أنْ تكتبَ عن الراحل الأستاذ محمد خليفة، هذا يعني أنك ستكون كمن وجد نفسه في وسط بحر متلاطم متدافع الأمواج، وكل موجة تحملك لتسلمك إلى موجة أخرى، وأنت لا تعرف على أيٍّ منها ستستقر، ولا تملك – حيال ذلك – إلّا أن تبقى مستنفر الأحاسيس، متوقّد المشاعر، وليس بمقدورك الإمساك بزمام فكرك وناصية عقلك. والحق أنه من العسير على المرء أن يواجه حضور فقيدنا أبي خالد دون أن يستحضر تاريخاً صاخباً بالأحداث والملمّات، ولعل سيرورة ذلك التاريخ ما تزال معطياتها تنزف بغزراة، وهي تغمر واقعنا الراهن بكل تداعيات الماضي، بغثّه ونفيسه، لتجسّد حالة من الاشتباك الفكري والنفسي العنيف بين المرء وذاته بالدرجة الأولى، إنها بالفعل محنةٌ وامتحانٌ بآن معاً، بل أحد تجليات أزمة الكثير من المناضلين العروبيين الذين تبرعم وعيهم في حيّز طهراني من الفكر، ثم أزهر في حقول السياسة والثقافة والأدب، دون أن يفارق الأرض التي رضع من ضرعها، وكذلك دون أن ينأى بروحه وفكره عن قومه الذين حلم وفرح وتألم وبكى من أجلهم.
الراحل محمد خليفة هو واحد من الذين خاضوا غمار محنة الفكر القومي بمعظم تجلياتها، وذلك باعتباره قد واكب أهم المراحل التاريخية التي ولدت وازدهرت فيها فكرة العروبة، وكذلك بحكم انتمائه إلى الحركة الناصرية، أحد أهم تيارات الفكر القومي في مرحلة ازدهاره.
ثلاثة أسباب جعلت من التيار القومي العروبي مظلة لحركة النضال الوطني في أواخر الأربعينيات وحتى نكسة حزيران عام 1967، كونها أولاً تزامنت من حيث النشوء والتبلور مع نضالات معظم الأقطار العربية من أجل الاستقلال، وبهذا كانت مظلة لمعظم حركات التحرر آنذاك، ولكونها ثانياً قد واكبت احتلال الصهاينة لفلسطين،إذ أصبح النضال من أجل تحرير فلسطين أحد الركائز الأساسية في برامج التيارات القومية برمتها، أمّا السبب الثالث فيكمن في فشل التيار الإصلاحي النهضوي الذي بات يلفظ أنفاسه في عشرينيات القرن الماضي، فنشأ على أنقاضه تياران، الإسلاميون والقوميون، وذلك ضمن مسار أكثر راديكالية، نظراً للأحداث الصاخبة آنذاك، ثم جسّد مجيء الراحل جمال عبد الناصر كرئيس لجمهورية مصر، ثم رئيساً لدولة الوحدة 1958، علامة دالة في سيرورة النضال القومي، إذ استطاع أن يحظى الجانب الكارزماتي من شخصيته بإجماع كبير من العرب على الالتفاف حوله كمجّسد لآمالهم في التحرير والبناء. إلّا أن محنة الانحدار قد بدأت معالمها بالظهور بعد حرب حزيران 1967، وبات واضحاً آنذاك أن جحافل العسكر باتت هي المسيطرة على مقاليد الأمور، في موازاة انزياح وتراجع الفكر العروبي، وانكفاء معظم أعلامه ومناضليه تحت ضغط و سطوة العسكر وعسسهم من المخابرات وضباط الجيش، وبدأت تتنامى محنة رجال الفكر العروبيين، بل يمكن القول: إنهم باتوا يواجهون محنةً مركّبة، الأنظمة الأمنية القمعية من جهة، وعدوّهم التقليدي المتمثل بالاستعمار الخارجي من جهة أخرى، ومنذ ذاك الحين بدأت تغريبة عسيرة ومضنية، كان الراحل محمد خليفة أحد روّادها، فها هو السوري العروبي ابن مدينة حلب، الذي نشأ وترعرع ليس على حب بلده سورية فحسب، بل على حب وطنه العربي الكبير، لا يجد له موطىء قدم آمن في أي بلد عربي، إذ كلما قصد مدينة في قطر عربي، سرعان ما تطارده عيون العسكر ومخابراتهم، وتبدأ بالتضييق عليه من كافة الجوانب، فيضطر للرحيل إلى بلد آخر، ومن ثمّ يعاني المأساة ذاتها، إلى أن استقرّ فيه الحال خارج وطنه العربي الكبير، حيث أمضى الشطر الأخير والأطول من حياته النضالية ( 30 عام) في السويد، أليست مفارقة موجعة أن يُطردَ المرء من بلاده بسبب حبّه لتلك البلاد؟!
أمّا الشطر الثاني للمحنة فيتجلّى في المسارات التي وسمتْ الفكر القومي، ومن ثم المآلات الراهنة التي انتهى إليها، إذ ثمّة ما يؤكّد أن الإيديولوجيا القومية بكامل تفرعاتها قد بدأت بحالة من الشيخوخة منذ فترة حزيران 1967، إذ أثبتت حرب الأيام الست آنذاك، أن ما يحتاجه العرب ليس السلاح والمال والتكنلوجيا فحسب، بل بحاجة ماسة أكثر إلى تجديد يطال البنى الفكرية السائدة، وكذلك بحاجة إلى وعي جديد قادر على استيعاب الهزيمة، ومن ثم العمل على تجاوز أسبابها، وحيال تلك الأزمة، بات العمل على تجديد الفكر القومي من خلال المراجعات النقدية العميقة وكذلك من خلال استلهام قيم الحداثة كالديمقراطية والحريات بشتى أشكالها وقيم المواطنة ..إلخ، أمراً توجبه الضرورة وتقتضيه الحياة، إلّا أن هذا الواجب الفكري والثقافي الذي تماهى معه الكثير من المناضلين العروبيين، سرعان ما اصطدم مرة أخرى مع صلف الأنظمة القائمة التي ازدادت جوراً واستبداداً، بل حوّلت بلدانها إلى مزارع خاصة بها، ونظرت إلى مواطنيها كعبيد تسوسهم بالسياط، ولم تر غير الرعب والخوف والبطش كوسائل لإسكات الناس وجعْلهم خانعين، الأمر الذي جعل من جهود المفكرين والمثقفين القوميين عملاً نافلاً، تحفظه الكتب، ويتم تداوله في الندوات والصحف والمجلات، إلا أنه في جميع الحالات يبقى بعيداً عن التأثير في سلوك الأنظمة والسلطات.
الراحل الأستاذ محمد خليفة كان واحداً من المثقفين العروبيين الذين هجسوا منذ وقت مبكر بضرورة إعادة الحياة إلى الفكر القومي، كما كان من الذين يؤمنون بأن الفكر عامة، يجب أن يكون محايثاً لسيرورة الحياة ومنبثقاً عنها، وفي هذا السياق سأتيح لنفسي الإدلاء بشهادة أكون مسؤولاً عنها أمام الله، وأُفصح عن فحوى العديد من الأحاديث التي جرت بيننا خلال العام 2020 ، والتي كانت تتمحور بمجملها عن السبل المتاحة للبدء بمشروع منظّم يهدف إلى سبر فكري لأهم معالم الفكر العروبي منذ تبلوره في فترة الأربعينيات وحتى ثورات الربيع العربي، ومن ثم البحث في الآليات والسبل التي نستطيع من خلالها إجراء مراجعات نقدية عميقة، بغية إعادة إنتاج منظومة فكرية عروبية تنبثق من سياقات إجتماعية وسياسية راهنة، بل ربما كانت ثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجه الخصوص، إيذاناً واضحاً بضرورة هذا التجديد المنشود.
ما كان يؤكّده الراحل محمد خليفة على الدوام، هو أن مجمل الشروخات التي أصابت منظومة الفكر القومي، كما أصابت مجمل الإيديولوجيات التقليدية، ليس مبعثها أنظمة الحكم الفاسدة فحسب، بل يجب البحث عن الخلل داخل المنظومات الفكرية أيضاً، ذلك أن فكرة العروبة التي نشأت في عشرينيات القرن الماضي، وتبلورت كبناء فكري في عقدي الأربعينيات والخمسينيات، فقد كانت مشروطةً آنذاك بظرفها التاريخي وسياقها الاجتماعي، وليس من المعقول تجاهل عقود طويلة من الزمن تغيّر فيها الكثير، وبناء عليه، لا بدّ من إعادة النظر بجرأة وشجاعة إلى مجمل الإرث الفكري والثقافي الذي أنتجته تلك المرحلة، بغية البناء على ما هو صالح وقادر على الديمومة، وطرح ما هو مجاف للواقع والحياة بمعطياتها العصرية الجديدة. ولكن الراحل الأستاذ محمد خليفة كان دائم التأكيد على أن هكذا مشروع لا يمكن أن يتقوّم على مجرد الرغبات، أو حتى على الجهود العملية الفردية، بل لا بدّ أن تقف وراءه وتدعمه مراكز دراسات ومؤسسات علمية وبحثية، وهذا ما هو في طي الغياب حتى الوقت الراهن.
إن الانبثاقات الثقافية والفكرية الهائلة التي أُتيح لها الظهور بفضل الثورة السورية العظيمة، كان لها عظيم الأثر في دفع الكثير من أصحاب الأفكار والمباديء إلى عملية مراجعات جدّية في ضوء ما أفرزته الثورة، ولا يمكن – في هذا السياق – تجاهل انحياز العديد من القوى التي ما تزال تلتحف بفكرة العروبة، إلى جانب نظام الإجرام الأسدي، متجاهلةً أو مبرِّرةً جميع جرائمه بحق السوريين تحت ذريعة معزوفة خادعة سُمّيت زوراً وبهتاناً ب ( المقاومة أو الممانعة)، علماً أن نظام الأسد وحلفاءه (الممانعين القومجيين) ما يزالون مثابرين على استثمار فكرة العروبة والقضايا القومية كغطاء لجميع تاريخهم وراهنهم الإجرامي، أليس من الواجب على الطرف العروبي الآخر إنقاذ فكرة العروبة من براثن الطغاة والمجرمين، هذا ما كان أحد شواغل الفقيد محمد خليفة، وهذا أيضاً وجه من وجوه المحنة التي عايشها.