هل تُعيد مصر التوازن الى المنطقة بعد العدوان على غزة؟

د.ناصر زيدان

إندفعت مصر في شكل قوي باتجاه قطاع غزة إبان العدوان الإسرائيلي عليه، وفي الفترة التي جرت فيها مفاوضات وقف إطلاق النار، واستكملت دورها بفاعلية في المرحلة اللاحقة في اتجاهاتٍ ثلاثة: قيادة خطة إعادة إعمار ما دمره العدوان من جهة، وإطلاق حوار فلسطيني – فلسطيني من جهة ثانية، والسعي الى إعادة تحريك مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
الواضح أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وضع أثقالاً سياسية وأمنية وإنسانية وصحية في كفة ميزان التهدئة، بهدف تشكيل رافعة واقعية لحالة الضياع التي تعيشها الساحة الفلسطينية، ولتدارُك الأخطار الناجمة عن الاندفاعات الشعبية غير المحسوبة التي انطلقت في أعقاب التحرشات الإستيطانية في القدس – وتحديداً في حي الشيخ جرّاح ومحيط المسجد الأقصى – وتفاقمت بوتيرة واسعة بعد العدوان التدميري الذي نفذته الطائرات الإسرائيلية على مدينة غزة وضواحيها، وذهب ضحيته مئات الشهداء والجرحى من الأبرياء الفلسطينيين، وأسفر عن تدمير شامل لأحياء بأكملها، لم يشهد أن حصل بهذه الوحشية من قبل.
قادت مصر تحركاً واسعاً للوصول الى وقف إطلاق النار، وقد حظيَ موقفها بتأييد عربي شامل، وتعاونت معها القوى الدولية الفاعلة، وفرض موقفها تدخلاً أميركياً مساعداً، ولو أن هذا التدخل أتى متأخراً بعد فترة من الصمت المريب، والذي كان يميل أكثر في اتجاه تبرير العدوان الإسرائيلي على اعتباره “دفاعاً عن النفس”، لكن سياق الأحداث والمقاومة الهائلة التي ظهرت لدى القوى الفلسطينية في القطاع، إضافةً إلى الحراك السياسي والشعبي الكبير الذي رافق الأحداث؛ فرض على القوى الكبرى، وفي الطليعة الولايات المتحدة الأميركية، إعادة النظر بالصمت السلبي الذي مارسوه خلال أكثر من أسبوع، وكانت فيه الاعتداءات مستمرة في القدس، والتدمير الإسرائيلي المُمنهج يفعل فعله في غزة.
كانت القاهرة محطة أساسية لإدارة الأزمة، ومنها إنطلقت التسوية على وقف القتال بمشاركة الأمم المتحدة والولايات المتحدة، وقد تبيَّن بعد وقف إطلاق النار، أن مصر تقود جهوداً استراتيجية استكمالية، قد تؤدي الى تغيير الخريطة برمتها، وربما تُعيد بعض التوازن المفقود جراء غياب الدور العربي الفاعل لفترة طويلة عن الأحداث، وربما تؤدي الاندفاعة المصرية الجديدة الى تغييرات جوهرية في السياق العام الذي كان قائماً في المرحلة السابقة، والذي غلبت عليه التدخلات الإيرانية والتركية، مع تجاذبات بين هؤلاء وإسرائيل، كانت الساحة الفلسطينية توظف للمصالح العليا لكلٍ منهما، وفقاً لآجندة غابت عنها المصالح العربية بالكامل.
تسعى مصر لجمع قادة الفصائل الفلسطينية المتنازعة في القاهرة في حضور الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهذا الأسبوع سيأخذ أهمية إستراتيجية، كونه سيردم الهوة السحيقة التي نشأت بين الضفة الغربية التي تقودها منظمة التحرير الفلسطينية وبين قطاع غزة الذي تقوده حركة “حماس” وحلفاؤها، وتطويق الخلافات الداخلية سيعطي فرصة ذهبية للسلطة الفلسطينية لتُعيد تثبيت دورها الريادي، وتشرف على إعادة الإعمار وترميم البنى التحتية الفلسطينية المتهالكة في الضفة والقطاع، خصوصاً في المجال الصحي، وذلك إستناداً إلى دعم سخي عربي ودولي في هذا الاتجاه، حيث أعلنت مصر وحدها عن تقديم 500 مليون دولار والولايات المتحدة الأميركية 238 مليوناً، وهذا ما لم يكُن مُتاحاً في السابق، لأن التدخلات الإيرانية، والخلافات الداخلية كانت تمنع مثل هذا الدعم.
وعلى الضفة الأخرى، أطلقت زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية أنتوني بلينكن مساراً تفاوضياً جديداً، من خلال تحريك مساعي اللجنة الرباعية الدولية الراعية للسلام، والتي تتألف من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا إضافة الى الولايات المتحدة، للتوصل الى عقد مؤتمر دولي للسلام في المنطقة، يشارك فيه كل أطراف النزاع، خصوصاً الفلسطينيين، وينطلق من التفاوض على قاعدة حل الدولتين. وقد عُهِد لمصر متابعة هذه المساعي، وبتفويضٍ دوليٍ وعربيٍ واضح، عبّر عنه منسق عملية السلام تورنتو لاند عند وصوله الى قطاع غزة.
الأحداث الأخيرة وما رافقها من استنفار شعبي وسياسي عربي ودولي، كان يغلب عليه التعاطف مع الحقوق الفلسطينية المشروعة؛ شكَّلت رافعة مهمة لانتشال القضية المنسية من أسفل سُلَم الاهتمامات الى الواجهة. ورؤية الحشود الشعبية تندفع من دون أية قيود وحسابات على إمتداد الحدود المصرية والأردنية واللبنانية تعبيراً عن التضامن مع الفلسطينيين، دفعت حكومات هذه الدول وغيرها للتحرُّك سريعاً لتلافي أية أحداث غير متوقعة، قد تؤثر في الاستقرار الداخلي لهذه الدول أيضاً.
هل تُساعد التطورات المتلاحقة في إسرائيل، لا سيما موضوع إبعاد بنيامين نتنياهو عن رئاسة الحكومة في تفعيل المساعي المصرية في اتجاه إيجاد حلول واقعية للمعضِلة الفلسطينية بعد ربع قرن من الضياع والنسيان والاستغلال؟
وهل ستواكب حركة “حماس”، التي أثبتت عن قدرة فائقة على الصمود، المقاربات المصرية والعربية الجديدة، بعيداً من الاعتبارات السابقة التي وضعتها في خانة المجموعات التي تساند محور إقليمي على حساب محور آخر، ما أثر في مكانتها الفلسطينية والعربية وخسَّرها بعض التعاطف؟
التوجهات الكبرى تبقى أهم بكثير من الخلافات التفصيلية على أحقية الإشراف على إعادة الإعمار، أو على أولوية تبادل الأسرى او إدخال مواد الإغاثة والبناء. قد تحمُل الأيام المقبلة مفاجآت غير متوقعة!

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى