نعم “إن التاريخ (بحسب ماركس) ليعيد نفسه مرتين واحدة كمأساة والثانية كملهاة”، ونحن اليوم في الملهاة التي يمثلها ابن حافظ الأسد وسلطته التي ورثها عن أبيه.. ولكن ما الذي حدث في المرة الأولى/المأساة بُعيد هزيمة حزيران عام 1967 وفي أول اجتماع لقيادة حزب البعث الذي دعا إليه، آنئذ، رئيس الدولة السورية والأمين العام لحزب البعث “نور الدين الأتاسي” بعد تلك الهزيمة القاتلة التي يتحمل مسؤوليتها المباشرة حافظ الأسد كونه وزير الدفاع آنذاك؟ وقد جاء إلى ذلك الاجتماع الذي انعقد بعد يومين فقط من وقوع الهزيمة يطلب أن تمنحه القيادة السياسية الثقة حتى يستطيع استمرار تحمل المسؤولية، لكنَّ الرد المنطقي جاءه من “صلاح جديد” اقتراحاً بعزله، ورئيس الأركان وضباط آخرين ممن تشملهم مسؤولية الهزيمة.. لكن الأمور سارت في غير اتجاهها الطبيعي.. والحقيقة كان هناك شبه انهيار في القيادة وردود فعل عفوية. إذ ذهبت بعض الآراء إلى العمل من أجل جبهة وطنية تتشارك فيها القوى السياسية الموجودة قيادة الدولة، وثمة من ذهب إلى أبعد من ذلك، فرأى أن تستقيل القيادة بكاملها.! يشير الدكتور “حبيب حداد” عضو القيادة القطرية لحزب البعث، في مذكراته “النهضة المعاقة” إلى ما جرى في قيادة الحزب والدولة في ذلك الاجتماع الذي ناقش حال ما بعد الهزيمة بقوله:
“.. وتحضرني الآن واقعة كان لها أكبر التأثير في التطورات اللاحقة التي شهدتها سوريا وهي أنه أثناء جلسة القيادة المخصصة لمناقشة التقرير العسكري الذي أعدَّه وزير الدفاع ورئيس الأركان أنهما اقترحا في بداية الاجتماع تصويت القيادة على تجديد الثقة بهما حتى يستطيعا استمرار تحمُّل المسؤولية.. وكان الأمر مفاجئا لمعظم أعضاء القيادة! إذ ساد صمت لبرهة. ثم طلب الكلام الرفيق “صلاح جديد” معقباً على هذا الاقتراح بقوله: “من وجهة نظري أيها الرفاق إننا نحن جميعا قيادة الحزب من مدنيين وعسكريين نتحمل نتائج هذه الحرب، ومع تأكيدي هذه القناعة، فإنني أقترح قبول استقالة الرفيقين، (حافظ الأسد وأحمد سويدان) وتعيين قيادة جديدة للجيش، والقوات المسلحة، فهذا هو الأمر الطبيعي الذي تواجهه كل شعوب العالم، بعد أن تنتهي الحروب الطاحنة التي تخوضها ضد أعدائها. ففي حال انتصار هذه الجيوش لا بد أن تتغير قياداتها لأنها بعد ذلك تصبح أسيرة لشعور طاغ، فترى نفسها أكبر وأهم من قياداتها السياسية، فتتجاوز في سلوكها صلاحياتها المحددة، وترى في نفسها البديل لتلك القيادات. أما في حالة الهزيمة كما هو وضعنا الحالي، فينبغي أيضاً تغيير القيادة العسكرية لأن استمرارها في موقعها لا يساعد على استعادة الروح المعنوية المطلوبة في صفوف القوات المسلحة..” وتابع: “ما أقصده من هذا الاقتراح، تجنيب القيادة العسكرية أية محاسبة لاحقة”. ويحلل الدكتور حداد أسباب فشل الاقتراح بأنه “جاء عفوياً ومفاجئاً، ودون أي تحضير أو تفكير مسبق، وكان المفترض أن يحظى بموافقة جماعية من القيادة، لكنه لم ينجح، إذ فشل بفارق صوت واحد، فقد غلب على عملية التصويت جو من المجاملة قصيرة النظر، وكانت تلك كما أثبتت التطورات اللاحقة خطيئة القيادة الفادحة التي لا تغتفر”. ص62
اليوم وبعد أربعة وخمسين عاماً تبدو الأمور، وكأن التاريخ يعيد نفسه فعلاً، فإذا كانت قيادة الاتحاد السوفييتي قد أقنعت السوريين والمصريين بعد هزيمة حزيران عام 1967 بأن هدف إسرائيل لم يكن احتلال الأراضي، بل هو إسقاط النظامين الوطنيين التقدميين في كل من سوريا ومصر، وقد عجزت إسرائيل عن ذلك! فإنهم اليوم أنفسهم، أي (الروس وريثي السوفييت) أمام سقوط وطن بكامله ساهموا بكل ثقلهم في إسقاطه على غير صعيد.. اليوم إذ تنتهي مهزلة الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أجواء أكثر بؤساً وتعاسة! ولم يستطع مخرجو النظام وفنانوه تجميلها رغم إضافة كثير من عناصر التطوير والتحديث التي طاولت بعض حِكَمِ المنافقين، ومنها قول بعضهم:
“إن حكم سوريا قليل عليك يا سيادة الرئيس، وحقك أن تحكم العالم” ليأتي بعد عقد من الزمن رجل دين وينطق بحكمة أكثر بلاغة: “إذا كان لكل قوم نبي فإن بشار الأسد نبي الأنبياء كلهم”، ثم يأتي من هو أفصح من رجل الدين فيعيد صياغة الحكمة أو الحِكَم ارتقاء به، وتوضيحاً فيغدو المحتوى: “بشار الأسد هو الله”، كما طاول التحديث عدد المرشحين ليصبحوا واحداً وخمسين (عميلاً للأجهزة الأمنية) تساقطوا بين عشية وضحاها، ولم يتبق منهم سوى اثنين اقتصرت دعايتهما الانتخابية على إعلانين يتيمين يتكرران على الفضائية السورية، دونما برامج عمل ولا مناظرات ولا أحاديث عن أية نأمة من ألم، أو هاجس من هواجس الشعب السوري الذي يعاني المكانة التي وضعه فيها “السيد الرئيس” وهي الدرجة الأخيرة بين دول العالم، صحة، وتعليماً، وخدمات أخرى مختلفة.. وهي الأولى فقراً وبطالة وخراباً للبنية التحتية، وفساداً وانعدام أمن وبالتالي لهاثاً وراء الهجرة تحت طائلة الموت..
إنها المسرحية التي يعاني أوجاعها الشعب السوري.. فالمسألة لا تتعلق بهزيمة عسكرية مستمرة منذ عام 1967 ولا بجزء سوري لا يزال محتلاً، بل بوطن صيَّره الاستبداد أنقاضاً، ويزيده الاحتلال الأجنبي بؤساً وشقاء..
يقدر عدد المواقع العسكرية الأجنبية في سوريا (بحسب دراسة لمركز حرمون) 477 موقعاً منها 330 موقعاً للروس والإيرانيين موزعة على ثلثي الأراضي السورية المسماة تحت سيطرة النظام و147 موقعاً تحت النفوذ التركي، وقوات التحالف الدولي، ومن ضمنها “قسد”. ويشير تقرير للبنك الدولي لعام 2017 إلى أنَّ (316.649) وحدة سكنية مدمرة في عشر مدن سوريا، حصة مدينة حلب منها ما نسبته 64% وتليها حمص بنسبة 16%..
أما إذا أتينا إلى التعليم فالمشكلة أكثر بؤساً وتعقيداً وتكفي الإشارة إلى أن 53% من المنشآت التعليمية قد نالها الدمار جزئياً أو كلياً وأنَّ ستة مناهج متباينة تُدرّس على الأرض السورية، منها مناهج “قسد” و”جبهة النصرة” وحرمان أكثر من مليوني طفل من نعمة التعليم.. ومثل ذلك الخراب طاول القطاع الصحي، بل إن هذا الوضع يمكن تعميمه على بقية مفردات البنية التحتية كلها، ناهيكم بحجم الخسائر البشرية التي تعد من أعظم ما تفتقدها المجتمعات التي تطمح إلى النموِّ والرفعة.. فإذا تجاوزنا أعداد الضحايا التي قاربت ستمئة ألف فقيد، بينما تجاوز عدد المصابين المليونين ما بين إعاقات دائمة، وإصابات يمكن التعايش معها. يضاف إلى ذلك الهجرة القسرية التي طاولت عشرات الآلاف من المؤهلين في حقول الطب والهندسة والعلوم المختلفة إضافة إلى جميع المبدعين في مجال الفكر والفن والأدب والثقافة العامة! ناهيكم برجال الأعمال الذين كانوا يبنون وفق إمكانياتهم وقدراتهم ورؤوس أموالهم، إضافة إلى ما خسرته من مدخرات البنك المركزي المقدرة بـ 18 مليار دولار أنفقت جميعها على خراب سوريا واستدان النظام فوقها عشرات مليارات الدولارات وفق تأمينات تجعل سوريا رهينة الأجنبي.. بينما تقدر كلفة إعادة الإعمار بنحو 400 إلى 500 مليار دولار..
المسألة السورية اليوم أكبر بكثير من مهزلة الانتخابات التي لن تأتي بإعادة توحيد سوريا ولا بإعادة إعمارها، ولا بحل يجمع عليه السوريون كافة.. بل إنها تكريس لما هو قائم، وقد تمنح النظام دويلة بقدر حجمه وطموحه، لكن ذلك المستحيل بعينه، فقد جربته فرنسا وفشلت، بل أفشله الشعب السوري الذي جاء بالاستقلال، وصادره حزب البعث بانقلاباته العسكرية، وقد آن الأوان لأن تسدل الستارة على أسوأ مرحلة عاشتها سوريا في تاريخها الحديث.. ولن يكون ذلك إلا بحل سياسي يجمع عليه الشعب السوري داخلاً وخارجاً، وهو موجود فعلاً ويمثله القرار 2254 لكنه بحاجة إلى إرادة دولية حازمة تحترم قراراتها، وقد يكون الطريق إليه مؤتمر سوري جامع يأتي بهيئة سياسية انتقالية تعمل على تصفية تلك التركة وتلبي طموحات الشعب السوري بوطن حر وحياة كريمة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا