فارس حلو بكاميرا رامي فرح: رحلة خروج توثّقها عينٌ سينمائيّة   

نديم جرجوه 

في تداخلٍ، غير طاغٍ على السرد الوثائقيّ للحكاية، بين الشخصيّ والعام، ينسج السوري رامي فرح (1980) فيلماً، يُصوّر يوميات “كوميديّ في مأساة سورية” (2019، 95 دقيقة)، المُشارك في الدورة الـ3 لمهرجان “قابس سينما فنّ” (تونس)، المُقامة بين 18 و25 يونيو/ حزيران 2021. الشخصيّ منبثقٌ من تجربة المخرج نفسه في العيش أعواماً عدّة في بلده، المنكوب بالقتل والقهر والخوف. العام مفتوحٌ على سيرة بلدٍ واجتماع وأناس، عبر حكايةِ فنانٍ (فارس حلو)، تُطارده سلطة القمع والتنكيل والتهجير والإقصاء، لانتمائه إلى شعبٍ يريد عيشاً آمناً في بلده المُصادَر، ويتوق إلى كرامةٍ وحرية. فنان “حُرّ لا يخاف”، و”يُحبّه الملايين”، والمخرج ـ الحالم “بالتحرّر من صورة حافظ الأسد، كي يرى (بوضوح)” ـ واحدٌ منّهم.

العنوان المذكور أعلاه ترجمة عربية للعنوان الإنكليزي. هناك عنوان عربيّ أيضاً: “فارس حلو: حكاية ممثل خرج عن النصّ”. الفنان ممثلٌ (1961)، له ـ في النتاج التمثيلي السوري ـ أعمالٌ عدّة. الكوميديٌّ فيه (مُفردة Comedian، في العنوان الإنكليزي، تعني ممثّلاً أيضاً) يتساوى ـ في جماليته الأدائية ـ بالدراميّ. فيلم رامي فرح غير مُنفضٍّ عن هذا، لكنّه مهمومٌ أكثر بتوثيق رحلة عذابٍ وقلقٍ وارتباكاتٍ وأحلامٍ، يقوم بها الممثل في سورية، قبل تمكّنه من خروجٍ سليمٍ إلى فرنسا. زوجته، الممثلة سلاف عويشق، وابنتاهما، يلتحقن به لاحقاً. رحلةٌ، تكشف جوانب من قواعد العيش في بلدٍ منذور للدم والتغييب، وترسم ملامح من حياةٍ مغتربةٍ عن أصلٍ ينتمي إليه أناسٌ، يجدون أنفسهم مُجبرين على التخلّي عنه قسراً.

كلامٌ يقوله الراوي عن ذاته، في تقديم فيلمٍ، يتحوّل إلى شهادة بصريةٍ عن ممثل وناشطٍ. عند بلوغ الراوي 20 عاماً، يتسلّم بشّار الأسد السلطة في سورية (17 يوليو/ تموز 2000). يقول فرح إنّها “20 عاماً من الخوف”. الآن، هناك حاجة إلى تغيير الصورة بأخرى “تُشبه الأمل والحرية”. لكنّ الأمل وهمٌ، والرغبة في الحرية تتحوّل إلى جُرمٍ، تعاقب السلطة الأسدية مرتكبيه بالتنكيل والتزوير والعنف. يلجأ الراوي إلى الفنّ، لأنّ الفن “يتحايل على الخوف كي يحكي عنه”. تحديدات متواضعة، تنبع من قلبٍ وعقلٍ وعيشٍ وواقع، وتذهب إلى حافة الموت، بكاميرا توثِّق وتُسجِّل، كي تصنع صُور التحدّي والهجرة.

يستعيد رامي فرح بعضاً من حكايته، في سرده حكاية “خارج عن النصّ”، ذاك الكوميديّ “في مأساة سورية”. معه، تتحوّل العدسة إلى عينٍ تُراقب وتلتقط. الرحلة قاسية. اشتغالات فنية (مركز فني وثقافي)، يصنعها حلو قبل مغادرته، تنهار بضربات رجال أمنٍ، يبحثون عنه في أمكنتها. الرحلة في سورية قاسية وخطرة. المطاردة الأمنية والاستخباراتية تستعين بالهاتف، وصوت مسؤول أمني يُظهر تحايلاً من نوعٍ آخر: ترغيب في حوار مباشر، مع لكنةِ تهديدٍ مُبطّن. يزداد الخطر. اتصالات هاتفية بزوجته للاطمئنان، تُزيد حدّة المخاطر. يُصبح الخروج ضرورياً. الأمان مطلوبٌ بشدّة. البقاء مستحيل.

قبل ذلك، يستعيد الراوي شيئاً من بدايات ثورة، يُواجهها بشّار الأسد بحربٍ، يستخدم فيها كلّ الوسائل العنفية، لتحقيق ما يصبو إليه من بقاء في السلطة، وتنكيلٍ برافضين له. يقول الراوي إنّ “المستحيل” يتحقّق، عام 2011: “أول مرّة انكسر الخوف”، فالناس في الشارع، والصوت عالٍ. يقول الراوي إنّ “أجمل ما في الثورة أنْ لا رأس لها. لكنْ أيضاً لم يكن لها وجه”. يُضيف: “مهمّ جداً للنظام أنْ يبقى الشارع بلا وجه، كي يتمكّن من تفصيل رأسٍ على قياسه”. ترتفع وتيرة التنكيل. يرتفع عدد الشهداء. يُشارك فارس حلو في عزاءٍ لشهداءٍ في منطقة “القابون”. ترتفع حالة التقصّي الأمني. حلو لن يكون وحيداً في المشهد. “الجيش الإلكتروني” للنظام مُطالَب، هو أيضاً، بمُطاردته، ومُطاردة مي سكاف ومحمد الراشي.

قليلٌ من سيرة مخرجٍ شابٍ، وكثيرٌ من تفاصيل رحلة الخروج من سورية، وبلوغ فرنسا. الممثل الخارج عن النصّ هو نفسه الكوميديّ في (قلب) مأساة سورية. التوثيق (تصوير وتسجيل صوتي وإخراج: رامي فرح. مونتاج: غلاديس جوجو) يُراكم جوانب وهوامش تنشأ في محيط نواة درامية، تبغي (النواة) تحصين وقائع المواجهة بصُور حيّة. شيءٌ من تاريخ القتل والدم يُضاف إلى الحاصل في راهن ثورة مُجهَضة. تذكيرٌ بمجزرة حماة (1982)، وانتقادٌ لجيل الأهل “الذين صمتوا وخافوا وأورثوا أولادهم الصمت والخوف”، قبل أنْ توقظ ثورة 2011 هؤلاء “الأولاد”، وتكسر فيهم الصمت والخوف: “لكنْ، بماذا تُفيد الذاكرة، عندما يحترق البلد، ويعيش الأسد”؟

لرامي فرح فيلمٌ جديد، بعنوان “لنا ذاكرتنا” (2021، 93 دقيقة)، معروضٌ للمرّة الأولى في الدورة الـ18 (21 إبريل/ نيسان ـ 12 مايو/ أيار 2021) لـ”مهرجان كوبنهاغن للفيلم الوثائقي (CPH: DOX)”. فيه، يذهب فرح ـ رفقة 3 ناشطين ثوريين ـ إلى درعا، “مكان ولادة الثورة”. صُور ولقطات تستعيد اللحظات الأولى لانكسار الصمت والخوف. نقاشات وذكريات وقراءات. لكنّ الجُرم الأسديّ أعنف من أنْ يُحتَمل. رحلة أخرى لأفرادٍ يريدون خلاصاً لبلدهم من قبضة الموت، فيجدون أنفسهم في غربةٍ من نوعٍ آخر.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى