يعدُّ الواقع مصدراً للأفكار التي يتكفل وعي الإنسان وآلية تفكيره بإعادة صياغتها، وتنميتها، وتجددها، وتقديمها للبشرية لتنتفع منها. ثم لتزدهر الحياة، ويحيا الإنسان محققاً غاية وجوده في إعمار الأرض. وتتبدل الأفكار كلما تبدلت معطيات الواقع، وازداد وعي الإنسان. ففي القرون الثلاثة من الألفية الثانية، أخذت نتائج الثورات الصناعية تظهر تأثيراتها في المجتمعات الأوروبية حيث نشأت تلك الثورات. وأخذت تلك المجتمعات وقواها المنتجة، وطلائعها الفكرية، على نحو خاص، ترسم معالم جديدة لها وللحياة المقبلة، وانقسمت القوى العاملة إلى طبقات وشرائح، وفئات جديدة لم تكن، من قبل، في بنية المجتمعات الزراعية/الإقطاعية. وعلى ذلك فقد أنذرت القسمة الجديدة بصراعات حادة. وإذا كان ماركس قد رأى أن التاريخ ما كان في مراحله المفصلية إلا تاريخاً لصراع طبقي مرير، فإنه قد رأى أيضاً أنه: “كلما جاء العلم بجديد علينا إعادة النظر بأفكارنا!” ولما كان الزمن لا يمهل الإنسان ليرى بعينيه ما يأتي به العلم من جديد، فقد فرض على الأجيال اللاحقة أن يروا ذلك، ولأن الإنسان غالباً ما يكون ابن ما ألفه، فقد يتردد باستبدال الجديد بالقديم.
“كتب، ماركس في إحدى طبعات البيان الشيوعي التي صدرت في 24 حزيران/ يونيو 1872، إقراراً بتاريخية تلك الوثيقة وأنها تحتاج إلى تحسينات ومراجعات، وأنّ نقاطاً فيه أصبحت قديمة بسبب التطوّر الهائل والمستمر خلال نحو ربع قرن. إلّا أنه رأى أنّ بعضاً من ملاحظاته ما تزال صحيحة من حيث الأَساس، وإن كان قد أصبح قديماً في تفاصيله، ذلك لأنّ الوضع السياسي قد تغيّر كلّياً. وقد أكّد ماركس أنّ «البيان» أصبح وثيقة تاريخيّة لا نملك حق تغييرها”. وكذلك رأى إنجلس، بعد وفاة ماركس، الرأي نفسه لدى إعادة طباعة البيان بنسخته الألمانية.
فكيف لنا اليوم أن ننظر إلى مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا، بعد أن أخضعت البيروقراطية الطبقة كلها في أول تجربة لها عبر سيطرة الحزب الواحد، والأمين العام الواحد اللذين تولَّيا شؤونها بالكامل، فأسقطت التجربة برمتها.. ولابد من الإشارة إلى أنه في الغرب الرأسمالي كان ثمة بيروقراطية، وربما أقسى من تلك التي كانت في الاتحاد السوفياتي، لكن قسوتها انصبت على حسن استثمار زمن الإنتاج. إنتاج السلعة، ودقة صناعتها، وجودتها، وجدَّتها المطورة، أما البيروقراطية المقابلة فكانت سياسية كبلت العامل، وحدت، في النتيجة، من إبداعه وطبقته.
اليوم ومع مرور مئتين وثلاثة أعوام على ميلاد كارل ماركس ومئة وخمسة ثلاثين عاماً على مظاهرة شيكاغو التي ألهمت طلائع العمال جعل الأول من أيار/مايو يوماً عالمياً للطبقة العاملة تحتفل بإنجازاتها ونضالها.
نرى تغيرات كثيرة تطرأ على بنية الطبقة العاملة، بوصفها أداة تغيير رئيسة، كما رآها كارل ماركس في زمنه، وصعودها أداة دفع قوية، وعامل تغيير رئيس للحياة نفسها، وحاملاً لوظيفة الفلسفة الجديدة التي لم تعد تعنى بتفسير العالم فحسب. بل بتغييره. فالطبقة العاملة، إضافة لبيعها قوة عملها، ولقدرتها على نظيم نفسها، هي طبقة تكتسب وعياً حقيقياً من خلال احتكاكها بالآلة التي تعمل عليها. ولم يخطئ ماركس في وصفها بـ “حفارة قبر الرأسمالية التي أوجدتها”، إذ تتمكن من الإمساك بالحلقات الرئيسة للإنتاج. لكن ماركس الذي شيَّد بناءه الفكري المتماسك، لم يكن ليتصور تضخم حجم ملاحظته حول تأثير دور الإنجازات العلمية، وسرعتها في الارتقاء بالتكنولوجيا التي سوف تحدث خلخلة في بنية الطبقة العاملة ذاتها ما يزيد من بؤسها، ويهمش دور شرائح كبيرة منها في العملية الإنتاجية، وليلقي بها إلى الشارع، ويرتقي في الوقت نفسه ببعض فئاتها العليا لتعمل في مراكز أبحاث الشركات الكبرى فتزودها بالعلوم والمعارف والابتكارات، ولتساهم بتحسين الإنتاج، ولتغدو بذلك أقرب إلى الفئات الثقافية تأهيلاً، وممارسة، وهي التي تدعى اليوم بذوي “الياقات الذهبية” إذ تقدِّم أفكارها الجديدة لتنهض بتحديث التكنولوجيا باستمرار في هذه الشركة أو تلك فتدفع بها إلى الطليعة في سلم التنافس السلعي، والسباق إلى الجديد المتميز في الأسواق.
لعلَّ هذا السياق يفرض على الكاتب الإشارة إلى أنه حين كانت كوادر الحزب الشيوعي السوري أوائل سبعينيات القرن الماضي تنتقد ميثاق الجبهة الوطنية، وخصوصاً منعه العمل بين الطلاب والجيش، وجعلهما فضاء لحزب البعث وحده كانت قيادتها (خالد بكداش) تبرر خطأها التاريخي بأننا حزب الطبقة العاملة حاملة مهام التغيير، فما لنا والطلاب؟ إضافة إلى أنَّ الاتحاد السوفياتي سوف يكسب معركة ما يسمى بـ “الحرب الباردة” وبالمناسبة (تعلَّل الحزب الشيوعي السوري بموقف لينين من المثقفين إذ وضعهم في إطار طبقة البرجوازية الصغيرة المتذبذبة مواقفها. فاتخذ مواقف منكمشة تجاه خيرة مثقفيه بل مثقفي سورية.).
الحقيقة تخلت الكثير من الأحزاب الشيوعية عن فكرة ديكتاتورية البروليتاريا، وخاصة في بلدان العالم الثالث التي لم تتكون لديها طبقة عاملة طليعية في مفهومها الماركسي. ولكن شتان بين- أن تغدو الطبقة موضع ظلم تتساوى فيه مع الشرائح الاجتماعية ببيع قوة عملها العضلي أو الذهني وتغدو، بالتالي، بحاجة إلى عطف إنساني للاستمرار في حياتها، وأن تكون محركاً للتاريخ.
إن فكرة ماركس عن تطور الإنتاج اعتماداً على الآلة وتحرير الطبقة العاملة من أسرها، وبالتالي تحرير المجتمع كله من الظلم والاستعباد ارتبطت بجعل الإنتاج المتزايد بفضل البروليتاريا ملكاً للشعب.
اليوم مع التطور العلمي والتكنولوجي، وتراجع دور الطبقة العاملة القيادي، وانهيار التجربة الأولى، كما أسلفت، والتباين الصارخ في الواقع الاقتصادي والاجتماعي لشعوب العالم. وتفاقم مشكلات العالم الرئيسة. والهلهلة التي آلت إليها معظم الأحزاب الشيوعية والماركسية، فلم تقم بواجبها تجاه تطوير المبادئ الرئيسة التي تكونت منها الماركسية كما هو مرجو. اليوم لابد من التمسك بالمادية الجدلية، وبالمحتوى الإنساني للماركسية، وتلاقيها مع الأفكار التي تماثلها في نزوعها الإنساني للحد من سطوة السلعة، واستعبادها، وللوقوف فعلاً أمام التهميش المتزايد لفئات وشرائح اجتماعية أكثر فأكثر سواء في البلدان المتقدمة أم في البلدان النامية، والأخذ بيدها كي لا تترك ضحايا لأفكار متطرفة قد تنمو في مثل هذه المناخات.
اليوم لابد من تحقيق ديكتاتورية الشعب، لا ديكتاتورية الطبقة، ما يعني السعي نحو ديمقراطية واسعة ترتبط بالعدالة الاجتماعية، وبالحريات العامة المصونة بدستور يوضح مفردات سلطة الشعب يدققها بقوانين تؤكد حقوق الإنسان فرداً ومجتمعاً، وتسندها منظمات مجتمع مدني حرة، تؤازر البرامج الوطنية للأحزاب السياسية، برامج اقتصادية واجتماعية وتعليمية، يرسخ ذلك إعلام حر، وقضاء نزيه مستقل. ويبقى الأهم من ذلك كله وجود جيش وطني بالمعنى الحقيقي للكلمة. جيش يسهر على أمن بلاده لا أمن فرد أو أسرة أو جماعة. جيش لا يكرر تجربة بعض الجيوش العربية التي ساهمت بإفشال الربيع العربي ومنها تجربة الجيش السوري المرة.
المصدر: اشراق