تتطلّع دول عربية إلى إعادة سورية إلى سجل جامعة الدول العربية، وتتعامل مع خطوات التطبيع الجارية مع نظام الأسد وكأنها إنجازات، يبرّرها بعضُهم بأنها تعطّل عملية التلاحم المصيري بين رئيس النظام السوري وإيران، بينما يسعى آخرون إلى القفز من خلالها فوق حدود العقوبات الأميركية أو التسلّل من تحتها، رغبة من تلك الأنظمة في متابعة مشروع دعم الرئيس بشّار الأسد في الانقلاب على ما سمّي الربيع العربي، ليس سورياً فحسب، بل عربياً، حيث هبّت رياحه، ولا تزال معارك هزيمته مستعرة في دول المنطقة.
وقد ألهم الزلزال المدمر والكارثي الذي حدث في 6 الشهر الماضي (فبراير/ شباط) أنظمة عربية وغيرها إلى منافذ جديدة للعبور إلى دمشق، ليس فقط من باب الإغاثة الواجبة عليهم إنسانياً، لشعبٍ تنازعته الأزمات الاقتصادية تحت وابل سلاح الحرب، وتقاسم دول الاحتلال مقوماته الاقتصادية، ولكن أيضاً من باب السياسة الذي أغلقته الولايات المتحدة الأميركية، وجعلت منه حدّاً فاصلاً بين المدرستين الروسية والغربية في التعامل مع قضايا الحريات والديمقراطية. ما يعني أن الصورة التي يمكن تصديرها من توافد المسؤولين العرب إلى دمشق هي: الاحتفاء بانتصار الديكتاتوريات على مطالب الحرية، ودعم كل أشكال قمع المتظاهرين، سواء بالاعتقالات أو القتل والتدمير. وهذه رسائل لا تخصّ الشعب السوري فقط، بقدر ما تعني شعوب تلك الأنظمة أيضاً، فمدّ أيدي ثلة من الحكّام لانتشال الأسد من عزلته، من دون الالتفات إلى معاناة السوريين، والسعي إلى حل الصراع في سورية، وفقاً لما جاء في قرار قطيعتهم مع الأسد، وعلى أساس القرارات الأممية، هي محاولة اصطياد في ركام جثث الضحايا السوريين، وليس فقط في ماء عكر، ما يعني أن هذه الدول أخذت قراراً اصطفافياً معلناً ضد شرعية قراراتها السابقة، وتبنّيها القرارات الدولية من بيان جنيف إلى 2254.
لم يغير النظام السوري سلوكه بدءاً من 18 مارس/ آذار 2011، وحتى ما بعد الزلازل الكارثية المتتالية التي أودت بحياة سوريين كثيرين. لا تزال العمليات العسكرية جارية في المساحات التي تستطيع قواته الوصول إليها وضربها، بالمشاركة مع كل من روسيا بوتين ونظام الولي الفقيه في إيران ومليشياته الطائفية المسلحة، مثل “فاطميون” و”زينبيون” و”عصائب الحق” و”كتائب أبو الفضل العباس” و”الحشد الشعبي” و”حزب الله” اللبناني. أي إن الأسباب التي دفعت الأنظمة العربية إلى القطيعة مع الأسد، فيما لو كانت لأسباب “إنسانية”، لا تزال قائمة، بل في مرحلة أكثر مأساوية مع وجود كارثة طبيعية، وانشغال المسعفين بإخراج ضحاياهم يتردّد صوت القصف في شمال حلب (مارع)، حسب إعلان الحكومة البريطانية، ما يعني أن الأنظمة العربية تعلن تغيير موقفها الإنساني من “ضد” القصف إلى الموافقة عليه أو حتى تأييده!
ربما من المجحف المطالبة بإبقاء الحصار والعقوبات على سورية بواقعها الحالي، حيث تفيد التجربة أن 12 عاماً من هذا الحصار، والقوائم المتلاحقة للعقوبات على النظام وأزلامه، لم تغيّر سلوكه تجاه الشعب السوري، ما يعني قدرته على تصدير أزمته إلى الشعب بعمومه، وتوزيع انعكاسات هذه العقوبات على تفاصيل حياة السوريين من دون أي تأثر يذكر في حياة الأسرة الحاكمة، أو رفاهية المحيطين به من رجال أعمال وقادة أمنيين. ويضاف إلى ذلك عودة انفتاح الأنظمة على التعاطي مع النظام أمنياً واقتصادياً تحت غطاء الإغاثة، أو من باب الاصطفاف الإقليمي الذي تقوده إسرائيل، بعد تأكيداتها المتلاحقة بالفصل بين موقفها من النظام وهجماتها على مواقع النشاط الإيراني في سورية. حيث لا يمكن الفصل بين موجة التطبيع العربي الإسرائيلي مع حملات التسامح العربي تجاه المقتلة السورية التي كانت محلّ إدانتهم في بيانات المسؤولين وتصريحاتهم، حين كانت موضة القطيعة مع النظام رائجة.
بالتأكيد، لا يمكن أن يكون لتطبيع بعض الدول العربية والإقليمية أثره الكبير على تغيير إيجابي يحصل في واقع السوريين، ولا حتى في إنهاء الصراع، حيث لا يغيّر ذلك كله من أن الولايات المتحدة هي المعنية أولاً وأخيراً بفتح الملف السوري على طاولة الحل الدولي، وتوزيع غنائم هذه المقتلة السورية، لأنها المسؤولة الأولى عن التلاعب بثورة السوريين، ومعها كل ما عُرفت بالدول “الصديقة” للشعب السوري، إذ إنها شجّعت أو ورّطت بالتحوّل من الثورة الشعبية إلى عمل الفصائل المسلحة، بدليل غرفتي الموم والكوك، اللتين رعتهما الدول الراغبة اليوم بتسريع التطبيع، ربما من باب معرفتها بواقع العسكرة، أو انتهاء الأدوار الفوضوية لتلك العسكرة، ثم فجأة تخلت عن ذلك كله بعد أن تم التوريط.
لقد تبنّى الغرب بيان جنيف 2012، ثم تخلى عنه أو ميّع مضامينه بالترجمتين الروسية والأميركية له، ثم سلّم الملف لروسيا، وجاء بعد ذلك نحو عشرين قراراً دولياً، وبينهم مفاوضات أستانة وسوتشي (روسيا وإيران وتركيا)، ثم بتحويل المأساة السورية إلى قضية إنسانية وقضية دستور، مع تحوّل الدول إلى تطبيع العلاقات مع النظام الذي تخلّى عن سيادة سورية، وأسهم بإرادته في احتلال الدول أراضيه وتقاسمها، ما يمكن التسليم به اليوم والاعتراف: نعم مات الشعب … انتصر الأسد.
المصدر: العربي الجديد