ثانيا : من أين جاءت الأخطاء الكبرى ؟
في السياسة كما في الحياة لاشيء يولد من العدم , والأخطاء الكبرى لاتحدث بدون أن يكون لها أسباب ومقدمات , وعادة ماتبدأ الأخطاء في الفكر قبل الممارسة لكن الممارسة يمكن أن تؤدي إلى تصحيح تلك الأخطاء أو تراكمها لتقطع الطريق على المراجعة والنقد .
في قيادة هيئات المعارضة السياسية منذ البداية ( المجلس الوطني ) كان هناك تياران رئيسيان تيار ليبرالي وتيار اسلامي , وقد ارتضى التيار الاسلامي إعطاء التيار الليبرالي صدارة المشهد واكتفى بإمساك خيوط الفعاليات الحركية من الداخل مما يعطيه هامشا أكبر في المناورة في انتظار نضوج الظرف الموضوعي .
لم يدخل التيار الليبرالي المجلس الوطني خالي الوفاض بل كانت لديه رؤيا فكرية محددة مسبقا أهم عناصرها :
- أن الهدف الوحيد للسوريين اليوم هو الديمقراطية والخلاص من الاستبداد .
- أن الوصول لذلك الهدف يمر عبر التحالف مع السياسة الأمريكية المعنية بنشر الديمقراطية في المنطقة . وقد تم إيضاح ذلك بصورة جلية بنظرية الصفر الاستعماري حيث أعاد الاحتلال الأمريكي العراق من مرحلة ما تحت الصفر الاستبدادي إلى الصفر الاستعماري وهو نقلة تقدمية نحو الأمام لابد منها .
- أن على الديمقراطيين السوريين الامساك بهذه الفرصة التاريخية وعمل مايمكن لاستثمارها في سعيهم نحو الديمقراطية .
- لأجل ذلك ينبغي التركيز على كل ما من شأنه المساهمة في الدفع نحو الأمام باتجاه التحول الديمقراطي وإسقاط كل الأفكار والأطروحات الأخرى مثل الأفكار القومية .
مثل ذلك التفكير أصبح عند التيار الليبرالي شيئا يشبه العقيدة , بالتالي حين حصل الربيع العربي وأمكن إزاحة زين العابدين في تونس وحسني مبارك في مصر , وبصورة خاصة حين تدخلت الولايات المتحدة وحلفؤها في ليبيا عسكريا وتم إسقاط النظام الليبي أصبحت الطريق لدى التيار الليبرالي واضحة وضوح الشمس فالهبة الشعبية السورية ستكون مسألة مؤقتة , بعدها سوف تتدخل الولايات المتحدة كما تدخلت في ليبيا .
ولكون التيار الليبرالي يتصف بالعقائدية ( الدوغما ) فهو لم يفكر كثيرا في الشروط الموضوعية التي تختلف بها سورية عن ليبيا في موقعها الجيوسياسي , كما لم يفكر في علاقات النظام السوري الاقليمية والدولية وشبكة الحماية التي نسجها عبر عشرات السنين .
بل لم يفكر في الشروط الداخلية السورية التي أصبح النظام فيها متماهيا مع الدولة السورية بحيث أن إسقاطه بالعنف وبضربة واحدة يعني المخاطرة بانهيار الدولة أو الحرب الأهلية .
كل ذلك لم يكن موضع اهتمام ذي قيمة لدى التيار الليبرالي مثلما هي العقائدية في السياسة أحيانا كثيرة .
والمفارقة أن ذلك التصور لم يتأثر كثيرا عندما وضعته الممارسة على المحك .
ففي اجتماعاته الأولى مع المعارضة السورية قال لهم السفير الأمريكي في سورية السيد روبرت فورد وبطريقة صريحة للغاية : ” إياكم أن تفكروا بإسقاط النظام ” لكن ذلك لم يكن كافيا لمراجعة تصور كان قد تصلب كحجر .
لم يكن السيد فورد يمزح , ولم يكن يقول رأيه الشخصي , كان يعبر عن موقف الدولة العميقة في الولايات المتحدة , وهو الموقف الذي لم يتغير قط , دعك من مسألة التعاطف مع مأساة الشعب السوري , أو السعي لايجاد حلول وسط تلبي بعض مطالب المعارضة ولا تسقط النظام .
بالتالي كان يمكن لتفكير سياسي مرن وحيوي أن يستنتج مبكرا أن المراهنة على التدخل الأمريكي مراهنة خاسرة , وأن معركة الديمقراطية في سورية ستكون طويلة ومتعددة المراحل , وأن أي خيار عسكري سيؤدي إلى حرب أهلية ودمار كبير .
وبدلا من تلك المراجعة ومصارحة الشعب بالحقائق والبحث عن مخارج واقعية فقد قاد التيار الليبرالي حملة تخوين ضد كل من لايقول بالتدخل العسكري الخارجي وكأن الغرب والولايات المتحدة يقفون ببوارجهم على شاطىء سورية بانتظار أن يحسم السوريون أمرهم بطلب التدخل العسكري !
وبصورة متسقة فقد استقبلت عسكرة الثورة بترحيب فمهما كان التوازن مختلا بين مجموعات صغيرة تحمل أسلحة فردية وجيش من أقوى جيوش المنطقة مزود بآلاف الدبابات والمدافع والطائرات والصواريخ فإن تلك المعركة لن تكون سوى معركة مؤقتة ريثما يتم التدخل الخارجي , بل هي أيضا ضرورية لتسريع ذلك التدخل وإجبار الدول الكبرى عليه في فعل يشبه الاستغاثة كما حصل في ليبيا .
كل ماجرى بعد ذلك كان مرتبطا بتلك الخلفية من التفكير التي سرعان ما أصبحت شعبية ولاقت صدى واسعا لدى الشباب المتحمس الذي يفتقد الخبرة السياسية .
بدلا من تبديد وهم التدخل العسكري المنقذ , ومراجعة استراتيجية النضال الديمقراطي , والتحذير من الانزلاق نحو العسكرة سلكت هيئات المعارضة الطريق المعاكس .
وبسلوكها السابق ساهمت بفتح الطريق أما العسكرة , لكنها بدون وعي كانت تحفر لنفسها فقد حملت العسكرة معها تلاشي نفوذ تلك الهيئات لصالح قادة الفصائل ومن يمولهم ويرعاهم .
يقول الدكتور برهان : ” لم يراودني الشك في أن الانتقال من الثورة السلمية إلى الثورة المسلحة سوف ينقل القيادة السياسية والتوجيه العام من القوى المدنية التي كانت المفجرة للثورة والتي حملتها على أكتافها في مرحلتها الأولى إلى القوى الاسلامية التي تفاعلت منذ البداية بشكل ايجابي أكبر مع السلاح , مما يفسح المجال كما حصل لبروز الخيارات الجهادية والسلفية التي ستبتلع الثورة المدنية والديمقراطية وتسعى إلى تجييرها لحسابها , وزجها من ثم في دائرة الصراعات الدولية التي جعلت من المستحيل بعد ذلك على قيادتها مهما كانت التحكم بقواها وقرارها “
نعم هذا ماحصل بالفعل , ويبقى السؤال الذي يضعه كثيرون كمتراس بوجه النقد : ألم يكن الخيار العسكري قدرا لابد منه بوجه الخيار العسكري العنيف للنظام بمواجهة الحركة الشعبية ؟
وماذا كان سيفعل الشعب السوري بعد أن هب بالملايين مطالبا بحريته فتمت مواجهته بالرصاص ؟
وفي الحقيقة فإن هذا السؤال يخفي وراءه قدرا كبيرا من التهافت بمقدار مايبدو منطقيا للوهلة الأولى .
لنترك قليلا الإجابة عليه بالحجج المنطقية ولنرجع إلى ماحصل في الواقع .
يذكر الدكتور برهان في كتابه أن حمل السلاح بدأ لاحقا بعد شهور من مواجهة النظام للمظاهرات السلمية بالرصاص , حيث تكونت مجموعات متناثرة من المسلحين الذين ضموا جنودا منشقين كانت مهمتهم الرئيسية حماية المتظاهرين السلميين .
ثم يذكر الدكتور برهان أن تلك المجموعات سرعان ما وصلت إلى طريق مسدود وبدأت بالتفكك .
بعد ذلك دخلت الدول الاقليمية والكبرى على الخط وتدفقت الأسلحة والتمويل وتم إنشاء غرفتين قياديتين لمراقبة وتوجيه العمل المسلح واحدة في تركيا وأخرى في الأردن بإشراف عدة دول على رأسها الولايات المتحدة .
ماذا يعني ذلك ؟
ببساطة يعني أن خيار العسكرة في البداية كان خاطئا ووصل بسرعة ألى طريق مسدود حين كان مايزال بعيدا عن الأجندات الدولية .
أما في المرحلة التالية فالدفاع عن الخيار العسكري سيكون أصعب بكثير , ورأينا كيف سقط مدويا ليس بفعل ضربات النظام وحلفائه فقط ولكن أيضا بفعل الأوامر التي جاءته لاحقا من غرف التحكم والقيادة في تركيا والأردن .
هذا مايقوله الواقع عن الخيار العسكري , أما إذا انتقلنا للحجج المنطقية التي يسوقها البعض خاصة عن الخيار العسكري في مرحلته الأولى فمجرد التأمل قليلا في حجة الدفاع عن المتظاهرين السلميين يكفي لإظهار تهافت هذه الحجة .
فهل يكفي بضعة مسلحين بأسلحة خفيفة لمواجهة جيش نظامي متماسك ومزود بأحدث الأسلحة ؟
هل كانوا يحمون المتظاهرين أم أن المتظاهرين كانوا يحمونهم ؟
بل لعلي أزعم أن النظام قد استفاد كثيرا من وجود بعض المسلحين لتحويل الصراع إلى صراع مسلح وهو ميدانه المفضل .
أما عن السؤال الآخر : فلايقل تهافتا عما سبق , فالبديل عن الغرق ليس الرمي في النار , والبديل عن النضال السلمي ليس الخيار العسكري غير العقلاني والذي لاتوجد له شروط النصر بل التدمير الشامل .
الخيار العقلاني هو ذاته الذي يطرح اليوم بعد كل ماحصل , أي النضال الوطني السلمي الديمقراطي ذو النفس الطويل وليس الخيارات الانقلابية العنيفة .
لقد دفعت سورية ثمنا باهظا جدا , وعلينا أن نبحث عن الأسباب في أخطائنا ونعترف بها , وذلك هو السبيل الوحيد لعدم تكرارها مستقبلا .