كان لإعلان السوريين مقاطعة الأمم المتحدة، خريف عام 2016، وقع الصاعقة في أرجاء المنظمة الدولية، حيث لم يسبق في تاريخ المنظمة منذ تأسيسها أن تمت مقاطعتها، وبالأخص من قبل 72 منظمة مدنية بالتوقيت نفسه، نتيجة ضعف الأداء الأممي وأثره السلبي على المواطن السوري.
من المناسب اليوم العودة لتقييم بعض أحداث تلك الفترة بعد مرور خمس سنوات خصوصاً مع التدهور الحالي وصعوبة الوضع المعاشي للمواطن السوري.
ساعد صدور القانون الأممي 2165 لعام 2014 على إنشاء آلية العمل الإنساني عبر الحدود السورية وشدد على ضرورة دعم وحماية الفرق الإغاثية الشريكة للأمم المتحدة. صوت مجلس الأمن بالإجماع لصالح هذا القانون بعد فشل القانون السابق 2139 الصادر قبل بضعة أشهر، والذي دعا لرفع الحصار وإزالة معوقات العمل الإغاثي، خصوصاً في ضوء أحداث حصار مناطق حمص القديمة.
سبق تبني هذا القرار العديد من الأزمات مثل انتشار فيروس شلل الأطفال في سوريا بسبب منع اللقاحات عن مناطق المعارضة.
وثق الباحثون حينذاك تباطؤ استجابة المنظمات الدولية وغياب آليات العمل لمساعدة الأطفال المصابين، فالمنظمات الأممية مخولة بالتنسيق فقط مع النظام حسب القوانين الدولية حينذاك، وهي الجهة نفسها التي فرضت الحصار كما أشار القانون الأممي لاحقاً.
تبع هذا القرار الأممي تبلور آلية “كل سوريا” لتنسيق العمل الإغاثي. كان حجم الدعم الأممي – وما يزال – يزيد عن المليار ونصف المليار دولار سنوياً، يُوزع أكثر من ٧٠٪ منها لمكتب دمشق، تعادل هذه الميزانية نحو 10-15٪ من موازنة سوريا عام 2010.
لم يمض كثير من الوقت حتى بدا واضحاً ضعف إدارة الموارد وتجاهل الأعراف الدولية. فسوريا قد تكون أحد الحروب القليلة عبر التاريخ الحديث التي لم يتم فيها وضع آليات لإخلاء المرضى المدنيين على سبيل المثال، ففي شتاء عام 2015 كان سكان مضايا يموتون جوعا أمام أعين المنظمة الدولية. وبعد ضغوط دولية كبيرة، أرسل مكتب دمشق مواد غذائية أممية منتهية الصلاحية مما أفقد ثقة السوريين بالأمم المتحدة.
وفي صيف 2016، كان الحصار قد أطبق على حلب الشرقية واشتد حصار الغوطة. كان مئات المرضى المصابين بالحالات الطبية المستعصية كالسرطان والفشل الكلوي والأطفال بحاجة للإخلاء الطبي بسبب شح المواد الطبية في المناطق المحاصرة.
دعت المنظمات الطبية لوضع آليات لدعم العمل الطبي المدني في المناطق المحاصرة ولإخلاء المرضى الراغبين حسب آليات متوافقة مع القوانين الدولية بحيث لا تكون آليات الإخلاء مبهمة كالتي طرحتها روسيا ولا تسفر أيضاً عن اعتقال وتهجير المرضى أو تسييس احتياجاتهم، كما دعونا لتطوير الاستجابة الدولية بناء على حاجة المواطنين وليس بناء على قوالب أممية جامدة بعيدة عن الواقع أو بناء على معلومات مغلوطة تقدم من مكتب دمشق.
لتبسيط شرح الآلية الدولية، فهناك منصات تتشارك فيها الفرق الوطنية المختصة مع المنظمات الدولية كاليونسيف ومنظمة الصحة العالمية لدراسة وتنسيق معظم الاستجابة الإنسانية. تضع هذه المنصات تقييمها وأولوياتها السنوية لمناطق عملها. يجمع فريق الأمم المتحدة هذه المعلومات من مختلف المناطق ولكنه بدل تنسيقها فإنه يعيد صياغة الخطط والأولويات حسب رؤيته بعد التفاوض مع الوزارات في دمشق بغض النظر عن آراء الفرق المختصة والقريبة من الأرض.
في خطة عمل 2016 تم تغيير 71 مقترحا من مسودة التقرير النهائي نتيجة ضغط الوزارات السورية فصدر التقرير النهائي بعيداً عن حاجات المواطنين والموارد المتوفرة. زاد على ذلك ضعف الرقابة على التعاقدات المالية والتوزيع العادل للموارد.
بعد مداولات عديدة اتخذنا قرارنا بمقاطعة التنسيق مع الفريق الأممي. وضع الخبراء ورقة عمل مفصلة عن التغييرات المطلوبة لزيادة الشفافية والوصول للمواطنين بناء على احتياجاتها وأولوياتهم. ضجت أروقة الأمم المتحدة بهذا الموقف وتطايرت الاتهامات في كل الاتجاهات.
حاولت بعض الفرق اختراق الإجماع الوطني عن طريق وعود بمنح مالية أو التهديد بالتهميش. أوضحت المجموعات السورية المتضامنة أن موقفها هو للدفاع عن حقوق السوريين ومنع تسييس احتياجاتهم.
كانت المفاجأة بعيداً عن الأضواء، حيث تعاطف كثير من الخبراء الأمميين وأيدوا رأي خبرائنا لكنهم كانوا علناً مكبلين بالآليات الجامدة للأمم المتحدة. كما شجعت كثيرا من الدول المانحة على تطوير آليات العمل لكن مع المحافظة على منصات التنسيق كونها أداتهم الوحيدة لتقييم الوضع الإنساني داخل سوريا.
رغم صعوبة هذه المعركة على صعيد دبلوماسية العمل الإنساني، إلا أن الموقف الجماعي نجح في تغيير بعض الآليات مما ساعد على تطوير الاستجابة لحاجات الناس رغم التدمير والتهجير الواسعين في العامين التاليين، من نافل القول أن هذه المبادرة قوبلت لاحقاً بآليات معاكسة في السنين التالية كما هو متوقع في أي مجال دبلوماسي.
بعد خمس سنوات اختلفت كثير من معطيات القضية السورية، إلا أن أساسيات العمل الوطني على جميع المنصات المدنية والإنسانية والقانونية ما زالت تتمحور حول المبدأ نفسه، الالتزام الجماعي بالأجندة الوطنية وتطوير الخبرات الوطنية، فهذه الخبرات هي القادرة على تحويل الفرص لمشاريع وطنية ناجحة، كما أن العمل الجماعي للسوريين هو القادر على تمكينهم من فرض أجندة وطنية بعيداً عن القوالب الدولية الجامدة لأن الأجندة الوطنية السورية هي الضامن الوحيد للمواطن السوري ولكرامته.
المصدر: تلفزيون سوريا