الحديث عن الإنسجام والإندماج يتطلب منّا العودة إلى الظروف التي أدت إلى لجوء ثلاثة ملايين ونصف من السوريين إلى تركيا، وما يصل إلى ضعف هذا العدد في العالم أجمع. ومثلهم تقريبًا مهجرين داخل سورية، موزعين على المخيمات في الحدود بين سورية وتركيا، وفي المناطق المحررة في إدلب وغيرها من المدن والبلدات المحاذية لتركيا.
أولاً: إن اندلاع الثورة السورية أواسط آذار/مارس ٢٠١١، والمطالبة بإسقاط نظام الاستبداد واسترداد الحقوق المجتمعية كاملة للشعب وتحقيق الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية. مواجهة نظام ظالم مستبد امتد حوالي الخمسين عامًا منذ انقلاب آذار/مارس ١٩٦٣. حيث خرج أغلب الشعب مطالبًا بحقوقه كاسرًا حاجز الخوف ومضحيًا بكل شيء لإسقاط هذا النظام. ولأسباب كثيرة تُرك النظام وبدعم من حلفائه إيران وروسيا والمرتزقة الطائفيين حزب الله وغيره. مع صمت دولي كامل، واجه النظام الشعب عبر جميع أنواع الأسلحة التي استهدفت المدن والبلدات الثائرة، و شملت أغلب سورية، وبعد سنوات على هذه الحرب على الشعب السوري، أدت إلى سقوط أكثر من مليون ضحية ومثلهم من المصابين والمعاقين، ومن المعتقلين والمغيبين قسريًا، إضافة لتدمير أكثر من نصف المدن والبلدات السورية، أدت إلى موجة نزوح داخلي ولجوء خارجي زاد عن نصف الشعب السوري، حوالي ١٤ عشر مليون إنسان، تاركين وراءهم بلداتهم وأرزاقهم وأسباب عيشهم. باحثين عن أمان يحفظ الحياة لمن تبقى منهم.
ثانيًا: كان لهذه الحرب الكارثية التي شنها النظام وحلفاءه على الشعب السوري، هذه النتائج من النزوح الداخلي واللجوء الخارجي. بحيث وصل إلى الأردن حوالي المليون إنسان يتواجد أغلبهم في مخيمات تفتقر لأدنى الشروط الإنسانية، والبعض ممن لديه بعض الإمكانيات المادية توزع على المدن الأردنية. وكذلك وصل إلى لبنان أكثر من مليون ونصف إنسان توزعوا على مخيمات، وفي البلدات والمدن اللبنانية. حيث عانوا هناك أيضًا من مظلومية النظام اللبناني المهيمن عليه حزب الله حليف النظام السوري، حيث شارك في قتل السوريين وتشريدهم. لذلك عايش السوريون في لبنان ظروف تمييز واضطهاد وتنكيل وشظف عيش كبير. كذلك وصل إلى العراق حوالي النصف مليون إنسان أغلبهم توزعوا في مناطق الحكم الذاتي الكردي شمال العراق، وكانت حياتهم مضنية أيضًا حيث لم يحصلوا على ما يجب من رعاية واهتمام. إضافة لتوجه الكثير من الشباب السوري في مغامرة ركوب البحر إلى أوروبا، عبر تركيا إلى اليونان والتي أدت لواقع كارثي على من حاول اللجوء لأوروبا، بدءً من النصب والإحتيال من المهربين، إلى غرق الكثيرين في عرض البحر، حيث تم نقلهم في مراكب غير مؤمنة، وتُحمَّل ما يزيد عن طاقتها، مع رفض يوناني أوروبي لاستقبال اللاجئين. مع ذلك وصل الكثيرين -حوالي المليون إنسان- إلى أوروبا. هذا غير الآلاف ممن استطاع الحصول على إذن سفر – فيزا – إلى أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا وأميركا اللاتينية عبر طلبات من أقرباء لهم متواجدة هناك، إضافة لاستقبال أعداد كبيرة من المسيحيين السوريين من تلك الدول في نظرة دينية تمييزية من الغرب، نظرًا لواقع مأساة أصابت كل السوريين بغض النظر عن دينهم وعرقهم وطائفتهم. لكن هذا واقع الحال للأسف.
ثالثًا: بالنسبة إلى تركيا فقد كان لها النصيب الأكبر من استقبال اللاجئين السوريين. وذلك لأن تركيا تعاملت منذ بداية الثورة مع السوريين على تقبّل مشروعية مطالبهم، وحاولت الدولة التركية – في بداية الثورة – إقناع النظام بتقديم تنازلات ديمقراطية وتحسين ظروف الحياة وتحقيق العدالة لكنها لم تنجح. إضافة لكون تركيا كانت قد ألغت مع النظام السوري إذن السفر بين البلدين قبل الثورة بسنوات. وهكذا بدأ الكثير من التجار والطبقة الوسطى السورية منذ السنوات الأولى للثورة القدوم إلى تركيا، إدراكًا منهم لما ستؤول إليه الأمور في سورية وكلما زاد عنف النظام ووحشيته على الشعب السوري كلما زاد اندفاع الناس للخروج إلى تركيا، خاصة من مدن وبلدات الشمال السوري، حيث وصل الملايين من السوريين. بعضهم استقر في تركيا وبعضهم اعتبرها معبرًا لهم لأوروبا ولبقية دول العالم. وفي بداية عام ٢٠١٦م أوقفت تركيا دخول السوريين إليها دون فيزا. لأنها اكتشفت أن هناك خطّة من النظام وحلفائه لتهجير السوريين في أكبر عملية تغيير ديمغرافي حصلت في هذا القرن، هذا غير ما يعنيه تدفق السوريين إلى تركيا من إغراق لها، وما يشكل حرجًا على الدولة التركية وشعبها ونظامها السياسي، حيث استخدمت المعارضة ذلك التدفق السوري لمواجهة حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس أردوغان، تحت دعوى أن هناك تمييز لصالح السوريين على حساب الأتراك في استثمار سياسي غير صحيح. لذلك أصبح كثير من السوريين النازحين داخليًا الذين لم يتمكنوا من العبور إلى تركيا، قد استقروا في مخيمات على الحدود السورية التركية في الداخل السوري، أو في المدن المحررة إدلب والريف الحلبي وبعض ريف حماه. وصل تعدادهم إلى حوالي خمس ملايين إنسان.
رابعًا: عاش أغلب السوريين إحساسًا عامًا بأنهم متروكين ضحايا عنف النظام ووحشيته مع حلفائه. وإن الإرادات الدولية لم تعمل في أي وقت لردع النظام أو معاقبته على أفعاله، كما أن فشل المكونات السياسية والعسكرية التي اعتبرت ممثلة للثورة في تحقيق أي تقدم فعلي لصالح الشعب السوري. جعل السوريين يعودون إلى المربع الأول في ممارسة حياتهم وهو البحث عن الخلاص الفردي، حيث هم في أي مكان وصلوا إليه في العالم. حاولوا تعلم لغات تلك البلدان والعمل وبداية حياة يبدوا أنها ستكون دائمة. لقد أصبحت سورية وراء ظهورهم واقعيًا. خاصة بعد تغول النظام فيما تبقى من سلطة له على بعض سورية، وهو مُهيمَن عليه سياسيًا وعسكريًا وحتى في إمداده المعاشي والعسكري لإيران وروسيا. هذا غير هيمنة ال ب ك ك حزب العمال الكردستاني عبر فرعه الـ ب ي د الانفصالي على الشمال الشرقي وشرق الفرات السوري، بحماية أميركية. مع بعض المناطق المحررة في إدلب والشمال السوري.
خامسًا: هذا ما عاشه السوريون الذين وصلوا إلى تركيا منذ السنة الأولى للثورة للآن، لقد وجدوا بها دولة وشعبًا متقبلًا ومساعدًا ومتفهمًا. مع الاعتراف أن هناك من يرفض التواجد السوري في تركيا بسبب الاستقطاب السياسي بين حزب العدالة والتنمية وحلفائه مقابل الأحزاب المعارضة. لكن المتقبلين للسوريين أكثر ممن يرفضون تواجدهم وحضورهم. خاصة أن الدولة التركية دمجت السوريين مباشرة في البنية الاقتصادية والتعليمية والمجتمعية التركية. بحيث أصبح السوري يعمل ويدرس ويصنع له استثمارات اقتصادية جعلته يتحول مع الوقت من عالة على الدولة والمجتمع التركي، إلى حالة الاعتماد المتبادل، ساعد ذلك التشجيع التركي من الدولة وإعطاء فرصة للسوريين خاصة من أصحاب الأعمال والحاصلين على أذون العمل والطلاب أن يحصلوا على الجنسية التركية وهذا جعلهم مواطنين أتراك. حيث وصل عدد المجنسين إلى حوالي المائة ألف إنسان في عام ٢٠٢٠م، ومازال باب التجنيس مفتوحًا حيث تم استدعاء الآلاف إلى إدارة الهجرة والتوطين لاستكمال أوراق لازمة للتجنيس، ودخولهم في برنامج التجنيس الذي أنشئ خصيصًا للسوريين. كذلك اجتهاد وعمل ومثابرة وإبداع السوريين في كثير من المجالات جعلهم يفرضون وجودهم وحضورهم داخل المجتمع التركي. ويتداول بعض الباحثين أن مليارات الدولارات استثمرها السوريون في تركيا. لقد اندمج كثير من السوريين في الدورة الحياتية الكاملة للدولة التركية.
هذا غير الدور التنموي والإغاثي والتعليمي الذي يقوم به الأتراك في المناطق المحررة وإدلب وريف حلب وحماة. حيث يتم دعم البنى التحتية كاملة ومساعدة السوريين هناك ليصنعوا إمكانيات حياة أفضل. هذا غير الدور الايجابي في دعم المخيمات المتواجدة على الحدود السورية التركية حيث يعيش أهلنا الأشد فقرًا وفاقة. لقد حولوا المخيمات إلى شبه مدن من خلال تحويل المخيم إلى بيوت وامدادها بالبنية التحتية من ماء وكهرباء ومراكز طبية ومدارس وأسواق وكل أسباب الحياة.
سادسًا: أمام هذا الواقع هناك آراء مختلفة حول الدور التركي في المناطق المحررة السورية، البعض يراه حضورًا يلغي الهوية السورية، والبعض يراه ضرورة لا بد منها. نحن نرى أن العلاقة التركية السورية في المناطق المحررة بينها الكثير من العوامل الإيجابية؛ بيننا تاريخ مشترك يمتد لمئات السنين. وبيننا اعتقاد إسلامي واحد، كذلك قياسًا بتعاملات دول الجوار الأخرى يكون الأتراك الأفضل بين كل الدول، ودورهم إيجابي مع السوريين بينما بقية الدول إما سلبية أو معادية. العلاقة بيننا: سوريين وأتراك تكاملية إيجابية. وهل المطلوب من السوريين في ألمانيا مثلًا أن لا يتعلموا اللغة الألمانية وأن لا يندمجوا فيها ليحافظوا على سوريتهم؟! المطلوب أن يكون انتماؤنا السوري هو هويتنا التي تعني لنا الحفاظ على عروبتنا واندماجنا بالمجتمعات التي أُجبرنا على العيش فيها وهذا ينطبق على تواجدنا في تركيا أيضًا كذلك أي بلد في العالم. وأن ننجح في كل أعمالنا التجارية والعلمية والثقافية والإبداعية. وأن نصنع من ذاتنا إمكانية لصناعة مستقبل أفضل لسورية التي سنبقى نعمل حيث نحن وإمكانياتنا مهما تواضعت لنحررها ونبنيها ونصنع دولتنا الديمقراطية العادلة.
نحن السوريون في تركيا وفي المناطق المحررة المحاذية لها، مطلوب منا أن نستثمر كل الفرص التي تقدمها لنا الدولة التركية لنصنع من أنفسنا شعبًا يستحق شرف ثورته التي قام بها، وأن يعمل عبر نجاحه حيث هو لتنتصر ثورته في سورية. ولو بعد حين.
المصدر: اشراق