تستمر إسرائيل بشن هجماتها العلنية والسرية ضد مواقع الحرس الثوري الإيراني وميليشياته الحليفة في سوريا، برغم تقارير صحافية تحدثت عن قرار إسرائيلي بوقفها نتيجة ضغوط أميركية. فالوقائع على الأرض تشير الى تصعيد إسرائيلي مستمر في وتيرة هذه الهجمات برغم حماوة المفاوضات، إن كان في فيينا بين إيران والقوى العظمى لإعادة إحياء الاتفاق النووي، أم في المنطقة بين دول عربية ودول ما يسمى بمحور الممانعة – سوريا، إيران والعراق.
من يراجع تاريخ المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وعقيدتها يستنتج بسهولة أن حجم تأثير العوامل الخارجية ـ وحتى الأميركية منها ـ على قرارها في الحرب والسّلم له حدود. فلقد أقدمت إسرائيل منذ تأسيسها، في أكثر من مناسبة، على شن عمليات عسكرية صغيرة وكبيرة، وحتى حروب من دون التنسيق مع حلفائها في الغرب أو حتى موافقتهم.
فالقادة الإسرائيليون يشددون دائماً على أهمية احتفاظهم بحق تقدير ما حجم الخطر الذي يتهدد إسرائيل وكيفية التعامل معه. وهذا أكثر ما يقلق الولايات المتحدة، إذ إن هناك اختلافاً بين تقييمها وتقييم إسرائيل لخطر البرنامج النووي الإيراني وتمدّد الحرس الثوري وميليشياته على طول حدود إسرائيل الشمالية. وما كثرة الاجتماعات خلال الأسابيع الأخيرة بين القادة العسكريين والأمنيين الإسرائيليين مع نظرائهم الأميركيين، سوى محاولة للوصول الى تقييم مشترك وتوحيد الصورة في ما يخص التهديدات وطريقة التعامل معها.
لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الطرفين قد اتفقا أو سيتفقان على كل شيء. فمقاربة إسرائيل للتهديد الإيراني تختلف كثيراً عن المقاربة الأميركية. ففي حين أن إسرائيل باتت تحت التهديد المباشر للنيران الإيرانية، فإن الأراضي الأميركية لا تزال بعيدة عن ذلك. وفي حين أن أميركا تستطيع أن تتعايش مع إيران نووية كما تتعايش اليوم مع دول مثل كوريا الشمالية، لا تستطيع إسرائيل التعايش مع إيران نووية ستشكل تهديداً وجودياً للدولة العبرية. فمجرد امتلاك إيران سلاحاً نووياً سيزيد من حجم الخطر على إسرائيل، وهذا سيثني آلاف اليهود حول العالم عن الهجرة الى إسرائيل، لا بل قد يؤدي الى هجرة معاكسة من داخل إسرائيل خوفاً من حرب مدمّرة. وعليه، فإن إسرائيل مستعدة للذهاب مسافة أبعد من أميركا في جهودها المختلفة لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي.
الخطر الإيراني الآخر الذي سيدفع إسرائيل باتجاه مغامرة عسكرية كبيرة هو أن تتمكن إيران من كسر عامل الردع الإسرائيلي عبر حشد قوات عسكرية كبيرة على حدودها الشمالية مجهزة بأسلحة حديثة ومتطورة، وتحديداً كميات كبيرة من طائرات من دون طيار هجومية، وصواريخ جوالة وبالستية دقيقة، وصواريخ أرض – جو ومضادة للسفن. وهذا ما تعمل إسرائيل على منعه عبر ضرباتها المتكررة ضد أهداف داخل سوريا وضد ناقلات نفط تستخدم لتأمين حاجات النظام السوري والميليشيات الإيرانية. ويبدو أن إسرائيل باتت تعتبر أن حجم هذا التهديد قد تعدى الخطوط الحمر، وهو ما يبرّر انطلاق التدريبات العسكرية الأكبر في تاريخ الدولة والتي ستستمر أسابيع عدة، وتحاكي حرباً كبيرة على الجبهتين الشمالية والجنوبية لإسرائيل.
وتشكل المناورات غطاءً جيداً لانطلاق حرب مباغتة. فهي تكون قد حشدت جنودها مسبقاً، وراقبت ردود فعل القوة المعادية، وهيأت الرأي العام المحلي والداخلي لوجود خطر كبير تستعد هذه الدولة للتعامل معه. وإسرائيل تستعد وتروّج منذ انتهاء “حرب لبنان الثانية” في صيف 2006 الى ما تسميه “حرب لبنان الثالثة”، والتي قد تشمل جنوب سوريا وشرقها، وتصفها جهات إسرائيلية بأنها ستكون حرباً مدمرة ولن تستثني أي منطقة في لبنان وسوريا فيها أهداف لـ”حزب الله” وميليشيات الحرس الثوري الإيراني.
يبنى القرار الإسرائيلي الدخول في أي مواجهات عسكرية على معادلة الربح والخسارة ومقارنة حجم المخاطرة بحجم التهديد. فإذا ما اقتنعت القيادات الإسرائيلية بأن حجم التهديد الإيراني في لبنان وسوريا قد بلغ حجماً يهدد هيبة الردع ووجودها كدولة آمنة، فإنها ستعتبر أن حجم المخاطر مبرر. فهي تدرك أن “حزب الله” والميليشيات الأخرى قد بنت ترسانة كبيرة من الصواريخ التي ستستهدف العمق الإسرائيلي، وبالتالي ستكون هناك خسائر مادية كبيرة، بالإضافة الى خسائر بشرية. ولذلك، فإن هدف أي حرب إسرائيلية مقبلة سيكون الآتي:
• توجيه ضربات كبيرة وشاملة بأسرع وقت ممكن ضد كل منشآت الصواريخ ومنصات إطلاقها بهدف تدمير أكبر كم منها قبل استخدامها أو تصنيعها.
• تدمير شبكة الدفاع الجوي والإنذار المبكر لمجموعات الحرس الثوري و”حزب الله” في سوريا ولبنان، من أجل تأمين استمرارية السيطرة الجوية المطلقة للطائرات الإسرائيلية.
• تدمير البنية التحتية، بخاصة الجسور والأنفاق والطرق ومحطات توليد الطاقة الكهربائية وخطوط الفايبر أوبتك للاتصالات والموانئ البحرية والجوية، لمنع الطرف الآخر من الاستفادة منها واستخدامها.
• شنّ عمليات برية للسيطرة على مناطق محددة لتشكيل مناطق أمنية بعمق جغرافي جيد، تنسحب منه إسرائيل لاحقاً ضمن قرار دولي يكون تحت البند السابع يمنع وجود أي مجموعات مسلحة داخلها.
• إنهاء الوجود العسكري الإيراني في سوريا نتيجة قرار دولي تحت البند السابع.
تسعى إيران، منذ فترة تحت راية “تحرير القدس”، الى تثبيت نفسها عسكرياً على حدود إسرائيل الشمالية، لتعزز قدرتها على تهديد إسرائيل من أجل ابتزازها بقبول دور طهران كلاعب إقليمي أساسي يسيطر على قرار ما يُسمى بمحور الممانعة، وبأن تتحول قوة عسكرية كبيرة وربما نووية. فإيران لا تسعى الى شن حرب على إسرائيل، بل الى تشكيل تهديد جدي على حدودها كأداة ضغط. لكن الفكر العسكري الإسرائيلي يرفض التعايش مع أي قوة إقليمية تمتلك القدرة على أن تهدد إسرائيل وجودياً، بخاصة أن هذا الخصم يملك ويتفاخر بأيديولوجيا قائمة على شعار إزالة إسرائيل من الوجود. فإسرائيل لا تعتبر وجود مجموعات مسلحة ببعض الصواريخ والأسلحة على حدودها تهديداً أمنياً مهماً. لكن امتلاك أسلحة نوعية تهدد سيطرتها على الأجواء والمياه وتكسر هيبة الردع لديها، يحوّل طبيعة التهديد وجودياً، وبالتالي يتخطى الخط الأحمر. كما أن إسرائيل اليوم تسيطر سيطرةً أفضل على انتشار فيروس كورونا على أراضيها نتيجة برنامج التلقيح المتقدم لديها والذي وضعها بالمرتبة الأولى عالمياً.
يبدو أن إيران ماضية في تحقيق أهدافها العسكرية في كل من سوريا ولبنان. فهذه سياسة لا تشكل أي تهديد مباشر لها، كون أي هجوم إسرائيلي سيستهدف أراضيَ وبنية تحتية لدول أخرى، تحديداً لبنان وسوريا. ومن المستبعد أن تتدخل إيران مباشرةً في أي حرب إسرائيلية مستقبلية على سوريا ولبنان، والمرجح أنها ستبقى خارجها كما فعلت عام 2006. ويعاني لبنان، كما سوريا، من عزلة دولية وغضب خارجي نتيجة فساد منظوماتهما السياسية. فكلاهما يعتبران دولتين فاشلتين، لا تملكان السيطرة على قرارات السلم والحرب، وهناك قناعة دولية تترسخ يوماً بعد يوم بأن طهران هي من تتحكم بقرار لبنان السياسي وتؤثر كثيراً في صنع القرار في دمشق. كما أن هناك غضباً شعبياً على السلطة الحاكمة في البلدين، وتحديداً حلفاء إيران. وبالتالي فإن إسرائيل قد تجد في هذه الأجواء عاملاً مساعداً لعمل عسكري كبير لتحقيق أهدافها. وحجم تداعيات العمل العسكري من خراب ودمار وتهجير سيكون كبيراً بشكل يولّد ضغطاً دولياً على إسرائيل لوقفها، وأيضاً على إيران لسحب ميليشياتها ووقف تسليح عملائها، وهو ما تريده تل أبيب ودول أخرى.
المصدر: النهار العربي