أفضل لحركته العامة ، وكل هذا كلام معقول ، وجهد فى محله ، وقد يثمرخيرا عظيما ، ربما بشرط أن يغادر محله المختار على الورق الذى يجف حبره ، فليس بالأمنيات وحدها يصنع التاريخ ، واستقرار العراق هو المفتاح المطلوب أولا ، وما من سبيل لاستقراره ، ولا لرد هيبة العراق العظيم الجريح ، إلا أن تبنى فيه دولة تستحق الصفة ، دولة قادرة لا دويلات متداخلة الخيوط كشبكة العنكبوت ، دولة بجيش واحد ، لا بعشرات الجيوش والحشود و”البشمركات” ، وبعقيدة وطنية قائمة على التجنيد الإلزامى العام ، وبهيئة شرطة واحدة ، لا بعشرات الأجهزة والميليشيات ، وبمواطنة واحدة متساوية الحقوق بغير تمييز طائفى ولا عرقى ولا جغرافى ، وبدستور يستعيد وحدة البلد ووجهه العربى الناصع ، وليس بدستور الطوائف وفيدرالية التفكيك ، الذى وضعه “بول بريمر” حاكم العراق بعد الاحتلال الأمريكى ، وانتهى فى الممارسة إلى “لبننة” العراق ، وفرض رئيس “كردى” فى العادة على عموم العراق العربى ، فوق رئيس “كردى” آخر لكردستان العراق المنفصلة عمليا ، ورئيس وزراء عراقى عربى ، يشترط عمليا أن يكون شيعيا ، وترك رئاسة البرلمان لذوى القربى من المتهافتين السنة ، فهكذا شاءت أمريكا وتشاء إيران ، بينما القسمة “الضيزى” كلها لا تؤدى إلى منتج عراقى بامتياز ، ربما لأنها تفتقر إلى نقطة التوازن بين التنوع العراقى ووحدة الدولة ، التى قد لا يكفلها فيما نظن ، سوى التحول إلى نظام رئاسى ، ينتخب فيه الرئيس مباشرة من الشعب ، وبسلطة ناظمة لمؤسسات الدولة ، بينما تختار الحكومة من قبل الأغلبية البرلمانية ، مع تحريم وتجريم اقتصار عضوية أى حزب على طائفة أو عرقية بعينها ، وبالذات بعد التجربة المريرة لأحزاب الطوائف المتخفية برداء الدين ، وبتحايل هذه الأحزاب وخداعها للرأى العام بعد انكشاف فسادها المرعب ، ولصق أسماء “مدنية” و”عراقية جامعة” على واجهاتها الخارجية ، وقد لا تكون هذه الخطوات ممكنة بجرة قلم طبعا ، وقد سالت الدماء غزيرة على طريق تحرير العراق واستعادته للعراقيين ، ففوق آلام الحياة اليومية المنهكة لغالبية العراقيين ، يحس العراقى الوطنى أنه الغريب فى بلده ، وأنه المواطن بلا وطن ، وربما يفسر الشعور صيحة طلائع الانتفاضة العراقية الشعبية الممتدة على موجات منذ انطلاقتها العفية فى 25 أكتوبر 2019 ، ومن قلب جغرافيا التحدى للهيمنة الطائفية الملوثة ، من بغداد إلى البصرة ، كانت الصيحة ولا تزال “نريد وطنا” ، وأن أول الطريق للحرية هو كنس الطائفية وأحزابها المدعية للتدين ، بينما اللحى والعمائم غارقة فى وحل الفساد والنهب والعمالة للأجنبى ، كانت الانتفاضة صحوة للروح الحبيسة ، ورغبة عارمة فى اكتساب الوطنية العراقية الجامعة ، ودفعت طلائع الانتفاضة الثمن مضاعفا ، بقتل المتظاهرين ، والاغتيالات الغامضة المتصلة للقيادات الشعبية الأكثر جسارة ، ومن دون أن يقتص أحد للدماء الزكية ، فقد وعد الكاظمى حين جاء بالقصاص ومطاردة القتلة ، ومن غير إنجاز ملموس حتى تاريخه ، فكلما شرع فى معركة تراجع عنها ، وكلما شد خيطا من المتاهة تاه فيها ، وقد أمل البعض فيه ، ثم شحب الرجاء وتوارى ، وتواضعت حركة الرجل ونزلت من سقف الوعد بالتغيير إلى وهدة وعادة التسيير ، والضياع فى الحوارات الأخطبوطية إياها ، من الحوار “الاستراتيجى” مع طهران إلى الحوار “الاستراتيجى” مع واشنطن ، فأعوان إيران يتهمونه بالعمالة لأمريكا ، وأعوان أمريكا يتهمونه بالخوف من ميليشيات الولاء الإيرانى ، وهو نفسه يخشى على حياته ، وربما تنتهى قصته إلى خيبة الأمل الراكبة للجمل ، فديناصورات الطوائف تستعد للقفز على المشهد الأمامى مجددا ، وهو ما قد يؤجل حلم استرداد العراق ، وعودة العراق للعراقيين أولا ، وللأمة التى تقاسى غيبته .
المصدر: القدس العربي