انشغال الأتراك والروس بمواجهة فيروس كورونا، لم ينسهما تنفيذ تعهدات تفاهم موسكو المعلنة في الخامس من مارس/آذار الحالي، والتي بدأت بقرار وقف إطلاق النار على جبهات إدلب، وجوارها، تمهيدا لتحرك ميداني وعسكري وسياسي أوسع. وتسيير الدوريات الأحادية على جانبي طريق أم – 4 ليس بين الأهداف الأساسية لاتفاق الرئيسين، التركي أردوغان والروسي بوتين، غير أن الأولويات المتفق عليها هي تسريع عملية تفعيل حركة الدوريات العسكرية المشتركة، تمهيدا لفتح الطريق بين حلب واللاذقية. والغاية الأهم طبعا هي إزالة العوائق في وجه هذا القرار والتي تؤخر تنفيذه، وهي “المجموعات الراديكالية” التي حاولت الرد باتجاهين: عرقلة تقدم الدوريات المشتركة عبر تحريض السكان المدنيين هناك، لرفض الوجود الروسي الذي لا يضمن انسحاب قوات النظام من المناطق التي تقدم إليها على حساب اتفاقية سوتشي، وتسهيل عودة عشرات آلاف النازحين إلى قراهم ومنازلهم، واستهداف الجنود الأتراك مباشرة، كما حصل قبل أيام في الهجوم الصاروخي الذي شنته، وأسفر عن سقوط قتيلين وإصابة ثالث.
وكان الرئيس أردوغان يقول إن التراجع عن المواقف والسياسات التركية في سورية بعد الآن سيكون أكثر كلفة على تركيا ومصالحها هناك. وبعد قمة موسكو، لم يصبح الحديث كثيرا عن سوتشي وقراراتها، بل صار السؤال عما إذا كانت أنقرة قد قبلت استبدال خطة المنطقة الآمنة بالممر الآمن الذي يجري التحضير لإنشائه شمال الطريق الدولي إم 4 وجنوبه. وقد ارتفع أخيرا عدد نقاط المراقبة والانتشار العسكري التركي في أرياف إدلب وحماة وحلب إلى نحو 45 نقطة. وتعكس نظرة خاطفة على نوعية الآليات والمعدات اللوجستية والهندسية التركية التي دخلت المنطقة حقيقة أن الهدف التركي الأول ليس تعزيز الوجود شمال الطريق الدولي أم – 4، للرد على خروق النظام، بقدر ما هو رسالة إلى هذه المجموعات أن معركة الحسم معها اقترب موعدها بعد تردد أنقرة في الإقدام على هذه الخطوة أشهرا، والتي كانت في مقدمة أسباب وصول المشهد العسكري والميداني إلى ما هو عليه اليوم.
وقد دعا المتحدّث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أكثر من مرة، إلى تجنّب بناء سيناريوهات سلبيّة بخصوص العلاقات الروسية – التركية في إدلب وسورية. وردّد وزير الخارجية التركي، شاويش أوغلو، منذ البداية، إن علينا أن لا نسمح للأزمة السورية أن تؤثر على علاقات التعاون والتنسيق بين أنقرة وموسكو. وقد نجحت القيادات التركية والروسية في قطع الطريق على وقوع ما هو غير محسوب في مواجهتهما السورية.
ولم يعد الحديث كثيرا في أنقرة عن تاريخ انتهاء الإنذار الموجه إلى النظام السوري الذي لم يسحب قواته إلى خطوط ما وراء تفاهمات سوتشي، ولا عن هذه التفاهمات نفسها. وتراجعت عملية درع الربيع التركية لصالح قمة موسكو. والحرب التي أعلنها رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهشلي، على دمشق بعد ساعات من استهداف أبراج المراقبة التركية في إدلب أنهاها بنفسه، بعدما عاد إلى دعم التفاهمات التركية الروسية التي حققت قفزة مهمة نحو التسويات في المدينة التي يقول بيسكوف إن الوضع فيها استقر بعد توقيع الرئيسين بوتين وأردوغان مذكرة تفاهم بشأن المنطقة في مطلع شهر مارس/ آذار الحالي، وأن الجانب التركي تعهد باتخاذ إجراءات قريبة لتصفية الجماعات المتطرّفة التي تعيق حركة الدوريات المشتركة. وتعرف جبهة النصرة ومثيلاتها أن ساعة الصفر ضدها بدأت. وتعرف أنقرة وموسكو أن هذه المجموعات التي فقدت الهيمنة على الأرض ستحاول الاحتماء بالدروع البشرية في إدلب. وما هو غير معروف بعد ما إذا كانت هذه العملية ضد هذه المجموعات ستكون تركية روسية مشتركة أم لا.
ستتضح قريبا أسباب زيارة وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، الخاطفة إلى دمشق، وما إذا كانت من أجل التحضير لعملية جنوب غرب إدلب، أم هو تحرك تمهيدي لإطلاق يد النظام مجددا في مواصلة هجماته على جبهات سراقب وكفرنبل وجبل الزاوية، أم أن تحرك موسكو، كما تقول وزارة الدفاع الروسية، يتم بتوجيه من الرئيس بوتين، ويهدف إلى “بحث سبل ضمان وقف مستدام للأعمال القتالية في منطقة إدلب، وإرساء الاستقرار في باقي أراضي سورية”. وغير مستبعد أن شويغو أطلع بشار الأسد على سيناريو التفاهمات التركية الروسية لإنهاء المجموعات الراديكالية في إدلب، حجر العثرة أمام كل تنسيق ميداني وسياسي في المنطقة. تتحدث دمشق، منذ فترة، عن العمل العسكري التركي الروسي المرتقب في إدلب ضد هذه المجموعات، وتتحدث أيضا عن “عملية السطو الأميركية على النفط والثروات السورية”. هل هي رسالة تحية إلى أنقرة بشأن اقتراحها القديم الجديد تخصيص حصة من مداخيل نفط شرق البلاد لتمويل احتياجات ومشاريع النزوح واللجوء، وتكون حلقة في خطة التفاهمات التركية الروسية الشاملة في سورية؟
تتحدث موسكو عن منح أنقرة وقتا إضافيا لإنهاء ملف المجموعات الراديكالية، لكنها لا تعلن عن الخطوة التي ستعقب ذلك. لماذا قبلت أنقرة القمة التركية الروسية، وهي تسجل الانتصارات العسكرية، وتنزل الضربات القوية بقوات النظام، على الرغم من أنه لم يتخل عن سراقب، ولم يخرج من المناطق التي تقدم إليها في الأشهر الأخيرة؟ هل الخطة التركية الروسية هي مقايضة ما سيجري في إدلب بما سيجري في كوباني وتل رفعت ومنبج مثلا؟ هل الهدف هو ضمانة روسية لأنقرة أن إنهاء ملف جبهة النصرة في إدلب أهم من موضوع تقدم قوات النظام إلى هذه المناطق، وأن التفاهمات تعني منطقة شمال سورية وإزالة الجيوب المتبقية أمام أنقرة لربط مناطق عملياتها العسكرية ببعضها بعضا؟
تريد أنقرة العودة إلى تفاهمات سوتشي، والنظام في دمشق يريد التقدم إلى المناطق الحدودية في شمال غرب سورية، ما الذي تريده موسكو هنا، وما الذي اتفقت عليه مع أنقرة هو بين الأولويات بالنسبة للجميع أيضا.
هل يشمل الاتفاق التركي الروسي الجديد مسألة الوجود العسكري الايراني في منطقة إدلب، وإخراج المليشيات المحسوبة على إيران من المنطقة، بعدما كرّرت أنقرة أنها ستتحرك على كل المستويات، لمساءلة طهران وبيروت وبغداد عن تجاهل هذه العواصم لتقدم هذه المجموعات نحو أبراج المراقبة التركية، والمشاركة في عملية محاصرتها واستهدافها مباشرة؟ اللاعب الايراني قلق مما يجري، والتقارير الإعلامية والأمنية تتحدث عن وصول مزيد من المليشيات الإيرانية الداعمة للنظام إلى جبهات القتال في إدلب، إذ تشعر إيران بخطورة التفاهمات التركية الروسية على حسابها في سورية. وهي متخوفة أيضا من ضوء أخضر أميركي خليجي داعم لهذه التفاهمات، إذا ما كان بين أهدافها إضعاف طهران وإخراجها من المشهد السوري. ما سيطبق على المجموعات المتطرّفة في إدلب هو نفسه الذي سيطبق على المليشيات الإيرانية هناك، إذا ما كانت تفاهمات موسكو تتقدم باتجاه التسويات والحلحلة في سورية.
احتمال عرقلة هذه السيناريوهات قائم طبعا، إذا ما استطاعت مجموعات جبهة النصرة إطالة فترة المواجهة والصمود في إدلب بدعم خصوم تركيا وروسيا وأعدائهما في سورية، فهل تلتقي مصالح المتطرّفين والمتضررين المحليين والإقليميين هناك، وتدفعهم إلى توحيد الجبهات في شمال سورية ضد أنقرة وموسكو مثلا؟ كيف ستتحقق المطالب والاهداف التركية المتعلقة بإعادة قوات النظام إلى الأماكن التي انطلقت منها قبل أشهر، وتسهيل عودة عشرات آلاف النازحين واللاجئين إلى مناطقهم في شمال غرب سورية، وتحقيق حلم المنطقة الآمنة بتفاهم إقليمي ودولي حول تمويل إنشائها بجزء من عائدات النفط السوري في شرق الفرات؟
المصدر: العربي الجديد