[ والذين استجابو لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ]
[ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم]
[وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ]
[إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ]
[إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نسائهم . إنه كان من المفسدين]
صدق الله العظيم
قرآن كريم
مدخل :
يكتسب الموضوع أهميته من كونه ذا تأثير مباشر وقوي على دول وشعوب كثيرة في العالم، وتأثير غير مباشر على العالم بأسره ، وهذا التأثير لا يقتصر على المجالات السياسية , ولكنه يتخطاها للمجالات الأمنية والاقتصادية , ولذا فهو يشغل تفكير الباحثين والساسة في كل مكان شرقا وغربا , ولا سيما مراكز الابحاث الاكاديمية , وعقدت في العقود الثلاثة الأخيرة مؤتمرات لا تحصى لمعالجته عينا , أو بحث جوانب منه , وآخرها مؤتمر بيروت الذي نطمته الامم المتحدة في اواخر ديسمبر 2011 بحضور امينها العام , نظرا للأهمية المضاعفة والاستثنائية التي اكتسبها الموضوع في ضوء الربيع العربي والنتائج ( المفاجئة ) التي تمخضت عنها الثورات الشعبية إذ أسفرت عن وصول الاسلاميين للسلطة بعد انتخابات حرة جرت في تونس ومصر والمغرب , ويتوقع أن لا تكون ليبيا مختلفة أو متخلفة عنها لاحقا , أو اليمن , وربما سوريا ,ناهيكم عن أن الاسلاميين موجودون حاليا كشريك رئيسي في الحكم في العراق ولبنان والاردن والسودان والجزائر واليمن والكويت , إصافة لتركيا وإيران وباكستان وبنجلاديش والسنغال ونيجيريا , وبعض هذه الدول كبرى ونووية .
وقبل أن ننقب في طبقات المفهوم العميقة ونشق طريقنا في مسالكه الوعرة نشير إلى أننا استخدمناه في العنوان درجًا على الشائع في عموم الدراسات , وبخاصة الغربية , مع علمنا أنه تركيب ملتبس , ويثير إيحاءات متعددة تتنافى مع الدقة العلمية المفترضة . إلا أننا قصدنا استعماله بصورته الشائعة بقصد إظهار هذا الالتباس والخلل فيه حيث يوظف أحيانا كثيرة للتشويش عن عمد في المادة الصحافية وسائل الاعلام الغربية , والدولية .
لذلك سأسلك في بحثي هذا منهجًا يقوم على ضبط المصطلحات بدقة أولا , ثم تفكيك المفهوم إلى عناصره وبنياته الأساسية , ثم إعادة تركيبه ثانيا , وبلورة الخطاب في حلته الأخيرة ثالثا وأخيرا .
أولا -الاسلام :
يستعمل هذا المصطلح جزافًا بشكل مضطرب للإشارة إلى ثلاثة مفهومات محتلفة تماما , هي الدين الاسلامي , والفقه أو الفكر الاسلاميان , والمجتمع الاسلامي , أو حتى الدول والشعوب الشرقية التي تتألف شعوبها من مسلمين ومسيحيين ويهود وطوائف أخرى . على سبيل المثال لا الحصر ظهرت كتب كثيرة جدا تحمل عناوين مثل : الاسلام والحداثة , الاسلام والمرأة , الاسلام والعَلمانية , الاسلام والغرب , الاسلام والديمقراطية , الاسلام والماركسية , الاسلام والاشتراكية , الاسلام ونظام الحكم , الاسلام والاقتصاد الحر , الاسلام والعلاقات الدولية , الاسلام والعولمة , الاسلام وأوروبا .. وهلم جرا إلى مئات. وآلاف المؤلفات . ولكن أكثرية هذه المؤلفات لا تتسق عناوينها مع مادتها , وإذا تناولنا على سبيل المثال , كتاب الاسلام والحداثة الذي نشر عام 1985 في باريس لباحثين فرنسيين مهمين وتأملنا عنوانه الذي يجذبنا إلى موضوع شيق , ثم استعرضنا محتوياته لوجدنا بونًا شاسعا بينهما , ففي الداخل سنجد حوارات معمقة مع نحو خمسين كاتبا وشاعرا وروائيا من الدول العربية , بينهم مسيحيون ودروز وشيعة وعلويون , ومعظمهم عَلمانيون وماركسيون ومتغربون , يحشرهما المؤلفان في خانة المسلمين حشرا تعسفيا , وليس بينهم كاتب واحد ذو اتجاه اسلامي بارز , وتدور المحاورات حول التجديد الادبي والفكري في الثقافة العربية المعاصرة , وكان ينبغي اختيار عنوان دقيق للكتاب , لولا أن مثل هذه العناوين تتمتع بإثارة خاصة في الاوساط الغربية . وأكرر المثال بكتاب ثان من السويد للمثقف والكاتب البارز انجمار كارلسون ( الاسلام وأوروبا : صراع أم تعايش ؟) الذي صدر في ستوكهولم عام 1994 وأحدث أصداءً قوية وشكل مرجعية لسياسة الحكومة آنذاك تجاه العالمين العربي والاسلامي وظاهرة المهاجرين منهما للسويد , وهو كتاب ممتاز والحق يقال، لكن الخلل يكمن كسابقه في التباين بين العنوان والمحتوى الذي تناول التغيرات الجيوبوليتيكية التي شهدها الشرق الاوسط وآسيا الوسطى اثر انهيار الاتحاد السوفياتي 1991 .. فما علاقة هذه الموضوعات بالاسلام.. ؟, ولماذا يزج بالاسلام فيهما بهذا التبسيط ..؟ والامر تفسه في كتب عديدة عن الاسلام والمرأة حيث يعدنا العنوان بدراسة عن مفهوم الاسلام للقضايا النسوية دينيًا وفقهيًا واجتماعيا بينما المحتوى يعالج وضع المرأة المزري في السعودية أو الصومال أو أفعانستان , دون أن يوضح لنا العلاقة السببية بينهما !.
أما إذا شئنا الدقة وضبط المصطلحات فلا بد ان نميز على الدوام في أي دراسة أو مناقشة وبأقصى درجة من المنهحية العلمية بين المفاهيم الثلاثة التالية :
1 – الاسلام كدين وعقيدة , وهو ما يتضمنه حصرا القرآن الكريم بحسب التفاسير العلمية المتفق على صحتها بين المراجع الاسلامية , والسنة النبوية الشريفة المجمع على صحتها وتواترها قوليا وعمليا .
2 – الفقه والفكر الاسلاميان , وهما مما يتضمنه ويشمله التراث الاسلامي بغثه وثمينه , بثابته ومتحوله , ومحليه وعالميه . إن المجمع عليه بين جميع أئمة المذاهب الرئيسية والفقهاء والمراجع أنه لا عصمة ولا حصانة لأحد من البشر سوى الرسول الكريم [ص] فكل واحد يؤخذ منه ويرد عليه غير الرسول , وهكذا فكل الآراء والمذاهب الفقهية والفتاوى والاجتهادات قابلة للنقد والمخالفة والمراجعة , وغير ملزمة إلا في بعض الحالات , والواقع أن بعضها غاية في القيمة على مر العصور , وبعضها محدود القيمة , وبعضها ضحل , وبعضها محلي مرتبط بظروف محلية ومؤقتة , وبعضها عكس ذلك . المهم الذي يجهله أو يتجاهله الباحثون والناس هو أن ما يسمى الفقه الاسلامي لا يعد من الدين بل هو فكر بشري يسري عليه قانونا النسبية والتقادم , ولا يتحمل الاسلام كدين وزره إن كان جانحا أو متخلفا أو متطرفا، ولا يتحمله سوى من أصدره ومن اتبعه.
3 – تجارب المجتمعات المسلمة عبر التاريخ , وهذه أيضا لا تمثل الاسلام كدين دائما , سواء كانت متحضرة وراقية أو كانت غير ذلك . فهذه التجارب محكومة بقوانين التطور التاريخي ودوراته صعودا وهبوطا . وقد شهد تاريخ المسلمين في القارات الثلاث القديمة حضارات إسلامية زاهية وراقية بما فيها تجارب حكم شوروية وعادلة عظيمة , وشهد مراحل انحطاط وتقهقر , شأنه كشأن تاريخ بقية الامم والدول المسيحية والوثنية والبوذية … إلخ . وغني عن القول إن صعود او انهيار الحضارات والامبراطوريات ظاهرة معقدة تحكمها قوانين كثيرة اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية عنيت بدراسات معمقة كثيرة ربما كان أهمها على الاطلاق موسوعة ابن خلدون عن التاريخ , والكتاب الموسوعي عن انهيار الامبراطورية الرومانية للكاتب الانجليزي الفذ .
ثانيًا – الديمقراطية :
تتعدد تعريفات الديمقراطية وتتباين بل وتتضارب , وسنتجاوز تعداد وإيراد الامثلة منها , والبحث في إشكالياتها وتعارضها , ونأخذ منها ما نحتاجه لبحثنا , ونرى باختصار إنها أفضل وأنجح ما توصل إليه الفكر الانساني وتجارب الحضارة المختلفة في مجال تنظيم وإدارة الدول والمجتمعات لنفسها وشؤونها وتطوير إمكاناتها ونموها وتحقيق العدالة والرفاهية , وتندرج في هذا المعنى بطبيعة الحال قواعد ونظم الحكم السياسية . أجل نقول هي الأداة الأفضل مقارنة بالماضي , ولكننا لا نصل إلى ما وصل إليه المفكر الاميركي المعاصر ميشيل فوكوياما في نظريته (نهاية التاريخ) التي رأى إن الديمقراطية هي خاتمة المطاف في سعي البشرية نحو الحكم الفاضل العادل الكامل . وأعتقد أننا لا ينبغي لنا الحجر على المستقبل , فالعقل لا حدود لإبداعه , وحاجات الحياة البشرية تتجدد وتتزايد , وفي رأيي المتواضع ورأي كثيرين من المفكرين إن الديمقراطية بصورتها الحالية ليست بالمثالية كما تنطوي عليه نبوءة فوكوياما , ولا بد من مواصلة البحث دائما عن الاصلح والأكثر ملاءمة ومواءمة بين الحاجيات والأمنيات .
ويعنينا هنا تصويب بعض المفاهيم المغلوطة السائدة في الثقافة العالمية , عن ماضي وحاضر وطبيعة الديمقراطية .
1 _ فهي ليست كما يعتقد ويروج بعض الأوروبيين نتاجا للحضارات الأوروبية , وإنما هي نتاج جهد بشري جماعي تراكم عبر العصور , وثمرة تجارب متنوعة شاركت فيها كل الحضارات القديمة الشرقية والغربية , ومن الافتئات على التاريخ أن يرسم للديمقراطية خط سير يبدأ من أثينا وروما وينتهي في غرب الأطلسي , مرورا بباريس ولندن , ذلك أن حضارات الشرق الأكثر عمقا في الزمن , ولا سيما في بلاد ما بين النهرين ومصر , سبقت حضارات الهللينيين والرومان بأكثر من ألف عام , بما فيها تجارب الحكم الرشيد بواسطة قوانين وتشريعات ومؤسسات متطورة , بل إنه من الثابت أيضا أن حضارات الضفة الشمالية من المتوسط استمدت زيتها من سالفتها في الضفة الجنوبية وخاصة المصرية والآثورية والبابلية والسومرية … إلخ .
2 _ لا بد أن نشير أيضا إلى دور الاسلام والمسلمين علميا وعمليا في الوصول إلى التركيبة غير السحرية للديمقراطية الحالية , ويشهد على ذلك تاريخ حافل وحضارة امتدت أكثر من ألف عام , وما زالت بعض صفحاتها مصدر الهام للديمقراطية الحالية حتى الآن , وبالإمكان مطالعة ما يقوله انجمار كارلسون عن أمله أن يصبح البيت الاوروبي الجديد صورة مماثلة لما كانت عليه الاندلس بيئة للتسامح والتعايش والازدهار بين الاديان والثقافات . وكما نعلم فالتأثير العربي والاسلامي في حضارة اوروبا الحالية ثابت باعتراف مئات المستشرقين المنصفين , وبطبيعة الحال فالتأثير لم يكن محصورا في العلوم بل كان في تجارب الحكم الراقية والتي ظلت معمولا بها في جمهوريات جنوب أوروبا بدون أن تكون مسلمة او فيها مسلمون ولكن لمجرد صلاحيتها والانبهار بها كما ينبهر كثيرون اليوم بالنموذج الأمريكي أو الأوروبي .
3 _ إن بعض التيارات الغربية تطرح الديمقراطية بطرق غير ديمقراطية وخطرة جدا إذ باتت تنشر الديمقراطية وتبشر بها في العالم بنفس اسلوب المبشرين إذ ( يبشرون) بالمسيحية في العالم بطريقة توحي وكأنها ديانة جديدة بل إنهم لا يترددون في وصفها هكذا , ولا يدخرون جهدا في خوض الحروب المدمرة ويقتلون مئات الألوف من أجل نشرها أو ( فتح ) البلاد المستعصية أمامها , بنفس روحية الفتح والجهاد المقدس التي سادت لأسباب دينية في عصور غابرة , وما تيار المحافظين الجدد الذي ظهر منذ سقوط االشيوعية واستقوى في الولايات المتحدة في عهد جورج بوش 2001 _ 2009 , ومثيله في بريطانيا , وهو الذي شن الحرب على العراق بلا مبررات واقعية , وتسبب بمقتل مليون إنسان , وتدمير مقومات حضارة عريقة , وكذلك نظير هذا التيار المسمى ما بعد الليبرالية , أو النيو ليبرالزم …ما هو إلا مثال بارز عنها .
4 _ إن تقييم أهمية الديمقراطية في التاريخ والعالم المعاصر بشكل موضوعي متوازن يقتضينا أن نذكر إلى جانب مزاياها وسجاياها المجيدة خطاياها وحرائمها المروعة . ألم تظهر الديمقراطية الحديثة في حضانة الرأسمالية المتوحشة , وكانت الشقيقة التوأم للاستعمار القديم .. والشقيق الاكبر للامبريالية والاستعمار الحديث ولعمليات نهب الشعوب واستعبادها ؟؟.. ألم تتعايش هذه الديمقراطية الحميدة مع العنصرية والفاشية والنازية والصهيونية .. وتسمح لهذه الموبقات بالاحتماء في ظلالها والاقتتات من خيراتها ونعمها ؟؟ .. الم تكن مسؤولة عن حروب طاحنة على امتداد الكوكب كله ومصرع أكثر من مائة مليون انسان في القرن العشرين وحده وأنتجت أسلحة الدمار الشامل واستعملتها في هيروشما وناغازاكي , وأبادت شعوبًا بأكملها دفاعا عن مباديء الديمقراطية كما كانت تقول أميركا إبان عدوانها على فيتنام …؟؟!!
5 _ لا بد أن نلاحظ أيضًا أن الديمقراطية على صعيد النظريات والتجارب ليست وصفة طبية واحدة , وليست موديلا واحدا , بل إن تاريخ الديمقراطية المعاصرة أبرز لنا تجارب وتطبيقات متعددة ومتنوعة وغنية كثيرا , تبعا للخصائص المحلية والثقافات والاديان والظروف الاقتصادية والاجتماعية . فالديمقراطية البريطانية العريقة , غير الديمقراطية الهندية , وهذه برأيي أعظم ديمقراطيات العالم المعاصر لعوامل كثيرة لا يتسع المجال لطرحها , والديمقراطية الفرنسية تختلف نوعيا عن الديمقراطية الامريكية , والديمقراطية السويدية غير اليابانية وغير الامريكية .. وهكذا. وفي رأينا فإن التنوع والتعدد دليل قدرة الديمقراطية على التأقلم مع البيئات الوطنية والثقافات المختلفة , ودليل قدرة الثقافات العريقة على اكتساب قيم الحداثة .
6 _ لا بد أن نشير إلى _ ولا نتجاهل بتاتا _ النموذج الديمقراطي الذي طرحته التجارب الاشتراكية او الشيوعية , رغم التحفظات الحادة الآن عليه بعد سقوط اقوى نماذجه في روسيا وشرق أوروبا , ودول اخرى عديدة هنا وهناك . لا بد أن نعترف بأنها تمثل مرحلة خاصة من مراحل السعي الانساني النبيل للوصول الى معادلة متوازنة بين الحرية السياسية والفكرية من ناحية , والعدالة الاجتماعية من ناحية اخرى .
********************
قابلية التفاعل المتبادلة فكرا وحضارة :
الآن وبعد تحديد مفهومي الاسلام والديمقراطية , كلًا على حدة , نتقدم خطوة أخرى على طريق استجلاء طبيعة ومساحة العلاقة المشتركة الممكنة بينهما , ومدى قابلية كل منهما للتفاعل مع الآخر , وهل يتناقضان ويتنافيان أم يتلاقيان ويتماثلان .. ؟ وإلى أي مدى ؟ وكيف ؟؟ وفي ظل اي شروط ؟
أولا _ بالنسبة للاسلام : يؤمن المسلمون بأن دينهم هو خاتم الرسالات السماوية وينبني على ذلك أنه يختزل الديانات والرسالات السابقة عليه , ويحتوي على ما يجعله صالحًا في الحاضر والمستقبل , ومؤهلا ليتكيف مع جميع البيئات والثقافات والامم , وهذا هو الواقع . فالاسلام كدين منتشر وبقوة في جميع القارات من الصين والهند إلى أوروبا والأمريكتين , مرورا بأفريقيا , وهو الدين الذي يمتلك ميكانيزم انتشار خاص به متحرر من قوة المسلمين وظروفهم , وهو الأسرع انتشارا في العالم حتى الان , وبخاصة في أوروبا , ويبلغ مجموع المؤمنين به نحو مليار وربع مليار . وهو دين العقل والعلم والحضارة مثلما إنه دين الفطرة , وهو الدين الذي لا يفرق بين البشر لا بسبب اللون والعرق , ولا بسبب الدين , ولا بسبب المكانة الاجتماعية . وهذه الخاصيات الفريدة تجعل الاسلام ذا قابلية كبيرة لاستيعاب معطيات التطور وثمرات التقدم المادي والمعرفي البشري . وسنشير هنا إلى منظومة محددة ومحدودة تحقق هذه القابلية . مع اعترافي أنها مبتسرة وقاصرة , ويتطلب الامر مزيدا من التعمق والأناة .
1_ لم يحدد الاسلام كدين صيغة محددة للحكم في الدولة , ولا نظاما محددا , ولكنه حدد إطارا من المفاهيم والحدود الثابتة وترك للعقل البشري أن يساير التطور ويملأ الاطار بالنظم المناسبة حسب كل عصر , وحسب كل بيئة , فليس مهما ان يكون خلافة أو ملكية أو جمهورية أو غير ذلك , بل المهم أن يراعي الحدود والقواعد والمقاصد الشرعية للاسلام . ولكن منطوق الاسلام وروحيته تقتضيان أن يتبع المسلمون في كل عصر النظام الافضل السائد , ويلاحظ الشيخ العلامة عبد الله العلايلي أن القرآن يحرم النظام الملكي , ويرى ان علة التحريم ليس لأنه ملكي وحسب , ولكن لأنه مطلق السلطات والصلاحيات أي ديكتاتوري وفاسد وطغياني . ويرى مفكرون وفقهاء لا حصر لهم أن النظام الاسلامي الذي يناسب هذا العصر ويحقق مقاصده الشرعية هو النظام البرلماني , ومن هؤلاء الشيخ علي عبد الرازق في كتاب اصدره في مطلع القرن العشرين , عنوانه الاسلام واصول الحكم , ويذهب إلى مثل هذا المفكر حالد محمد خالد في عدة كتب ووصل إلى أن تعددية الاحزاب وحريات التعبير هي شرط من شروط الاسلام , وهو كان يعني أن النظام الاشتراكي الذي طبق في مصر والغى التعددية والحريات السياسية الليبرالية في الخمسينات والستينات يتعارض مع الاسلام .
2 _ لا يقر الاسلام ( الدولة الدينية ) إطلاقا وليس فيه اي امتيازات لطبقة رجال الدين على صعيد الحكم , والحكم فيه لعامة المسلمين حسب الكفاءة والأهلية ورضا الناس . وقد رفض الرسول الكريم (ص) أن يختار أحدا من الصحابة ليكون خليفه له فاختار المسلمون أبا بكر بعد نزاع بسيط وذان احتيارا على اساس الرضا والاختيار الحر , وهو أكد على هذا المعنى في خطبته الأولى التي تمثل برنامجه الحكومي : (أَيُّها الناسُ فَإِني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم فإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني. الصِدْقُ أمانةٌ والكَذِبُ خِيَانَةٌ . والضعيفُ فيكم قويٌّ عندي حتى أرجعَ إليه حقَّه إن شاء اللّه، والقويّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذَ الحقَّ منه إن شاء اللّه. أَطِيعُوني ما أَطَعْتُ اللَّهَ ورسولَه فإِذا عَصَيْت اللَّهَ ورسولَه فلا طاعةَ لي عليكم. – المصدر : سيرة ابن هشام وعيون الاخبار لابن قتيبة ) . إذن فالحكم يكون لمن يحتاره المواطنون , ويوافقون عليه بناء على مؤهلاته وليس لأي شرط ديني . وكرر عمر بن الخطاب المعاني نفسها فقال إن أخطأت فقوموني فقام أحد الرجال وقال له لنقومنك بسيوفنا . فرد عمر : الحمد لله الذي جعل في امتي من يقومني بالسيف إن أخطأت . وعندما حدثت الفتنة الكبرى اقتتل المسلمون بسبب السلطة في عهد علي ومعاوية , ولكن أحدا منهم لم يشكك ابدا بصحة إيمان الآخر , ولم يكفر احد الآخر . ولم يقل اي منهما إن ما يطرحه الاخر حرام أو كفر . فالجانبان يقران بأن ما يطرحانه هو اجتهاد ورأي في شكل السلطة وأمورها , وهذه مما تركه الدين مفتوحا لاجتهاد البشر، ولم يحدد الوحي الالهي نموذجا معينا للحكم .
3 _ أساس الحكم في الاسلام ومعياره وغايته هو العدل بالمعنى المطلق , والقرآن الكريم يحفل بالآيات التي تتحدث عن هذا المعنى المبدئي الثابت , ومن المجمع عليه بين الفقهاء أن الدولة الكافرة إذا كانت عادلة خير من الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة . والدول في القرآن والسنة إنما تهلك وتنهار لغياب العدل وليس لكونها كافرة , وإنها ترقى وتتطور بالعدل , ولا شك أن العدل هو محتوى الديمقراطية .
4 _ الدولة في الاسلام دولة وطنية أو مدنية تساوي بين مواطنيها بصرف النظر عن اديانهم ومذاهبهم . الدولة الاولى في الاسلام التي أسسها الرسول في المدينة بعد هجرته اليها , كانت تضم مسلمين ويهودا ومشركين ونصارى , وقد وضع الرسول مع الاطراف الاخرى ( الصحيفة ) لتنظيم العلاقات والحقوق والواجبات واعتبرها المشرعون في التاريخ بمثابة ( دستور) للدولة , وتألف من 46 مادة , ساوت بين الجميع ووحدت بين الحقوق والواجبات . وفي عهد الخلفاء كان بيت مال المسلمين يكفل معيشة الجميع وينفق عليهم مسلمين ويهودا , وفي عهد الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز كان ترميم الكنائس في الشام من أموال الزكاة وصدقات المسلمين , ومعروف ان جمهور الفقهاء المسلمين أجازوا إعطاء الزكاة والصدقة لأهل الكتاب . وهذه الدولة لا تفرق في المناصب بين مسلم ومسيحي , وجميع الخلفاء كانوا يوظفون مواطنين غير مسلمين وخاصة السريان في بلاد الشام , كما اجاز القرآن للمسلم العمل في دولة غير مسلمة , وهذا هو أحد معانى سورة يوسف عليه السلام حين شغل منصب الوزير الاول مع ملوك مصر غير المؤمنين .
5 _ الدولة في الاسلام ونظامها ينبغي أن ينص على حرية جميع الناس في الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر واحترام عقائدهم وحفظ مؤسساتهم واموالهم , واعترف الاسلام بسماوية جميع الديانات وخاصة المسيحية واليهودية , ونهى بعض الفقهاء ذم اي دين كالبوذية , ونهى القرآن نهيا مشددا وكذلك الرسول عن الاساءة لاهل الكتاب المسيحيين واليهود وامتدح النصارى بشكل خاص واعتبرهم الاقرب والاكثر مودة للمسلمين , واجاز العمل والتعامل وتناول طعامهم , والزواج منهم , والصلاة في معابدهم , والتفاعل معهم باحترام تام , ونهى الرسول عن تكذيب روايات الاحبار ورجال الدين المسيحيين , كما نهى بإلاجماع إكراه احد على ترك دينه أو إجباره على اعتناق الاسلام .. وما إلى ذلك . والدولة التي تكفل بهذه الدقة حرية الاعتقاد الديني , لا بد انها تكفل حرية الاعتقاد السياسي , وفي الامور الاخرى كافة بطبيعة الحال .
6 _ الاسلام نفسه دين ليس فيه تنظيم هراركي كالتنظيم الكنسي , وليس فيه طبقة خاصة لرجال الدين , ولا يرتب لهم أي سلطة لا دينية ولا زمانية على المسلمين باستثناء الاحترام الطبيعي لهم كعلماء , بل يذهب علماء كثر إلى عدم جواز وجود رجال دين كفئة أو طبقة مميزة باللباس أو بالوظائف أو بالاسم . ومن هؤلاء د. محمد البهي ود . محمد أحمد خلف الله ود. سليم العوا من المعاصرين . والاسلام بحسب الغالبية الساحقة من الفقهاء والمذاهب هو علاقة اتصال مباشر ودائم بين المسلم وخالقه مما يجعله حرا في الاعتقاد ولا رقابة مطلقا على الضمير والاعتقاد . وهذه المسألة أحد ابرز مسائل التعارض بين المسلمين السنة والشيعة حيث أقام هؤلاء مؤسسة دينية تراتبية وجعلوا للشيوخ سلطة على أتباعهم وجعلوا لهم سلطة من خلال نظرية المرجعية وولاية الفقيه التي تطبقها إيران منذ (ثورة الخميني) , فالمرشد لا يحاسب ولا يسأل , وهو فوق القانون وطاعته واجبة دينا , ولا شيء من هذا في الاسلام الاصلي عند طائفة السنة التي تمثل الغالبية الساحقة .
7 _ الدولة في الاسلام ونظام حكمها لهما وظائف دينية لا يجوز التخلي عنها تجاه الدين والمجتمع . فكما أن الدولة الدينية لا وجود لها في الاسلام , فالدولة الالحادية , أو المعادية للدين لا وجود لها أيضا وحتما . ولا بد ان ترعى الدولة ونظامها عشرات الوظائف المنعلقة بالاديان كافة , كبناء وترميم وخدمة المساجد , وتلبية الحاجات الروحية للمجتمع كالتربية والتعليم , وتنظيم العلاقات بين الطوائف , وحماية الارث والاوقاف و تشريع القوانين الناظمة للاحوال الشخصية , أي الزواج والطلاق والارث والتركات …إلخ .
ثانيا _ بالنسبة للديمقراطية :من الناحية المقابلة لا بد أن نتعرض لمفهوم الديمقراطية وبعض خصائصه التي تمثل إشكالية بالنسبة للمسلمين المعاصرين . نقول إن الديمقراطية في صورتها التركيبية المعاصرة ومن الناحية الايديولوجية تنطوي على قيم ومفهومات لا تتناسب مع الاسلام تماما , ولا زالت تمثل عائقا جديا أمام انتشارها في أوساط المسلمين , وعلى سبيل الذكر لا الحصر نشير إلى ما يلي :
1 – العَلمانية : هي اللائكية بالفرنسية التي كانت أول من صاغها وطبقها المفكرون الفرنسيون أمثال مونتسكيو وروسو . وهي كمفهوم تعني فصل الدين عن الدولة وتحويله إلى حق شخصي أو أمر خاص للمواطنين . يرى معظم المفكرين المسلمين أن هذا المفهوم ناتج عن حكم الكنيسة الديني المطلق في أوروبا خاصة , وبعض دول ومناطق أخرى من العالم عامة , حيث ساد العسف والتشدد مع جميع الاطراف , إلى أن ضاقت الشعوب بهذا الحكم وثارت عليه , وكان أن صاغ الفلاسفة التنويريون مفهوم إزاحة الكنيسة عن عرش السلطة الزمانية وحصر مهمتها في الوظيفة الدينية فقط . وهذه السيرورة لا مثيل لها في العالم الاسلامي , إذ لم يكن هناك حكم ديني لرجال الدين , ولا مظالم وفظائع كالتي عرفها المسيحيون في تاريخهم , مثل محاكم التفتيش وقتل المجدفين والهراطقة و أصحاب العقائد المخالفين والآراء المتحررة , حيث كان بعض هؤلاء يحرقون بالنار , واستمر الامر على هذا النحو إلى أجل قريب . يرى المفكرون المسلمون أن دينهم لم يشهد هذا , ولذلك لا مبرر للعَلمانية, بدليل أن غالبية المسلمين لا تطالب بإزاحة الاسلام عن السياسة والحكم بل تدعو له مشتكية من عزله , فضلا عن أن طبيعة الاسلام كدين ودولة , وعقيدة وشريعة , وعبادات ومعاملات , لا يمكن إقصاؤه بالكامل من وظائف الدولة , ولا يمكن أن تقبل شعوبنا المسلمة فكرة أو نظاما , كهذين , والحل عندي وقد نشرته منذ 1979 في مجلة المستقبل العربي الرصينة هو بالتوصل إلى عَلمانية اسلامية , أو دولة مدنية لا دينية , كمقابل للعَلمانية الغربية أو المسيحية , وهي تعني حصر وظائف الدولة الدينية في أضيق نطاق . ثم طرحت تيارات وجماعات عديدة فكرة الدولة المدنية حلا أو بديلا عن العَلمانية وتبنتها جماعة الاخوان المسلمين وتطرحها في خطابها السياسي الحالي وبرامجها للحكم في المستقبل , ولكن ما زال يعوزها التاصيل والإيضاح العلميين .
2 – حقوق الانسان . لم يكن مفهوم حقوق الانسان كما تطرح اليوم جزءا من منظومة القيم الديمقراطية الرئيسية , وإنما هو مفهوم طارىء ومستحدث يعتبر من صور التطور في الفكر الديمقراطي والانساني والسياسي , وطرح للمرة الاولى عام 1976 كعنوان لبرنامج حكم الرئيس جيمي كارتر 1977 – 1981 , وكان مثار استهزاء في البداية . أما البيان العالمي لحقوق الانسان الذي ارتبط صدوره بنشوء الامم المتحدة كمؤسسة للنظام الدولي , وصار البيان بمثابة شرعة دولية , تعتبر واجبة الاحترام والالتزام . ثم اصبح التلازم بين حقوق الانسان والديمقراطية والحداثة ونظم الحكم المقبولة ثقافة عالمية راهنة , وسلوكا دوليا تجسد في منظمات ومؤسسات دولية بعضها مستقلة وبعضها تابعة للامم المتحدة تدافع عن انتهاكات حقوق الانسان وطنيا وعالميا. وبعد تبلور المفاهيم والقيم وتطورها السريع , صارت عنصرا هاما من عناصر الديمقراطية بل العنصر الاهم . وقد ساير المسلمون هذه التطورات فكريا وتشريعيا ومنظميا , وعقدت عشرات الندوات والمؤتمرات العلمية الرائدة , اشير فقط إلى المؤتمر الرائد الذي عقد في ليماسول عام 1983 بدعوة من مركز دراسات الوحدة العربية , وعرضت فيه عشرات البحوث الرصينة , أجرت في جانب منها دمجا وتأصيلا بين الاسلام وهذه الحقوق , ثم تمخض عنه تأسيس المنظمة العربية لحقوق الانسان , كأول وأقوى منظمة عربية في هذا المضمار , واعترفت بها الامم المتحدة رغم احتجاج كثير من الدول , ثم ظهرت محاولات تأصيل اسلامي علمية لهذه المفاهيم . وأنصح المهتمين بالعودة إلى كتاب [حقوق الانسان في الاسلام ] للدكتور الشيخ راشد الغنوشي , وهو كتاب ممتاز جدا على هذا الصعيد علميا , ويتمتع بميزة استثائية لأن مؤلفه زعيم للحركة الاسلامية التونسية التي تحكم الآن . وتمثل أفكار الكتاب المذكور رؤية فكرية وسياسية وتشريعية حاليا لحركة النهضة وتيار عريض من التيارات والحركات الاسلامية . ونضيف أيضا أن هذه الحركة جزء من حركة الاخوان , وبالتالي تؤشر الى اتساع افق هذه الحركة وتنوع اتجاهاتها بين مصر وتونس واليمن وسورية بحسب الظروف الاجتماعية المحلية لكل بلد . لكن الامر الذي لا بد أن نوضحه هنا ونتوقف عنده هو أن المسلمين لا فكريا ولا تشريعيا ولا الان ولا مستقبلا يمكن أن يقبلوا جميع مندرجات حقوق الانسان المطروحة في الغرب أو في بلدان غير اسلامية , ويمكن الاشارة بعجالة إلى أمور مستعصية , مثل تشريع الشذوذ الجنسي والقبول به كحق من حقوق الانسان , أو إطلاق حرية الزواج المدني , أو مسألة تبديل الدين , أو الاساءة للأديان في وسائل الاعلام , أو القبول بإعلان الكفر الصريح والدعوة له . ومعالجة هذه الاشكاليات تتطلب اجتهادات وإعمالًا للعقل وابتكار حلول , لكن يمكن القول على عجل إنه يمكن تبني حقوق الانسان بصفة عامة واستثناء بعض القضايا مراعاة للحساسيات الدينية , وهو أمر معمول به في دول عريقة ومهمة , كالهند والصين واليابان واليونان …و غيرها .
3 – إشكاليات العلاقة بين الطوائف والاديان : لا بد أن نعترف بأن بلادنا التي تضم منذ الأزل تعددا وتنوعا دينيا ومذهبيا فسيفسائيا في بعض الحالات يشكل واقعا لا ادعاء صورة حضارية مشرقة للتنوع والتعايش والتسامح والتفاعل الحي , وهو أمر لم تستطع مجتمعات اوروبية المحافظة عليه في تاريخها فقامت بتصفيته بالابادة الجماعية والترانسفير , وصولا للانصهار القومي . إن المجتمعات الشرقية ذات الغالبية المسلمة مدعوة الان وهي تتهيأ للتحول إلى مرحلة جديدة من تاريخها ونهضتها وحداثتها , وخاصة المسلمين منهم لمعالجة وحسم بعض القضايا فكريا ودينيا وتشريعيا , وخاصة مسألة هوية الدولة . ودين رئيس الدولة , ومسألة حق غير المسلمين في تبوء المناصب العليا , ومسألة مرجعية الاسلام في التشريع . وما إلى ذلك , ونشير هنا إلى أن هذه المسائل أصبحت ملحة , نتيجة تلاعب النظام الطائفي الديكتاتوري بالمسألة الطائفية والتمييز بين الطوائف وخلق حساسيات واحقاد قابلة للانفجار والتوارث إن لم تعالج جديا , ولا بد من العمل للمحافظة على جميع المكونات السورية وحمايتها ونشر ثقافة التسامح الاصيلة , وتجنيب سورية المزالق التي انساقت اليها دول اخرى وخاصة لبنان والعراق .
ثالثا نظريات وتجارب الحكم الاسلامي : لا يسمح سياق البحث بالتوسع في تقييم التجارب الرئيسية للحكم عبر خمسة عشر قرنا شهدت دورات صعود وهبوط , وانتقال واسع لمراكز الحكم في الدول الاسلامية الكبرى , ولذلك سنكتفي بإشارات مقتضبة يفرضها مسار البحث . بداية نشير إلى ثراء التراث الاسلامي بكتب مهمة جدا في هذا الميدان , وخاصة كتب التاريخ لابن خلدون والمسعودي والطبري و صولا إلى ابن قتيبة والماوردي . وفي الكتابات المعاصرة لا يختلف الامر فهذا الاختصاص يحتل ركنا رئيسيا من الدراسات التاريخية والجامعات ومراكز الابحاث وهناك مئات المتخصصين أمثال د. رضوان السيد وسعيد بن سعيد وخلدون النقيب واحمد موصللي ومحمد عمارة وعبد الاله بلقزيز … إلخ يمكن العودة لمؤلفاتهم وتحقيقاتهم الغنية .
لقد اسلفنا أن دولة المدينة التي اسسها وقادها الرسول منذ اليوم الاول للهجرة كانت نموذجا رائدا شرعيا وتشريعيا للتعددية والتسامح , أما دولة الخلفاء الراشدين فتميزت بالعدالة المثالية وترسيخ دعائم الدولة اللادينية ولكن في ظل السلطة الاسلامية المستقرة , ونزوعها أيضا لتأسيس مفهوم المواطنة والولاء للدولة والدين والانتماء الفكري بدل الولاء للقبيلة والانتماء لها , وتأسيس الدولة المؤسسية نظرا الى ان مجتمع الجزيرة العربية منذ ما قبل الاسلام كان مجتمعا فريدا ومثاليا , لا دولة فيه ولا مؤسسات تسلطية بل يدير شؤونه بطريقة تلقائية ويحتكم للاعراف والقيم الاخلاقية بدل التشريعات . وكان من إيجابيات الفتنة الكبرى انها مزقت البنى القبلية التي تمثل تحديا امام بناء الدولة والانتماء لمجتمع متعدد , والانقسام بناء على الاختيارات الفكرية والعقائدية لا على النسب والقبيلة والقربى . وكانت تجربة الخلافة نقلة عميقة جدا وتاريخية في تركيب المنطقة وطبيعة دورها العالمي , ثم كانت الدولة الأموية التي لم تعمر أكثر من قرن نقلة اخرى لتثبيت مرجعية الدولة على أساس القوة والسلطة لا على أساس الاختيار الديمقراطي , وفي حين مثلت نكسة حادة باختيار الوراثة والعصبية القبيلية والقومية معيارا للسلطة والحكم بدل الاختيار الديمقراطي , كانت نوعية بتثبيت دعائم الحكم الامبراطوري القائم على تقوية الدولة وتحديثها باستمرار من خلال استيعاب معطيات وتجارب الشعوب التي تفاعلوا معها من خلال الفتوحات والتوسع الهائل بين الهند وشبه القارة الايبيرية . أما الدولة العباسية فتميزت بالاستقرار والرقي والازدهار العظيم على كل المستويات والمجالات , ولم يكن ذلك متأتيا بدون نظام حكم رشيد يتسم بقدر معقول من العدالة والحرية الفكرية والمساواة بين مواطنين تتعدد قومياتهم ودياناتهم ومذاهبهم وقبائلهم , وهو ما نلمح تأثيره العميق في التمزق والانقسامات المتتالية في وحدة الدولة , فظهرت دول كثيرة وإمارات متنافسة , وبدأت الصراعات على السلطة والجاه والمال تزداد وتتعاظم وتفت في عضد الدولة وتنخرها الحروب , حتى انهارت اخيرا في القرن الخامس عشر , لكن الدول الاسلامية كلها تتسم بقدر مهم من التسامح الديني , بل كان التسامح مع غير المسلمين اكثر مما هو بين الطوائف والمذاهب الاسلامية . أما الدولة الاسلامية في الاندلس فعمرت ثمانية قرون وبلغت درجات عالية جدا من الازدهار الحضاري والعلمي والادبي , ونموذجا رائدا وفذا للتسامح الديني والتعايش بين الاديان الثلاثة , بل إن اليهود يعتبرون تلك التجربة أنصع فترات تاريخهم على الاطلاق , قبل أن يحرقوا بالنار ويطردوا مع المسلمين الى شمال أفريقيا وشرق اوروبا حيث كانت الدولة العثمانية قد ظهرت للوجود ورسخت أركانها على حساب الامبرطورية البيزنطية المتداعية بين ضغط المسلمين من الشرق وضغط الدولة الرومانية الكاثوليكية من الغرب , وانهيارها الداخلي بسبب الحكم الاستبدادي الديني الكنسي المطلق الذي كان يملك الارض وما عليها , ويدفع الفلاحين للثورات المستمرة .
السلطنة العثمانية كانت في عصرها تجربة مشرقة من الحكم الاسلامي , ومن الغبن والعسف النظر إلى تلك الأمبراطورية التي امتدت على ثلاث قارات وكانت أكبر دول العالم وأقواها لثلاثة قرون على الأقل من خلال الفترة الاخيرة في تاريخها والتي اتسمت شأنها كشأن أي دولة في مراحل ذبولها وتداعيها بالاستبداد والقمع والتمييز . لقد كانت الدولة العثمانية في مراحل عنفوانها دولة مثالية في التسامح الديني واتسمت بنيتها بالانفتاح على الشعوب الكثيرة التي كانت تحت سلطانها , وحمت الكثير من الطوائف والاقليات وأقامت نظاما للملل والنحل , يشهد له بالرقي والعدالة , وأذكر أن عالما من علماء التاريخ في الولايات المتحدة اسمه مالرو يرى أنه لولا العثمانيون لما تمكن المذهب البروتستانتي من الانتشار في قلب أوروبا , ويرى أن السلطنة كانت في عصرها الذهبي أقرب ما تكون للولايات المتحدة حاليا , من حيث التسامح والمساواة والرقي , ويقول اليهود شيئا قريبا من هذا أيضا . لكن لا يمكن وفي كل الاحوال إغفال جوانب عظيمة من تجربة السلطنة العثمانية التي استمرت نحو ستة قرون , وخاصة نظام الحكم الذي كان مفتوحا لوصول أي فرد من أبناء شعوبها لتبوء أعلى المناصب بلا أي تمييز إلا في كونه مسلما .
وبجانب التجربة العثمانية عرفت الهند ووسط آسيا تجارب حكم راقية جدا في القرون ما قبل الوسطى , يتعذر الاشارة لها بالتفصيل جميعا , ولكن شواهدها لا تزال حية , وخاصة تجربة الحكم المغولي في الهند .
************************
التفاعل الحي بين الديمقراطية والمسلمين في العصر الراهن :
بداية نقول إنه ما زالت هناك تيارات اسلامية ليست هينة الشأن ترفض الديمقراطية رفضا قاطعا , باعتبارها بضاعة غربية يحرمها الاسلام .حيث هذا دين ودولة وعقيدة وحياة , عبادة وشريعة , وهو أيضا مكتمل . وهو صالح لكل زمان ومكان , ولا يحتاج لأي شيء من خارجه . بينما الديمقراطية تقوم على فكرة السيادة للشعب , وهو مصدر التشريع , بينما يقوم الاسلام في نظرهم على أن الحاكمية لله , ولا يمكن إلا الحكم بالشريعة الاسلامية . من هذه الاتجاهات : التيارات السلفية التقليدية , الوهابية , الصوفية , الجهادية التكفيرية , وتمثله من الدول السعودية رسميا وتنظيم القاعدة وحركات اخرى كجماعة التبليغ العالمية , بل وكان الاخوان المسلمون في الماضي يتبنون هذه الرؤية ولا سيما في الستينات عندما اصطدموا بالنظام الناصري في مصر وكان سيد قطب هو من أطلق من داخل الاخوان حملة التكفير التي وصلت حد تكفير المجتمع بأسره , لا النظام فقط , وظهر مفكرون ودعاة على شاكلة قطب مثل سعيد حوى ومروان حديد في سورية , ثم قال الاخوان كجماعة انهم تراجعوا عن هذه الافكار بدءا من السبعينات , وتبنوا فكرة الديمقراطية , ولكن الشيخ العلامة يوسف القرضاوي ما زال يقول حرفيا : (لا نقبل دولة لا دين لها , لا بد ان تكون دولة اسلامية ولكن تدار بطريقة مدنية , وبواسطة ساسة مدنيين , لا بواسطة رجال الدين ) ومعروف ان القرضاوي يعد أهم مفكري هذه الحقبة وهو اخواني مجدد تكفره السلفية الوهابية . وهناك تيارات مشابهة ظهرت منذ قرن كامل في الهند من اهم رموزها العلامة الندوي والعلامة ابو الاعلى المودودي , ولعبت هذه التيارات دورا مؤثرا جدا في بلادها امتد الى بلادنا وهي تحرم تحريما متشددا الديمقراطية الغربية والاقتداء بالغرب الكافر . ومن القوى المهمة الرافضة جذريا للديمقراطية حزب التحرير الاسلامي الذي ينتشر في بلاد كثيرة عربية وغير عربية , ويتميز بدعوته لإحياء الخلافة الاسلامية كنظام جامع لكل المسلمين في العالم . ونضيف اليه ايضا ان جميع الحركات الجهادية العنفية التي ظهرت في مصر وسورية وليبيا وفلسطين والاردن والجزائر والمغرب وموريتانيا وبعض الدول الافريقية لاسيما الصومال ونيجيريا تنطلق من نفس المنطلقات التكفيرية , ومن اهم حركاتها حركة الجهاد الاسلامي الفلسطينية وحركة الجهاد المصرية التي اغتالت السادات وحاولت اغتيال حسني مبارك وقامت بعمليات مسلحة والجماعة الاسلامية السلفية التي ظهرت في مصر والجزائر ثم انصهرت في القاعدة إنما تلتقي في تبنيها لهذا الخط المتشدد الرافض للديمقراطية وتكفر المسلمين الذين يؤمنون بها ويتساهلون في قبولها كالاخوان والشيخ القرضاوي , ويقع على يمينهم جميعا حركة طالبان الافغانية الباكستانية وحركات مشابهة في الهند وخاصة اقليم كشمير المحتل , و اخرى في بنجلاديش , ثم امتدت إلى دول وسط اسيا التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي , بل امتدت لتركمانستان الشرقية التي تقع في الصين وبدأت تمارس الجهاد المسلح طلبا للاستقلال عن الصين . والملاحظة الجوهرية على معظم هذه الحركات وأسباب جنوحها نحو التطرف هو معاناتها من الطغيان إما السياسي على شاكلة ما عرفته المجتمعات العربية , وإما الطغيان من طرف غير مسلم كما هو حال المسلمين في شبه القارة الهندية والصين وافغانستان حيث يأتي التطرف الفكري ردا على التطرف في الظلم من طرف غير مسلم . ولكي لا ننسى فالنزعات التطرفية تزامنت وترافق نموها طرديا مع الصراع العربي – الاسرائيلي , ومرارة الهزائم العربية وجرائم اسرائيل وإذلالها لكرامة الشعوب العربية وعجز الانظمة عن التصدي لها . أما التيارات الوهابية في الجزيرة العربية فمنشؤها البنية القبلية البدوية في المجتمع المحلي حصرا وتخلف البنيات السياسية الحديثة وغياب النخب العصرية , لكن هذا الوضع التاريخي يشهد الآن تحولات جذرية مع تسرب الحداثة ونمو الطبقة الوسطى , وثورات المعرفة والعولمة التي مست رياحها تلك المنطقة .
بمقابل هذه التيارات والحركات الرافضة للديمقراطية وهي لا تمثل أكثر من 5% من مجموع المسلمين في العالم , هناك تيارات وحركات كثيرة وكبيرة تتقبل الديمقراطية ولا تعترض عليها بل تطالب بها وتمارسها , وبين هذه التيارات والحركات ما هو اسلامي الفكر والنهج بشكل كلي , ومنها ماهو اسلامي جزئيا , ولا بد أن نشير إلى أن جماعة الاخوان نفسها تقبلت الديمقراطية ومارستها كأي حزب ليبرالي في الاربعينات في مصر , وإبان الخمسينات في سورية حيث كانت الجماعة تشارك في الانتخابات النيابية وكانت دائمة الحضور في المجلس النيابي وكانت مساهمتها إيجابية في المحصلة العامة . والامر نفسه يقال عن احزاب مماثلة في عدد كبير من البلدان العربية والاسلامية كحزب الاستقلال المغربي , أو جبهة التحرير الجزائرية , او حركة الثعالبي التونسية , أو حزبي الامة والاتحادي الديمقراطي السودانيين , وحزب الاصلاح اليمني . وفي تركيا كان للحركة الاسلامية دور بارز ضمن اللعبة البرلمانية منذ اواسط الستينان وواجهت الاحزاب العَلمانية المتطرفة وقمع المؤسسة العسكرية بثبات وتحد وطورت حضورها الشعبي وفكرها ومدت جذورها بعمق في المجتمع التركي حتى تمكنت في العقد الأخير من التفوق على خصومها جميعًا وإمساكها بزمام السلطة في تركيا حاليا إمساكا قويا , الأمر الذي جعلها قادرة على تغيير هوية تركيا وتغيير مساراتها الاستراتيجية ايضا لصالح الخيارات الاسلامية . وفي باكستان تجربة برلمانية عريقة امتدت منذ ولادة الدولة عام 1948 رغم الانقلابات العسكرية التي قطعت تطورها عدة مرات , وقد تنافست في هذه التجربة احزاب اسلامية الايديولوجيا باعتبارها قرينة للوطنية , واحزاب ديمقراطية وليبرالية , وجميعها شاركت في اللعبة البرلمانية , الأحزاب الدينية الكبرى منها , والأحزاب الوطنية الليبرالية منها أيضا , وحتى هذه هي ذات توجه اسلامي كحزب الشعب , وقبله حزب محمد علي جناح مؤسس الدولة . ولم يقل احد من هذه الاحزاب إن الديمقراطية كفر أو حرام في العقود التي تلت الاستقلال مثلما كانت تفعل قبله , بل إن حزب الشعب قادته إمرأة هي السيدة بينظير بوتو ابنة الرئيس الراحل ذو الفقار علي بوتو . وفي بنجلاديش الدولة التوأم لباكستان والأكثر تشددا من الناحية الاسلامية على صعيد المجتمع , كانت ولادة الاستقلال بالانفصال عن باكستان عام 1971 من خلال العملية الانتخابية – الديمقراطية , وقد قاد الاستقلال حزب عوامي وهو حزب اسلامي ديمقراطي , وما زالت بنجلاديش تمثل ميزة مثيرة تنافس بها كل الدول الديمقراطية في العالم حيث نجد في هذا المجتمع الاسلامي المتشدد والمتخلف والفقير سيدتين تقودان الحزب الحاكم وائتلاف المعارضة منذ أكثر من ربع قرن , برهانا دامغا على أن الاسلام يتعايش مع الديمقراطية بانسجام , ولم تظهر معارضة دينية تذكر لوجود سيدتين تقودان الدولة والمعارضة في بلد يمتاز بأنه أكثر البلدان الاسلامية فيه رجال دين ويصدر أئمة المساجد للدول العربية , وأكثر بلد فيه حفاظ للقرآن الكريم في العالم كله , وفيه أكبر قاعدة لجماعة الدعوة والتبليغ السلفية الدعوية العالمية التي تضم ملايين الدعاة . وفي أفغانستان كانت أحزاب إسلامية ديمقراطية قبل الغزو السوفياتي عام 1979 , لكن رد الفعل على ذلك الاحتلال الغاشم أدى للجنوح للتطرف , والجموح نحو الارهاب الممتزج بالنضال المشروع ضد الغاصبين من كل لون , وظهور طالبان كان تعبيرا عن هذا الجنوح ليس إلا . وفي دول شرق آسيا ظهرت منذ أربعين أو خمسين سنة أحزاب ديمقراطية باهرة ذات ايديولوجيا اسلامية واضحة أيضا . ففي ماليزيا مثلا قاد الحزب الاسلامي تجربة من أكثر تجارب التنمية والتحديث الديمقراطية على المستوى العالمي إبهارا , إذ نجح في نقل ماليزيا من بلد متخلف وفقير إلى أن يصبح من أبرز نمور آسيا اقتصاديا خلال عشرين سنة فقط . وتجدر الاشارة إلى أن هذا الحزب الاسلامي يحكم بلدا يضم ثلاث مكونات قومية ودينية متساوية الحجم تقريبا , تتألف من الصينيين والهنود البوذيين فضلا عن أقلية مسيحية وأوروبية . والامر نفسه في أندونيسيا التي تعد أكبر دولة اسلامية في العالم سكانيا , حيث تمتاز بوجود عشرات التيارات والحركات والاحزاب الاسلامية يضم بعضها أكثر من عشرة ملايين عضو , وجميعها أحزاب تتبنى الديمقراطية وتطبقها , وفي الهند نفسها حيث لا زال يوجد نحو مائة مليون مسلم يشاركون في سياسة بلدهم بواسطة أحزاب ديمقراطية تشارك في الحكم بكفاءة وتنافس طبيعي مع بقية الاحزاب غير الاسلامية . وتعتقد جماعات كبرى منها أن تجربتها الديمقراطية تتفوق على تجربة باكستان . ونفس الأمر يقال عن دول وسط آسيا وآسيا الشرقية حيث برزت بعد استقلالها عن الاتحاد السوفياتي وروسيا تيارات اسلامية وتنظيمات سياسية اسلامية لا تختلف عما يمور به العالم الاسلامي من تفاعلات ومخاضات اجتماعية وثقافية وتاريخية وسياسية , تتراوح بين الاعتدال والتطرف , رغم حداثة عهدها وطول حرمانها السابق من التعبير عن هويتها الاسلامية لأكثر من قرن وتعرضها لمحو ذاكرتها وهويتها لوقت مديد .
ولا بد أن نشير في سياق الرسم البياني هنا إلى تجارب الاسلام السياسي في إيران حيث ظهرت منذ الستينات أحزاب اسلامية أو شبه اسلامية لكنها تعتمد الاساليب والوسائل الديمقراطية والليبرالية , وبعضها كان له امتداد اقليمي خارجي في العراق ولبنان والخليج واوروبا . وساهم بعضها بنصيب وافر في الثورة على نظام الشاه , ثم عاد للنضال ضد نظام الملالي الديني . ومهما كان موقفنا الايديولوجي او الطائفي او السياسي من هذا النظام الذي أوجدته الخمينية فإنه يتعين علينا الاعتراف له بأنه يمارس الحكم بوسائل شبه ديمقراطية , ويحافظ على تداول السلطة وهامش مقبول من حريات الرأي والمعارضة , ويتيح تنافسا وتفاعلا بين مجموعات وأجنحة وقوى مختلفة داخل النظام وعلى الساحة الإيرانية , ويشار إلى نجاح آخر هنا يتمثل في تأصيل نظريات اقتصادية اسلامية متصالحة ومقاومة لليبرالية الغربية لكنها تقوم على الحرية , ومن أهم الكتاب على هذا الصعيد العلامة السيد الصدر والعلامة تقي الدين المدرسي ولكليهما شهرة علمية واسعة.
وفي البلقان ظهرت منذ السبعينات أحزاب ذات مباديء وهوية اسلامية ولكنها في نفس الوقت ديمقراطية غربية تماما , خاصة في البوسنة والهرسك , وفي مقدمتها الحزب الاسلامي الذي أسسه في وقت مبكر المفكر الرائد والرئيس الراحل علي عزت بوغوفيتش , واعتقل بسببه مرات في العهد الشيوعي , ثم أصبح الحزب الأول الذي دافع بقوة عن استقلال بلاده عام 1992 , وأجرى اول انتخابات في البلاد ونقلها من الشيوعية للديمقراطية , وما زال هذا الحزب الرائد هو أحد أعرق وأقوى الاحزاب الاسلامية في البلقان . وهناك احزاب مثيلة في البانيا وكوسوفا , ومكدونيا وفي صربيا والجبل الاسود واليونان وبلغاريا , وجميع هذه الاحزاب أوروبية الهوية والمنشأ لكنها اسلامية الفكر , مع إيضاح أن الاسلام هنا هو الهوية القومية وليس الديانة وحسب . ولا شك عندنا أن هذه الاحزاب تثري التجارب السياسية الاسلامية على الصعيد العالمي , وتساهم في نقل العدوى الحميدة لغيرها من الاحزاب الاسلامية في اسيا وأفريقيا . وهي قريبة لأسباب تاريخية مفهومة من خط سير التطور التركي , لا العربي . ويدعم أو يعزز هذه الاحزاب الاسلامية الاوروبية بالكامل , نوع اخر من التيارات والاحزاب الاوروبية الاسلامية هي التي انشأتها المجتمعات الاسلامية التي تكونت وتجذرت في جميع الدول الاوروبية خلال الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم , فهي ضمن ما يسميه علماء الاجتماع الجيل الثاني والثالث من المهاجرين المسلمين لاوروبا اسست احزابا ومنظمات , وافرزت تيارات فكرية اسلامية تستوعب وتستلهم الحداثة الغربية بنسب متفاوتة لكنها جميعا تتبنى الديمقراطية التي عاشت في كنفها , وصار لها تأثير مباشر على الحركات والتيارات الاسلامية في البلاد الاصلية , خصوصا وان الديكتاتورية المسيطرة في العالم العربي _ الاسلامي تسببت بطرد وإقصاء شرائح هامة من النخب المعارضة التي انتقلت الى اوروبا منذ الستيتات وهضمت كثيرا من خصال وقيم الحياة الغربية بما فيها الليبرالية والديمقراطية , وهي تقتفي آثار خطى رواد النهضة الاسلامية ومفكريها الكبار منذ أواخر القرت التاسع عشر أمثال الافغاني وعبده ورضا , وقد لاحظنا تأثير هذه النخب قديمها وحديثها , في ثورات الربيع العربي كلها حيث كانت بغالبيتها تنشط من اوروبا واستطاعت الاسهام بقدر وافر في دعم وتوجيه الثورات العربية واختيار برامجها ومعالم الطريق امامها . وفي المحصلة إن ما يسمى الان بين الباحثين ( الاسلام الاوروبي ) يقود الثورات العربية , ويرسم لها استراتيجيات التحول نحو العصرنة , ويهديها سبيل الرشاد الديمقراطي .
هذه هي بإيجاز صورة التيارات والحركات الاسلامية السياسية بحسب معيار القرب والبعد عن الديمقراطية , نضيف إليها عشرات الاحزاب السياسية المنتشرة في جميع انحاء العالم الاسلامي , من موريتانيا إلى الصين , ليست اسلامية الفكر ولا البرامج ولا الايديولوجيا , ولكنها احزاب ليبرالية ووطنية وقومية وتحررية بل ويسارية , لكنها بصورة أو أخرى تشتمل على بعد اسلامي أو ذات وظائف إسلامية , وغالبيتها الساحقة تتبنى الديمقراطية بنسب وصيغ متعددة ومختلفة , مما يجعلها ضمن عوامل صناعة التحول التاريخي الديمقراطي في العالم الاسلامي .
وقد شهدت الاعوام الاخيرة ظاهرة تبلور تيارات ومنظمات اسلامية سياسية معتدلة تتبنى بالكامل وبصورة جلية الديمقراطية ومعظمها يحاول تحاشي الأخطاء والانحرافات التي شابت مسيرة الاخوان وجعلهم بعبعًا في نظر الانظمة المستبدة ودول الغرب الديمقراطية على حد سواء , وبعض هذه التيارات نشأ بحضانة الانظمة السابقة بهدف إضعاف الحركات الاسلامية المتشددة , ومنها مثلا حزب الوسط المصري والتيار الاسلامي الديمقراطي في سورية , ثم زادت ظاهرة هذه الاحزاب بوتائر أسرع واوفر بعد انطلاق ثورات الربيع العربي وسقوط قلاع الديكتاتورية التي سلطت أجهزتها الامنية العاتية ضد التيارات والقوى الاسلامية التقليدية كالاخوان والتحرير وما تفرع عنهما وبموازاتهما , وهي تحاول في المجمل منافسة المكانة التاريخية التي تحتكرها جماعة الاخوان وحزب التحرير الاسلامي من دون ان نلمس نتائج ذات قيمة تذكر حتى الساعة .
ويمكن القول في النهاية بثقة تامة إن التحول نحو خيار تبني الديمقراطية في العالم الاسلامي هو اتجاه تاريخي صاعد لا هابط , ومتوسع لا متقلص , برغم بعض الحالات هنا وهناك , بما فيها صعود بعض التيارات السلفية إلى رأس السلطة بفضل الربيع العربي وهي التي كانت تحرم الديمقراطية وتكفر من يؤمن بها ويعمل بها .
إن المحرك الأقوى الذي يخلق القوة الدافعة لهذا الاتجاه إنما يكمن في اختيارات الشعوب نفسها لا في نظريات الاحزاب وفي ضرورات الواقع لا في فتاوى الفقهاء , حيث يتم استيعاب معطيات الحداثة والعولمة والثورات التقنية المتسارعة من قبل الشعوب والنخب الشابة في كل بلد ومن كل مجال بصورة لا تحدها حدود ولا تمنع تدفقها موانع , لأننا ببساطة نعيش عصرا أصبح العالم فيه أشبه بالأواني المستطرقة , حيث لا بد أن يسير التطور بمنسوب واحد يشمل الجميع , وإلا يحكم على نفسه بالهلاك . ومن ناحية أخرى لا بد أن نشير وبنفس الثقة إلى أن طبيعة الاسلام المرنة واتساعه وقابليته الهائلة للتكيف مع مختلف التحولات التاريخية والعقلية الكبرى باعتبارها سننا الهية أولا وأخيرا , هي بحد ذاتها عامل رئيس من عوامل هذا التحول ‘ فالاسلام يقرر إن الحكمة ضالة المؤمن وأنَّى وجدها التقطها وهو أولى بها , والرسول يقول إن طلب العلم فريضة على كل مسلم , ويدعو للبحث عنها ولو في الصين , ما يعني أنه حث وحض على التعلم من تجارب الآخرين في كل مجال , وكان عباس محمود العقاد يقول إن الاسلام هو الدين الوحيد الذي يتميز بأنه جعل التفكير واتباع العقل فريضة مثلها كمثل العبادة لأن الغاية الاولى للانسان على الارض وفي الحياة هي إعمار الكون وإصلاحه .
ملاحظة: البحث كتب عام 2012 ولم ينشر