عرف التاريخ الصراع على السلطة، واستبدال حاكم شرعي بآخر مستبد، وعرفنا فلاسفة يتحدثون عن الجديد، لكن الثورة أمر مختلف عن كل ما حدث في الماضي، الثورة فعل جديد في التاريخ المعاصر، هي ليست استبدال حاكم بآخر هي استبدال الحاكم بشعب كان يحكمه بالحديد والنار.
لذلك من الطبيعي أن يتطور مفهوم الثورة من الكلاسيكي إلى الحديث.
مفهوم الثورة الكلاسيكي
ترى “Hannah Arendt” من الرجوع إلى الثورتين الفرنسية والأميركية، وإلى الذين خاضوا غمارها في مراحلهم الأولى، كانوا رجالا مقتنعين كلّ الاقتناع بأنّ الذي عليهم ما هو إلا إعادة النظام القديم الذي جرى إرباكه وإنهاكه من قبل طغيان الملكية المطلقة، أو من جراء إساءة استخدام السلطة من الحكومة الاستعمارية.
لقد سعوا بكلّ إخلاص إلى القول: بأنهم يريدون الاستدارة إلى الوراء نحو القديم حيث كانت الأمور كما يجب أن تكون فنجد ((Alexis de Tocqueville يقول: (إنّ للمرء أن يعتقدَ أن هدفَ الثورة المقبلة لم يكن للإطاحة بالنظام القديم بل استعادته) كذلك نرى ((Thomas Ben وبإخلاص لروح العصر يطلب أن تُدعَى الثورتان الأميركية والفرنسية باسم (الثورة المضادة) يقصد بذلك أن أحداث العصر قد دفعت الناس إلى الدوران نحو الوراء، إلى فترة سابقة كانوا يتمتعون فيها بحقوق وحريات انتزعها الاحتلال والطغيان، لذا كان هدف الثورة المقبلة، هو إعادة تلك الحقوق إلى أصحابها.
حتّى إنّ هذا المعنى ترسّخَ بوثيقة الاستقلال الأميركي التي نصّت على أن (يولد الناس متساويين، وقد منحهم الله حقوقاً ثابتة لا تتغير منها حقّ الحياة والحرية، وإنّ الحكومات تستمد سلطتها من الشعب، وإنّ أيَّ حكومة تصبح عامل تهديم لهذه الحقوق المقدسة تعرض نفسها لحق الشعب في تبديلها أو إزالتها).
والمفهوم الكلاسيكي يتوافق مع مفهوم الثورة في الفقه السياسي الإسلامي، إذ إنّ الثورة موجودة فيه، ولكنّها تكمن في العودة إلى الأصول، الأصول التي قامت عليها ثورته الأولى وهي العودة إلى الخلافة الراشدة، وبهذا يتشابه مفهوم الثورة في الإسلام مع مفهوم الثورة الغربي الذي نادى بالعودة إلى الحقوق الطبيعية للإنسان، كلا المفهومين ما هما إلا استدارة للخلف وعودة إلى الأصول.
المفهوم المعاصر للثورة
إن النقلة النوعية التي أحدثتها الثورات (الأوروبية والأميركية) على كل هياكل المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية لم يكن يدركها بكل أبعادها حتى الذين صنعوا الثورات.
لذلك فإنّ مفهوم الثورة المعاصر يختلف عمّا كان يُؤمن من قام بها من أنّها التفات إلى الأصول، لأنّ الثورة كحدثٍ سياسي اجتماعي معاصر فاجأ منظّري الثورات ورجالها فالباحثون المختصون في الثورات الذين درسوا الثورات بعد انتهائها توصلوا لمفهوم عن (الثورة) يختلف اختلافاً جذرياً عمّا تعلمه السابقون.
هذا المفهوم العصري للثورة، هو انقلاب جذري على مفهوم الثورة الكلاسيكي، فأصبحت الثورة تعبيرا عن نزعة الخير الموجودة في الإنسان تدفعه لتحسين أوضاعه وتغيير (ما هو كائن) إلى ما يجب (أن يكون).
وفي هذا السياق ربط بعض المفكرين بين مفهوم التغيير والثورة فيعرفها ((Jack Woodies (الثورة الاجتماعية والسياسية هي مسألة التغيير في كل أساس المجتمع وبنيته).
الثورة بين الهدم والبناء
إذاً الثورة لحظة تاريخية تفصل بين زمنين، يجب أن يكونا مختلفين كلياً، لأن الثورة تستهدف التغيير الشامل للنظام السياسي القائم، وهذا يجب أن ينال من قيم النظام المعمول بها، فالثورة لا تخرج عن كونها حدثا سياسيا شعبيا يستهدف في المقام الأول والأخير تغيير النظام السياسي القائم إلى نظام آخر مغاير يعتقد دوما أنه الأفضل.
الثورة تنطوي على فعلين، هدم وبناء.
مرحلة الهدم
هذه المرحلة تبدأ منذ اللحظة الأولى لإعلان الثورة، وتستمر إلى حين إعلان القطيعة مع قيم النظام السابق، إذ طالما فعل الثورة يتشابه مع فعل النظام وقيمه فنحن في مرحلة الهدم.
وتطول فترة الهدم حسب طبيعة النظام الذي قامت عليه، إذ كلما كان موغلا بالاستبداد طالت تلك الفترة.
فالثورة التي تقوم على الاستبداد وتحمله لهدمه أو البناء عليه سيؤثر بها، ويترك ثقافته واضحة على ممارستها بعد النجاح.
والتاريخ يؤكد هذه الحقيقة فالثورة التي قامت على حكومة استبدادية أنتجت دكتاتورية ثورية استبدادية مثل الثورة الفرنسية معظم المؤرخين يؤكدون استمرارية صراعها مع قيم العهد الملكي مدة مئة عام حتى استقرت قيم الثورة.
في حين إن الثورة التي قامت على حكومة مقيدة، مثل الثورة الأميركية قامت ضد حكومة ملكية دستورية أنتجت عدالة ومواطنة وحكومة مقيدة في وقت أسرع من الحالة الأولى، وكرست قيمها خلال فترة قصيرة جداً.
مرحلة البناء
إنّ الثورة صيرورة مركبة، يحمل زمنها الاجتماعي ما تراكم في اتجاه أهدافها ولأنّها مركبة، فإنّ أصعب ما فيها إعادة البناء، الصعوبة مأتاها مطلب القطيعة مع النظام السابق وقيمه، فهو مطلب شرعي اجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً، فالثورة تحمل ما تراكم سابقاً، لتعيد إنتاجه، إمّا بهدمه، أو استمرارية البناء عليه.
الثورة تنتصر أو تبدأ أول خطوة من خطوات البناء في لحظة التمايز عن النظام الذي قامت ضده.
إن إعادة البناء يجب أن ترتكز على القيم التي تحكم المجتمع، وفق ما يرى الفقيهGeorgeu” “Burdeau أنّ الثورة إعادة ترتيب كامل لكلّ القيم التي هي القاعدة الذهنية للنشاط الإنساني فلكل نظام سياسي اجتماعي قيم تحكمه، وتتحكم بنظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعندما يشعر المحكومون بأن هذه القيم أصبحت قيداً على تطلعاتهم المستقبلية تبدأ حالة التناقض بين قيم موجودة وأخرى يريدونها.
هذا التناقض يؤدي إلى اضطرابات سياسية واجتماعية وإذا ازدادت حدة التناقض قد يصل الأمر لحدوث الثورة لتأتي بقيم جديدة تتناسب مع روح المجتمع الثورية.
إنّ جذرية التغيير تستهدف استبدال البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي لتأسيس قيم جديدة يتطلع المحكومون إليها لأنهم يعتقدون أنها تلائم مصالحهم، وهذا ما يجعلهم يندفعون في المغامرة الثورية.
الثورة السورية وفعل الهدم والبناء
علينا أن نعي بأن الهدم والبناء مترافقان زماناً ومكاناً، فقد نجد في اللحظة نفسها وبذات المكان فعل ينتمي إلى مجموعة الهدم وآخر ينتمي إلى طائفة البناء.
وقد نجد باللحظة ذاتها ممارسة تؤدي لاستلاب حريات وحقوق المواطن، وأخرى تنتصر لكرامته وحريته وكل فعل يشبه ممارسة النظام هو فعل هدم للثورة وقيمها، وتأخير للحظة انتصارها، وكل فعل يتمايز قيمياً عن قيم الاستبداد هو إعلان للحظة انتصار الثورة.
انتصار الثورة ليس في زيادة مساحتها الجغرافية، إنما في تغيير نمط العلاقة بين السلطة والمواطن عن نمط نظام الاستبداد السابق.
كلّ معالجة لقضايا الثورة تعتبر الإنسان مجرد أداة، أو وسيلة يمكن التحكم فيها وضبطها كأية آلة؛ إنّما تتجاهل الفعل والفاعل الحقيقي في عملية البناء الثوري، لأنّ الإنسان الذي يصنع ثورة، يكون قد عاش حالة من الاغتراب عن حقوقه المسلوبة بعد طغيان السلطة، وأنّ زمن البناء الثوري هو الزمن الذي يتسامى فيه الوعي الثوري إلى حده الأقصى حيث لم يعد يسمح بأن يظل تاريخ الإنسان يُصنعُ بالرغم عنه، ووعي الإنسان للثورة، وفي الثورة يترافق مع وعيه لحقوقه وحرياته.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا