حين اندلعت “ثورات الربيع العربي” في نهاية عام 2010 وبداية عام 2011، بدا واضحا أن هناك رغبة شعبية عارمة في التخلص من نظم الفساد والاستبداد التي جثمت طويلا على صدور الشعوب العربية، مصحوبة بطموحات جارفة في إرساء دعائم نظم حكم أكثر ديمقراطية، وأقل فسادا واستبدادا، غير أن رياح التغيير التي هبت على العالم العربي في ذلك الوقت لم تتمكّن من مواصلة مسيرتها بما تشتهي سفن الشعوب، حيث اعترضت طريقها قوى مناهضة للتغيير في الداخل والخارج. وقد أفرز التفاعل بين القوى الراغبة في التغيير والقوى المناهضة له عن سلسلة من التحالفات الإقليمية اتسمت، في البداية، بقدرٍ كبيرٍ من السيولة قبل أن تستقر ملامحها لاحقا، ففي البداية، ظهر تحالف سعودي إماراتي قطري، مدعوم من تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، سعى إلى حماية النظام الحاكم في البحرين، ثم أصبح طرفا فاعلا في المحاولات الرامية إلى تغيير النظم الحاكمة في كل من ليبيا وسورية .. إلخ، غير أن تطور الأوضاع في المنطقة عموما، وفي مصر خصوصا، سيما عقب إطاحة الرئيس المنتخب، محمد مرسي، أثرت على تماسك هذا التحالف، حيث بدأت تظهر شروخ عميقة في مجلس التعاون الخليجي، ما لبثت أن انتهت بانفجاره من داخله. وهكذا راحت تتشكل في المنطقة بالتدريج، خصوصا بعد وصول ترامب إلى سدة السلطة في الولايات المتحدة، ثلاثة أحلاف متباينة التوجهات والأهداف: سعودي إماراتي، مدعوم عربيا من مصر والبحرين والأردن، وإقليميا من إسرائيل، ودوليا من الولايات المتحدة. إيراني سوري، مدعوم عربيا من حزب الله اللبناني وحركات المقاومة الفلسطينية المسلحة، ودوليا من روسيا والصين. قطري تركي، مدعوم من القوى المنشقة على النظامين الحاكمين في مصر وسورية، ومن بعض جماعات متصارعة على الحكم في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي.
كان في وسع كل متأمل لمسار الأحداث في هذه المرحلة أن يلحظ بسهولة أن حركة التفاعلات بين هذه الأحلاف الثلاثة وداخلها أسهمت بدور كبير، ليس فقط في إشعال عدد من الحروب الأهلية والإقليمية والدولية، خصوصا في اليمن وسورية وليبيا والعراق، وإنما كادت تؤدّي، في الوقت نفسه، إلى غزو مسلح لدولة قطر، المحاصرة من السعودية والإمارات والبحرين ومصر. وإلى إحداث قطيعة شاملة بين تركيا والسعودية، خصوصا بعد وقوع حادث اغتيال الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، داخل مبنى القنصلية السعودية في إسطنبول، بل وإلى إشعال فتيل مواجهة مسلحة بين مصر وتركيا على الساحة الليبية. ولا شك أن وصول ترامب إلى سدة السلطة في الولايات المتحدة، وما أعقب ذلك من انسحاب إدارته من الاتفاق النووي مع إيران، وتبنّيها سياسة الضغوط القصوى في مواجهة إيران، ثم الإعلان عن “صفقة القرن” التي استهدفت تصفية القضية الفلسطينية، كلها عوامل لعبت دورا حاسما، ليس فقط في تثبيت دعائم هذه الأحلاف، وإنما أيضا في رسم (وتحديد) أنماط التفاعلات وخطوطها المتبادلة فيما بينها. لذا كان من الطبيعي أن تفرز خسارة ترامب الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 تفاعلاتٍ من نوع جديد، من شأنها التأثير ليس فقط على قدرة هذه الأحلاف على التماسك، وإنما على قابليتها للاستمرار أيضا.
لم يكن جو بايدن قد استقر رسميا في البيت الأبيض بعد، حين انعقدت قمة مجلس التعاون الخليجي التي أصدرت “بيان العلا” الذي وضع حدّا للحصار المفروض على قطر، والذي استمر أكثر من ثلاث سنوات. وفي تقديري أن هذا البيان كان بمثابة نقطة الانطلاق الرئيسية، ليس فقط لعملية تطبيع متسارعة للعلاقات السعودية القطرية، وإنما أيضا لعمليةٍ أكبر تستهدف إعادة صياغة مجمل العلاقات بين دول المنطقة، فما هي إلا أسابيع، أو شهور قليلة، حتى كانت تركيا قد بدأت تنفتح رسميا على دول عربية كثيرة، ناصبتها العداء فترة طويلة، في مقدمتها مصر والسعودية والإمارات، ثم راحت حركة التفاعلات، وما تنطوي علية إعادة صياغة للتحالفات في المنطقة، تواصل مسيرتها، إلى أن بلغت ذروتها بالإعلان عن اتصالات ومفاوضات رسمية تجري بين السعودية وإيران، عبر وساطة عراقية، وذلك قبل أن تفاجئنا صحيفة الغارديان البريطانية بالكشف عن اتصالاتٍ جرت في دمشق أخيرا بين كل من رئيس المخابرات السعودية، خالد الحميدان، ورئيس مكتب الأمن القومي المشرف على أجهزة المخابرات السورية، علي مملوك.
حين يصل زخم الاتصالات والتفاعلات بين خصوم الأمس إلى هذه الدرجة من الكثافة، من الطبيعي أن يتولد لدى أي مراقب شعورٌ قويٌّ بأن رياحا جديدة بدأت تهبّ على منطقة الشرق الأوسط، وأن هذه الرياح بدأت تُحدث بالفعل تغييراتٍ يمكن منذ الآن الإمساك ببعض أطرافها. ولكن قد يصعب، في الوقت نفسه، التكهن بالمدى الذي يمكن أن تصل إليه على المدى المنظور. ومع ذلك، قد لا يكون من المبالغ فيه أبدا، في تقديري على الأقل، التأكيد على أن المنطقة تبدو مقبلةً على تحولاتٍ جيواستراتيجية عميقة وبعيدة المدى.
حمل وصول بايدن إلى السلطة في الولايات المتحدة مؤشّرات عديدة على تغييرات كبيرة محتملة في سياسة الولايات المتحدة الخارجية، بصفة عامة، وفي سياستها تجاه منطقة الشرق الأوسط، بصفة خاصة، أهمها احتمال العودة فعلا إلى الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني المبرم عام 2015. ومع ذلك، يبدو أن دولا عربية، في مقدمتها الإمارات، وربما السعودية أيضا، ظلت تراهن بعض الوقت على قدرة إسرائيل على عرقلة هذه العودة أو على الأقل ربطها بتعديلاتٍ جوهريةٍ، يراد إدخالها على هذا الاتفاق، تشمل برنامج إيران الصاروخي وسياساتها الإقليمية، غير أن هذا الرهان راح يتبدّد تدريجيا، بعد أن اتضح، بمرور الوقت، أن إيران والولايات المتحدة متنبهتان ومتحسبتان تماما للمحاولات الإسرائيلية المستميتة لقطع الطريق على العودة إلى الاتفاق النووي، ويدركان أن لهما معا مصلحة مباشرة في إفشالها. الأهم من ذلك أن كل الأطراف المعنية بالبرنامج النووي الإيراني بدأت تدرك يقينا أن إيران لن تقبل مطلقا بإدخال أي تعديلاتٍ على الاتفاق الأصلي. وبالتالي، لم يعد أمام الولايات المتحدة من خيار آخر سوى العودة بالاتفاق إلى النقطة التي كان عليها، حين قرّر ترامب الانسحاب منه. وواضح أن مسار المفاوضات في فيينا يشير إلى أن إدارة بايدن نفسها باتت مقتنعةً تماما بأن عودتها إلى الاتفاق النووي هو الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامها، لضمان سلمية برنامج إيران النووي، وأن النكوص عن هذه العودة سوف يضعها لا محالة أمام خيارين، كلاهما مر وغير مقبول. الأول اقتراب إيران أكثر من صنع السلاح النووي، والثاني دخول الولايات المتحدة في حرب مباشرة وشاملة معها، لمنعها من التحول خلال فترة وجيزة إلى قوة نووية. وحين أدركت دول المنطقة أيضا هذه الحقيقة، لم يكن أمام الجميع من سبيل آخر سوى أن يسعى كل منها إلى إعادة صياغة سياستها الخارجية للتأقلم مع التغيرات التي طرأت على السياسة الخارجية الأميركية في العالم، وفي المنطقة، وهو ما يفسّر عمق التحولات التي بدأت تطرأ على حركة السياسة الخارجية لدول المنطقة، باستثناء إسرائيل طبعا.
قد يكون من السابق لأوانه الجزم بأن العودة الأميركية إلى الاتفاق النووي الإيراني باتت مؤكدة أو وشيكة، أو أنها، إن تمت، ستساعد بالضرورة على حسم انتخابات الرئاسة المقبلة في إيران لصالح التيار الإصلاحي، غير أن هناك مؤشّرات عديدة ترجح التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وإيران قبل نهاية شهر مايو/ أيار الحالي، بل وترجّح أيضا أن يكون لهذا الاتفاق تأثير إيجابي على الانتخابات الرئاسية في إيران، لصالح التيار المحافظ. وفي جميع الأحوال، سوف يكون من الصعب جدا على أي رئيس إيراني قادم، حتى لو انتمى إلى التيار المتشدد، عرقلة تنفيذ هذا الاتفاق أو رفضه، في حال التوصل إليه.
تفتح عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني، وانفتاح كل من إيران وتركيا على الدول العربية المناوئة لسياساتها، بابا جديدا للأمل قد يؤدي إلى تهدئة الأوضاع في المنطقة، والتقدّم بجدّية نحو البحث عن تسوياتٍ متوازنةٍ ليس فقط للأزمات والحروب المشتعلة في اليمن والعراق وسورية وليبيا، وإنما للقضية الفلسطينية أيضا، فهل تستطيع الدول العربية الرئيسية انتهاز الفرصة لقيادة العالم العربي نحو صياغةٍ جديدةٍ وجماعيةٍ وواعيةٍ لعلاقة متوازنة مع كل من إيران وتركيا، بما يساعد على فتح الطريق نحو العمل على إيجاد تسوياتٍ سياسيةٍ لهذه الأزمات؟ سيتوقف هذا، في النهاية، على مدى استعداد الدول العربية، خصوصا التي ما تزال تراهن على إسرائيل، لإعادة صياغة علاقتها بالكيان الصهيوني الذي ينبغي التعامل معه باعتباره المصدر الرئيسي لتهديد أمن العالم العربي كله.
وحدها إسرائيل في المنطقة التي ستقاوم بضراوة رياح التغيير القادمة، وبالتالي ستبذل كل ما في وسعها ليس فقط للحيلولة دون عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق الخاص بالبرنامج النووي الإيراني، وأيضا للحيلولة دون حدوث أي تقارب حقيقي بين الدول العربية وإيران، وبين الدول العربية وتركيا. فهل وصلت الرسالة؟ يلفت نظري مقال بعنوان “بدأ العد التنازلي لحرب إسرائيلية على إيران”، كتبه جون حنا John Hannah، كبير الباحثين في المعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي، والمستشار السابق لنائب الرئيس الأميركي السابق، ديك تشيني، ونشرته مجلة “فورين أفيرز”، في 6 مايو/ أيار الحالي، خلاصته أن الزيارة التي قام بها الوفد الأمني الإسرائيلي إلى واشنطن قد فشلت، ومن ثم لم يعد أمام إسرائيل سوى شن الحرب على إيران، لمنعها من امتلاك السلاح النووي. ومعروف أن الهدف الرئيسي من زيارة هذا الوفد كان إقناع إدارة بايدن بعدم العودة إلى الاتفاق النووي.
لا تقرّر إسرائيل منفردة شن حرب على إيران، لكنها إذا كانت تعتقد أن الحرب على إيران خيارها الوحيد، فلماذا لا تتركها الدول العربية تذهب إليها منفردة؟ ولماذا تربط بعض الدول العربية مصيرها بإسرائيل؟
المصدر: العربي الجديد