الهدف من أية انتخابات هو حدوث تداول سلمي للسلطة، وهذا يعني أن ثمّة مأسسة للنظام السياسي قد حصلت قبيل الانتقال إلى إجراء الانتخابات، فلا يُعقل أن تحدُث الانتخابات في ظل نظام استبدادي، لأنها ستفقد الغاية منها، وتتحوّل إلى نوع من شرعنة الاستبداد.
أهمية مأسسة النظام السياسي قبل الانتخابات تكمن في أنها تنزع عملية احتكار العنف من أي مرشّح، بحيث يصبح العنف حكراً على الدولة التي تكون في موقفٍ محايدٍ من المنافسة الانتخابية. ولهذا السبب، أكّدت الأمم المتحدة وورقة مبعوثها السابق إلى سورية، دي ميستورا، ذات الـ 12 بنداً، أهمية البيئة المحايدة قبيل الانتقال إلى إجراء الانتخابات، فمن دون هذه البيئة، ومن دون أن يمتلك أحد المرشّحين العنف، لا معنى للانتخابات.
يدرك النظام السوري هذا جيداً. ومع ذلك ليس في مقدوره عدم إجراء الانتخابات، تشريعية ورئاسية، لأنه إن لم يفعل، فإنه يعترف عملياً بأن حكمه استبدادي لا شرعي، ويعترف أيضاً بشرعية العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة، مساراً وحيداً وقانونياً للحل السياسي في سورية. بالنسبة للنظام، ليس هدف إجراء الانتخابات تداول السلطة بشكل سلمي (هذا مرتبط بالدول الديمقراطية التي تجاوزت مسألة تحديد طبيعة النظام السياسي وبنيته)، وإنما مرتبط بإنتاج شرعية مفقودة له. ومن هنا كان إصراره دائماً على إجراء الانتخابات في موعدها.
وأحد مفارقات السياسة أن النظام السوري والأمم المتحدة يلتقيان في النظر إلى الانتخابات الرئاسية التي جرت أخيراً، من حيث إنها ليست جزءاً من العملية السياسية التي ينصّ عليها قرار مجلس الأمن 2254 حسب تصريح المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، غير بيدرسون.
بمعنى أن الأمم المتحدة تعتبر الانتخابات الرئاسية غير شرعية، لأنها عمل فردي خارج سياق العملية السياسية الأممية، المناط بها الوصول إلى حكم سياسي جديد ورشيد على أساس ديمقراطي. وفي عملية الفصل هذه، يلتقي النظام والأمم المتحدة، وإن كانت الغايات مختلفة.
لا يهتم النظام السوري بمسألة إضفاء الشرعية الدولية على العملية الانتخابية التي يُجريها، فهذه مسألةٌ غير مهمة، وتخضع لاعتبارات المصالح الدولية البراغماتية. ويمكن أن تتغيّر في المستقبل مع تغيّر المعطيات الإقليمية والدولية، ما يريده الآن هو تكريس عملية سياسية موازية للعملية الأممية، وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية هو أساس هذه العملية، بغض النظر إن كانت العملية ديمقراطية أم لا، فرؤية النظام إلى الديمقراطية تختلف جذرياً عن رؤية المجتمع الدولي.
ما يهم النظام على مستوى السياسة الدولية هو القبول وليس الاعتراف، أي القبول بالأمر الواقع. وهو يعوّل على المتغيرات التي حصلت في البيئات، المحلية والإقليمية والدولية، منذ انتخابات الرئاسة السابقة عام 2014، لجهة التراجع الحاصل في المواقف الدولية بشأن طبيعة الحل السياسي والموقف من الأسد ذاته، فبعد أن كان الحديث عن هيئة حكمٍ انتقاليةٍ ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، انتقل الحديث عن حكم شامل وغير طائفي، مع ما في هذه العبارة من غموض. وبعد أن كان الحديث عن تقاسم السلطة وفق سلة الحكم، انتقل التركيز على الإصلاحات الدستورية، وبعد أن كان الأسد خارج المُفكّر فيه دولياً في أية عمليةٍ سياسيةٍ، أصبح الأسد منذ عام 2016 جزءاً من العملية السياسية، وإن احتفظ المجتمع الدولي بعبارة أن الأسد لن يكون جزءاً من مستقبل سورية، مع ما في هذه العبارة أيضاً من غموضٍ سياسي.
أيضاً، من وجهة نظر النظام، فإن تكريس العملية السياسية من طرف واحد يبعث رسائل للسوريين تحت سيطرته بأن الأمور عادت إلى طبيعتها، كما كان الأمر قبل عام 2011، وأن أية محاولة للتشكيك في شرعيته سيردّ عليها بعنف شديد، وهكذا تتحوّل غطرسة القوة إلى شرعية قانونية.
وهذا ما يحاول النظام تحقيقه على المستوى الإقليمي، وربما الدولي، فهو يتوقع أن تتجه بعض الدول إلى الانفتاح عليه، بعيد الانتخابات التي أعطاها أولوية كبيرة جداً، لجهة الإخراج الفني لها، خصوصاً أنه لم تصدر مواقف عربية أو من جامعة الدول العربية تندّد بالانتخابات، فضلاً عن سماح دولٍ بإجراء الانتخابات في أراضيها، سيما فرنسا التي ما يزال خطابها السياسي رافضاً العملية الانتخابية التي يجريها النظام السوري. غير أن ما يلفت الانتباه في أثناء “الانتخابات” وقبلها هو درجة العهر السياسي لجهة الاستهتار بعقول ملايين السوريين وملايين العرب والمجتمع الدولي ومشاعرهم: وزير خارجية النظام يشكّك في الديمقراطية الأميركية، ويعتبر أن لسورية ديمقراطية أعرق من الديمقراطية الأميركية، والأسد يعتبر قيمة المواقف الغربية من “الانتخابات” تساوي الصفر.
ومع أن هذا التصريح يعبّر عن ثقة وقوة زائفتين، إلا أنه يجانب الصواب، بسبب تراخي المجتمع الدولي تجاه النظام، ومنحه القوة الكافية لاستعادة زمام الأمور.
المصدر: العربي الجديد