تعطي الجزائر اليوم صورة محتملة عن سورية المستقبل، إذا تصوّرنا أن سورية تعيش اليوم السنوات السوداء التي عاشتها الجزائر في العقد الأخير من القرن الماضي. هناك ما يدعم التشابه بين البلدين. استقر الصراع الدموي فيهما بين قوى متشابهة، قوى جهادية إسلامية مقابل قوى السلطة المستبدّة، سوى أن مؤسسة الجيش في الجزائر هي مركز الثقل في هذه الأخيرة، الأمر الذي سمح للجيش بإجراء تغييراتٍ أو حتى تصفيات في الرئاسة، أما في سورية فإن مركز الثقل في قوى السلطة هو للرئاسة التي حافظت على نفسها، وكانت التغييرات والتصفيات من نصيب جنرالات الجيش وقيادته (استقالة وزير الدفاع علي حبيب أو إقالته في أغسطس/ آب 2011، ثم مقتل ضباط خلية الأزمة بعد عام).
من الراجح أن يتموضع في سورية، بعد حين غير بعيد، نظام سياسي يعكس اجتماع عنصرين متداخلين، هما التوافق الدولي وتوازن القوى الداخلي. سيكون هذا النظام معادلاً لنظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي استطاع احتواء العنف في البلاد (وإنْ على حساب العدالة)، من دون أن يؤسّس لعلاقةٍ ديمقراطية بين السلطة والشارع. وقد اعتاش نظام بوتفليقة على هذا الإنجاز عشرين عاماً في مجتمع جزائري أنهكه الصراع الدموي المديد والعدمي.
حيازة الجيش في الجزائر على مركز ثقل السلطة جعل التغيرات السلطوية في طريق السعي إلى حل، تكون من نصيب مؤسسة الرئاسة (بعد استقالة الشاذلي بن جديد في مطلع 1992، واغتيال محمد بوضياف في صيف العام نفسه، جاء ثلاثة رؤساء، علي كافي ثم ليامين زروال ثم بوتفليقة). من المرجّح أن يكون الأمر مختلفاً في سورية، لأن نظام الأسد يستمد استقراره من الرأس. وعلى هذا، ستكون متغيرات السلطة في سعيها إلى الحل ممكنةً في كل المستويات خارج دائرة الرئاسة. هذا لا يعني فقط بقاء الرئيس، بل يعني أيضاً بقاء مرتكزاته في الجيش والأمن.
وكما في الحالة الجزائرية، كذلك في الحالة السورية المحتملة، لن يطرأ تغييرٌ مهم على العلاقة بين السلطة والمجتمع في النظام الذي سوف يحتوي العنف، والذي سيكون شبيهاً بنظام بوتفليقة من حيث الوظيفة. ولذلك، سوف تنفجر قوة الانتفاض على النظام في وقتٍ لاحق، كما حصل في الجزائر. يمكن لنا، بناءً على هذا التصوّر، استشفاف صورتين من التجربة الجزائرية.
تدعو الصورة الأولى إلى التفاؤل، ذلك أن الحراك الديمقراطي الجزائري الذي انطلق في فبراير/ شباط 2019، بقي، على الرغم من الزمن ومحاولات الكبح وصنوف التخريب من جانب السلطات المسيطرة، وعلى الرغم من آثار وضغط جائحة كوفيد 19، مستمرّاً وبعيداً عن السلاح وعن الإسلاميين. هذا يعني أن الخراب الواسع الذي ضرب المجتمع الجزائري في ما سميت العشرية السوداء (دامت في الواقع أكثر من عشر سنوات)، ترك درساً حفظه الجزائريون، أكانوا في مناصب الحكم أم في الشارع، درساً يقول إن العنف لا يولّد سوى العنف، وإن دائرة العنف تبتلع كل جدوى سياسية.
لم يكن نبذ العنف في الحراك الجزائري فضيلة طرفٍ دون آخر، فقد بدا أن الدرس استقر في وعي الشارع كما في وعي نخبة الحكم. ليس القصد هنا أن وعي نخبة الحكم يمكن أن يجعلها تتخلّى عن امتيازاتها من دون أن تستخدم العنف، حرصاً على البلاد، فسعي نخبة الحكم إلى الحفاظ على السلطة يعلو على كل شيء، نقصد أن الدرس الدموي استقرّ في وعي الجزائريين جميعاً، بمن فيهم بيروقراطية الدولة وأجهزة القوة فيها، بحيث إن قرار اللجوء إلى العنف في وجه المتظاهرين كان يمكن أن يرتدّ سلباً على نخبة الحكم، ويفقدها ما أرادت الحفاظ عليه بالقوة.
يرتبط بهذا الدرس، بصورة مباشرة، درس الحذر من الإسلاميين الذين يميلون إلى العنف. معروفٌ أن الإسلاميين في الجزائر كانوا قد استعدّوا عسكرياً (جماعة “جيا”، والجيش الإسلامي للإنقاذ)، قبل الانتخابات التشريعية 1991، على نحو سرّي، بما يسمى خطة ب. يذكر ذلك الكاتب الجزائري، واسيني الأعرج، في رسالة مفتوحة وجهها في مايو/ أيار 2019، إلى رئيس أركان الجيش الجزائري (السابق الراحل)، الفريق أحمد قائد صالح. ومعلومٌ أن بعض إسلاميي سورية كانوا قد استعدّوا عسكريا منذ بدايات الثورة السورية، على غرار الجزائريين.
الحق أن الحراك الجزائري الحالي أبدى حذراً من جميع الأحزاب السياسية، ونفوراً من كل أصناف القيادة، الأمر الذي يعرض إحدى سمات الموجة الثانية من الربيع العربي التي ينتمي إليها الحراك في الجزائر، غير أن الحذر من الإسلاميين ينطوي ليس فقط على نفور من الأحزاب، بل على نفور إضافي من ميل الإسلاميين عموماً إلى العنف. قد يدفع هذا إلى بروز تيار إسلامي ذي استراتيجية سلمية بالكامل، هذا متوقّع في الحالة السورية الموازية، ويدعو إلى التفاؤل.
تتعلق الصورة الثانية بالمخرج الديمقراطي ومعناه وطريق الوصول إليه. في الحراكات الشعبية الواسعة، من الطبيعي أن يغلب لدى المعارضين الميل إلى التبسيط في المطالب. لذلك غالباً ما تضمحل فكرة الديمقراطية إلى مستوى إجرائي، وهو الانتخابات. ولكن السلطات المستبدّة أثبتت أنها قادرة على احتواء المطلب الديمقراطي الانتخابي بشتّى السبل، بما في ذلك، مثلاً، إنشاء قوائم مستقلين ولكنهم تابعون في الواقع للسلطة، كما شهدنا في انتخابات الجزائر التشريعية في 12 يونيو/ حزيران الحالي.
إمكانية تفريغ الديمقراطية الانتخابية من المعنى أمر سهل، وبات واضحاً ومجرّباً، وهو ما دفع الجزائريين إلى البرود أو الرفض في انتخابات الرئاسة في 2019 (أقل من 40% وهي أدنى نسبة في انتخابات رئاسية تعدّدية في الجزائر)، وفي الاستفتاء على الدستور في 2020 (أقل من 19% في أكثر تقدير)، وفي التشريعية أخيرا (بحدود 23%).
على الرغم من هذه المظاهر الديمقراطية التي جرت في بلدهم، بقي الجزائريون في الشارع. ليست غاية الناس أن يكون من ينهب حقوقهم قد وصل إلى منصبه بالانتخاب أم لا، المهم ألا تنهب حقوق الناس. من السهل إجراء انتخابات، ولكن من الصعب تحصيل الحقوق وصيانتها. لذلك إذا كان معارضون كثيرون (طموحون) يميلون إلى اعتبار الانتخابات غاية بذاتها، فإن الناس يميلون إلى تصديق الواقع، وإلى البدء بالتفكير في الدفاع المباشر عن حقوقهم، وإرغام صاحب المنصب (منتخباً أم غير منتخب) على احترامها وخدمتها، فالحضور المباشر والمنتظم في الميدان هو ما يعطي العملية الانتخابية بعدها الديمقراطي الفعلي.
في سورية، كما في الجزائر، لا ينضب نسغ الأمل، لا ينتصر اليأس.
المصدر: العربي الجديد