من أهم مآثر الفلسطيني إنه يجعل من الجزئي كليا وينقل الواقعة الى مستوى المفهوم النظري.
في الثلاثين من آذار1976ضحى الفلسطيني من اجل أرضه.
لقد جعل الفلسطيني من هذا اليوم يوما للأرض اذ جعل الأرض بأل التعريف. وهذا يعني إن يوم الأرض الفلسطيني هو يوم الارض كل الأرض، الأرض التي اخذت معنى وجوديا بارتباطها بالإنسان فالوجود لا معنى له الا في علاقة مع أرض لا ترى معناك الا عليها.
وشتان ما بين وجودك عابرا على ارض ووجودك على ارض هي رحمك الابدي. في يوم الأرض تأكدت صفة الصهيوني بوصفه مغتصبا في مقابل الفلسطيني الجذر.
يوم الارض هو يوم أرض السوري الذي انتثر على خارطة العالم لاجئا ففقد رحمه الابدي بفعل قوة همجية.
تتوحد مأساة السوري والفلسطيني في يوم الأرض في معنى الوجود على الارض والعودة الى الارض.
الأرض الرحم ليست هي ارض المحتل وليست هي ارض اللجوء وليست ارض الوهم الأيديولوجي وليست هي ارض الطغاة العابرين. انها ارض الانسان الذي يوحد بين الارض والحياة بين الارض والحرية بين الارض والبيت بين الارض والحب بين الارض والآخر المشترك إحياءً لذكرى النكبة الأولى نكبة فلسطين.
حينما نطرح قضية فلسطين من زاوية الأرض والعودة فإنما نطرح قضية معنى الوجود الإنساني لشعب وقد أخذت صيغة الوعي بالهوية التي لا تنفصل عن واقعة الوطن، نطرح الكفاح العملي والنظري لاستعادة منطق التاريخ المسروق للشعب.
فحالة سلب العربي الفلسطيني حقه بالوجود الإنساني المتعين بوطنٍ، هو أمام العين الباصرة سلبه أرضه وتاريخه ولغته وطبيعته، حالة هي من الشذوذ بحيث لا نجد مثيلاً لها في عالمنا المعاصر.
ويزداد انحراف الحالة عما هو سوي في التاريخ وعما هو مناقض لمنطق الحياة حين يطلب من العربي والفلسطيني صاحب الحق أن يعترف عنوة لغيره بحقه بما سلب.
ويبدو أن الحقيقة في معمعان السياسة الدولية واستمرار العجز العربي قد فقدت وضوحها وتميزها. تقول الحقيقة التي لا يمكن دحضها لا بمنطق السلاح ولا بسلاح المنطق: إن فلسطين أرض لشعب متعين واقعياً هو الشعب العربي الفلسطيني وإن لهذا الشعب أرضاً متعينة جغرافياً هي فلسطين كلها. إن التذكير بهذه الحقيقة، ليس مقصوده من لم تغادر ساحة وعيه، وإنما نذكر المتناسين لها فقط. حقيقة يجب أن تقف وراء ممارسة تصب في مسار تعيين هذه الحقيقة واقعياً.
ومن الحقائق ما يستطيع الإنسان تجاهلها وقد يحيا دون أن يأخذها بعين الاعتبار. أما حقيقتنا فهي من قبيل الحقائق التي تحدد مصيرنا في هذا العالم. ولهذا فالعلاقة بين الفلسطيني وأرض فلسطين هي علاقة حية جداً بحيث لا يستطيع مزاح التاريخ الثقيل أن يلغيها.
فالأرض الفلسطينية ليست فكرة مجردة اخترعها الفلسطيني اختراعاً، ولم يفتش عنها في ثنايا كتب أسطورية صفراء، ولم يستقوِ بأحد من الخارج لامتلاكها، إنها وقائع حياته اليومية، وتاريخية الموصول دون انقطاع، إنها تربة تنبت فيها مئات النباتات التي منحها الفلسطيني أسماءها، وأرض رفات من أحب ويحب، وأغان وأهازيج وعادات أفراح وأتراح عمرها مئات السنين، ولغة أنتجت أجمل الشعر والقول والأمثال، وفوق هذا وذاك أرض زرعت بأقدس الأرواح ورويت بأطهر الدماء بوصفها وطناً.
ما كانت لهذه العلاقة العاطفية بفلسطين، علاقة الحب الجارف لها، أن تكون على هذا النحو الجميل لو لم تتوحد الحقيقة مع الإنسان.
وبالتالي فالعربي الفلسطيني لم يتوسل حقه من قرارٍ هنا أو إعلان هناك، فكل القرارات تتضاءل أمام الحقيقة الناصعة التي ذكرت.
هل هي عودة إلى خطاب طوباوي أتى عليه الزمان؟ الصهيوني الذي اخترع مصطلح أرض الميعاد، ليخلق الانتماء الأيديولوجي لها، ويرسم طريقاً لتحقيق الوهم يجد من يبرر له صنيعته في احتلال فلسطين، والفلسطيني ابن الأرض يتهم بأنه طوباوي!
أقول: فليس انتصار الوهم بالواقعة التي يجب أن نستسلم لها. وليس انهزام الحقيقة بالأمر الذي يدعونا للاعتقاد بوهم عدونا.
إن الانطلاق من حقنا الأبدي في فلسطين هو الاعتراف بالحقيقة دون لبس، والانطلاق من هذه الحقيقة هو المعيار لتقويم أي سلوك سياسي ماضٍ أو حاضر مستقبلي.
إن الحقيقة التي هي كما قلت جزء منا تواجه على نحوٍ واضح كل أشكال التزييف الواقعية. فليس كل واقع يحوز على الحقيقة وليس كل حقيقي يحوز على تعينه.
إن (وجود دولة إسرائيل) واقعة لا مجال للشك فيها تماماً كما هو الشر الذي يصادر نزوع الإنسان نحو الخير. وإسرائيل شر مطلق وبالتالي إن وجودها الواقعي ليس حقيقياً إطلاقاً.
وآية ذلك أن العلاقة بين اليهودي وفلسطين علاقة خارجية تقوم على الاحتلال والاغتصاب والتهجير والقتل والسجن، واستمرارها مترابط بعامل خارجي، فهي موجودة بغيرها واستمرارها مترابط بعامل خارجي، فهي موجودة بغيرها وليس بذاتها، بينما نحن لا نحتاج إلى أي عامل من الخارج لنوجد، فرغم اللجوء والتشرد وسلب الحق التاريخي، احتفظ الفلسطيني العربي بوحدته مع أرضه، وحدة لم تزلها حالات الانشطار ومنطق القوة الذي ما برح يجهد لتحقيق الانفصال بين الأرض والفلسطيني.
يطمئن الفلسطيني لمصيره وهو يواجه منطق القوة، بينما يحمل اليهودي الصهيوني نفسية اللص الخائف دائماً من إمكانية القبض عليه.
والمدقق في فكرة الأمن الذي يسعى إليه الصهيوني يكشف دون عناء عقلية اللص، حيث الخوف جزء لا يتجزأ منه. وبالتالي فهو فاقد لشعور الحرية، وبشكل دائم، وإن من فقد شعور الحرية على أرض لا علاقة داخلية فيها، لا يمكن إلا أن يعول على الإجرام كطريقة مثلى لإكساب الأمن، ولكن هيهات للمجرم أن يحصل عليه حتى ولو قدم له صاحب الحق الفدية التي يطلب.
لنزع علاقة العربي الفلسطيني التي لا تنفصم مع فلسطين يطرح اللص المحمي أمريكياً كل ما من شأنه تحويل غايته إلى واقع.
يطرح الحكم الذاتي: والحكم الذاتي إسرائيلياً هو التالي: تحويل السكان الأصليين في وطنهم إلى بشر من الدرجة الثانية غير حائزين على حق الإنسان بالتصرف الحر على أرضه التي يراد لها أن تكون أرض إسرائيل.
يطرح: التعويض على الذين شردوا عنوة، فيغدو المال مقابل الوطن.
يطرح التوطين: أي عش أيها الفلسطيني حيث أنت، أو حيث يشاء الآخرون أن تعيش، متخلياً عن هويتك الأصلية.
ببساطه لديهم وهم أنهم قادرون على أن يصنعونا على هواهم، يرفض الفلسطيني كل هذا.
يرفض الحكم الذاتي لأنه بالأصل يعرف حق المعرفة الوطن ويسعى إليه، ويبحث بالأصل عما يجعله مواطناً بالمعنى الحقوقي، السياسي يحمل صفة وطنه.
يرفض الحكم الذاتي، ولأنه اعتراف للعدو بحق من حقوقه المطلقة، ألا وهو حقه في فلسطين كلها.
يرفض التعويض: لأنه ما من إنسان يبني العلاقة العاطفية والتاريخية على وطنه مستعدٌّ لبيع الوطن بحفنة من الدولارات.
يرفض التعويض: لأن كرامته الوطنية لا معنى لها خارج نزوعه العملي والنفسي للعودة إلى أرضه.
يرفض التوطين: لأنه ليس خياره الحر، ولن يحوز على الحرية في مكان آخر غير وطنه.
إذن لا شيء سوى حق العودة وحق العودة فقط، يجب أن نجعل من هذه الفكرة حية في ضمير العرب قاطبة. يجب أن تظل عاملاً مؤرقاً للص الذي لن يهنأ في فلسطين طالما عامل السلب الفلسطيني والعربي حاضراً.
لا شيء سوى حق العودة لأنه وحده الذي يعبر عن الترابط الموضوعي بين الفلسطيني وأرضه. لا شك أن سبل الوصول إلى هذا الحق صعبة ومعقدة لكن الفكرة يجب أن تظل حية لأن التخلي عنها لا يعني سوى الاستسلام لواقع وهمي وتنكر للحقيقة التي نجهد لتحويلها إلى واقع متعين على الأرض. أن تظل عاملاً مؤرقاً للص الذي لن يهنأ في فلسطين طالما عامل السلب الفلسطيني والعربي حاضراً.