بعد مضي عقد على الحرب السورية، والتي راح ضحيتها مئات آلاف من القتلى والجرحى، والبالغة كلفتها حوالي 1.5 تريليون دولار، كأعلى كلفة حرب خلال العقد المنصرم، استطاعت القوات الروسية فرض سطوتها في لعبة الحرب في سورية، مع منظومة تسليح عالية التقنية وعتاد بشري مدرّب لحماية مصالح روسيا في البلاد. بعد عام 2018، دخلت الحرب السورية مرحلة جديدة من التعامل على الأرض، بعد إدخال برنامج المصالحة الوطنية وانضمام مجموعات المعارضة المسلحة وفصائلها إلى الفيلق الخامس المدعوم روسيًا، وتعديل مسار المعركة إلى انتصارٍ يحسب للقواعد الروسية المتوزعة بشكل رئيس في أربع محافظات سورية؛ دمشق، واللاذقية، وطرطوس، ودرعا. يبقى السؤال المطروح دوماً: هل انتصرت روسيا أم أنه مجرد وهم سطوة بسبب ضعف بنية الدولة السورية من جهة، وضعف حلفاء المعارضة السورية المسلحة من جهة أخرى؟ تنحصر الإجابة بمدى توافق نتائج المعارك التي خاضتها القوات الروسية مع تطلعات القيادة الروسية بخصوص ست سنوات من التدخل العسكري والاستخباراتي، وقياس نسبة النتائج إلى المنافع التي رمت موسكو إلى الحصول عليها من هذا التدخل.
العلاقات التاريخية وشبح الإرهاب
فعليًا، بدأ تدخل روسيا في سورية في عام 2012، مع إشهارها أول فيتو في مجلس الأمن ضد قرار يدين استخدام العنف في سورية، لينتقل بعدها مسار هذا التدخل من الدبلوماسية إلى العسكرية والاستخباراتية الأمنية. تاريخياً، اتسمت العلاقات الروسية – السورية بالدفء من منظور الواقعية السياسية، القائم على معادلات المصالح وموازين القوى، واستخدام دولة، مثل سورية، وموقعها الجيوستراتيجي لتحقيق مصالح روسيا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خصوصًا بعد سقوط أنظمةٍ عربيةٍ، كانت تشكّل برمّتها نسق العلاقات السياسية والعسكرية والأمنية الثابتة حتى مطلع 2010. دعم الاتحاد السوفييتي سورية في حرب السويس عام 1956، ولكن العلاقات لم تتبلور وتطفو الواقعية على سطح العلقات بين البلدين، إلا عندما أسست القوات البحرية الروسية قاعدة بحرية في مدينة طرطوس، المطلّة على المياه الدافئة في البحر المتوسط، لتبقى القاعدة مركزاً عسكرياً واقتصادياً لا بأس بخدماته، حتى تفكّك الاتحاد السوفييتي، ليعيد الرئيس بوتين تشغيل القاعدة عام 2008، وتبرُز أهميتها بعد 2013، عندما عادت القاعدة إلى الواجهة منصة إمداد وتمويل رئيسة للسرب الجوي الروسي الذي قاد العمليات في سورية لاحقًا.
تنبّهت روسيا إلى أهمية ميناء طرطوس قاعدة بحرية مهمة، واستأجرته ضمن عقد مدته 49 عامًا منذ 2017، ليخدمها بوصفها منصة وصول إلى المياه الدافئة، حلم القياصرة الروس منذ أيام خلافهم مع الدولة العثمانية. من ميناء طرطوس إلى قاعدة حميميم إلى ما يقارب 250 نقطة عسكرية وأمنية روسية منتشرة في المحافظات السورية؛ كلها منحت روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي موقعًا في الشرق الأوسط، الأمر الذي أسّس لمكانة قوة عظمى في السياسة الدولية، جعلها تفرض نفسها أمام القوة الأميركية، ضمن أكبر مسار عمليات عسكرية لروسيا خارج البلاد منذ حوالي ربع قرن.
شكّلت الأرض السورية ساحة تصفية نزاعاتٍ بين المعسكرين، الروسي والأميركي، وخصوصًا أن روسيا لم تكن راضيةً عن التدخل الأميركي في ليبيا. ولذلك، من المهم بالنسبة لموسكو منع تكرار السيناريو الليبي واستنساخه في سورية، كونه يتعارض مع مصالحها على المديين، القريب والبعيد. كان حديث وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، منذ بداية الحرب في سورية، واضحاً حيال أي تدخل غير الروسي في سورية، اعتبر أن أي تدخل من قوات التحالف سيزيد العنف ولن يوقفه، وسينقل سورية إلى مستنقع مشابه للذي في ليبيا. أما على مستوى متابعة موضوع الحرب على الإرهاب، فإن عدم تدخل روسيا في الحرب السورية يعني أن مناخ الفصائل الإسلامية العاملة على الأرض سيجذب الجهاديين، وتتحول بذلك سورية إلى بؤرة متطرّفين تضرب مصالح روسيا في النهاية، سيما وأن مدّ المجاهدين القوقاز والشيشان والأفغان وصل إلى سورية بفعل ترويج تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). تخشى موسكو تسلل الجهاديين إلى الأراضي الروسية بعد انتصار “داعش”، وانضمامهم إلى حركات التمرّد في شمال القوقاز، بما يسهل تنفيذ هجمات ضد قلب روسيا. ولهذا، النخب الروسية، سياسية أو عسكرية، تصف دخول موسكو المعركة في سورية بأنه شن حرب وقائية على الإرهاب.
أوكرانيا وبنية الجيش الروسي
حرّك الضغط الأميركي والأوروبي على روسيا عقب التدخل الروسي في أوكرانيا عام 2014 رغبة موسكو في الدخول علنًا في الحرب السورية، مدفوعةً إلى ذلك برغبة الكرملين في إبعاد البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي عن دائرة فرض عقوباتٍ أكثر صرامة على موسكو، تؤدّي إلى عزلة دولية، لتصبح سورية مساحة تسوية هذا الخلاف العالق بين الطرفين. واليوم يعود ملف أوكرانيا إلى الطفو على المشهد، في ظل وجود خلاف حادّ بين إدارة بايدن والكرملين، ليعيد هذا الصراع أزمة كوبا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بين 1947-1991. وبالتالي، من المهم جدًا بالنسبة لموسكو إبقاء الملف السوري ورقة ضغط على واشنطن وحلف شمال الأطلسي (الناتو) في سبيل رفع يدها عن ملف أوكرانيا، خصوصاً بعد دعوة الرئيس الأميركي بايدن نظيره الروسي بوتين إلى عقد لقاء في دولة ثالثة لمناقشة الملف الأوكراني. توترت العلاقات، ووضع ملف أوكرانيا أمام ملف سورية، يعني أن من شأن ارتفاع وتيرة العمليات الروسية في سورية زيادة مستوى تحصين البيت الروسي ضد أي تهديدٍ عسكري أو سياسي.
حسّنت الحرب السورية العلاقات بين كل من الحلفاء روسيا والصين وإيران، وإن كانت هناك نزعة روسية – إسرائيلية لكفّ يد إيران عن سورية، وجعلت روسيا تقود المعركة في سورية على المستويين العسكري والسياسي، بما يضمن إيجاد توافقٍ بين جميع الأطراف، بما فيها تركيا وأميركا بشأن التقسيم النهائي لمناطق النفوذ في سورية. عزّز وجود روسيا في قيادة المعارك ضد فصائل المعارضة المسلحة، وخصوصًا ضد الفصائل والتنظيمات المتشدّدة، مثل داعش وجبهة النصرة وجيش الإسلام، ثقل موسكو في ملف الحرب على الإرهاب، وأكسبها امتيازًا جعلها من اللاعبين الرئيسين على مستوى صنع السياسة في العالم.
من المسائل الحساسة بالنسبة لروسيا في المرحلة الحالية مسألة تطوير التكتيك الحربي الخاص بالجيش الروسي. أثْرت الحرب في سورية مسيرة الجيش الروسي، خصوصًا وأن كبار الضباط الروس هم من يتسلمون إدارة مهمات القتال وتنسيق الخطط العسكرية في الميدان، إذ إن الحرب ساهمت في صقل خبرات العسكريين الروسيين، ضباطًا وأفرادًا، على مستوى التفكير والتخطيط العسكري وتطوير البنية العسكرية والعقيدة القتالية للجيش الروسي. استفاد الضباط الروس من الترقيات، نتيجة خدمتهم في سورية، الأمر الذي شجّع العسكريين الروس على طلب الذهاب ضمن مهمات إلى سورية تحت إمرة مركز القيادة العسكرية الروسية في قاعدة حميميم الجوية في محافظة اللاذقية. اختبرت وزارة الدفاع الروسية القدرة القتالية للجنود الروس في حروب الشوارع وحروب المدن، والأهم كان تدريب فرق القوات الخاصة الروسية (Spitsnaz) سبيتسناز، على عمليات ذات نمط استخباراتي وعسكري ضمن إطار المدينة. جرى تدريب قوات “سبيتسناز” مع قوات الحرس الجمهوري ومكتب أمن الفرقة الرابعة، ضمن عمليات استخباراتية وعسكرية تكتيكية في دمشق، ريف دمشق الغربي والغوطة الشرقية، بحيث يختبر الجنود الروس تكتيكات إخراج العدو من المناطق المدنية بأقل الخسائر مع التدرّب على طرق المفاوضات وإيجاد ممرّات إنسانية لإخراج العالقين من مناطق القتال. تدرّب الجيش الروسي على استخدام الروبوتات في المعارك، لا سيما في تفكيك الألغام في العمليات داخل المدن السورية، وفي مدينة تدمر، بعد المعارك مع “داعش”؛ وتعلم الروس طرق استخدام المعدّات الإلكترونية اللاسلكية، وتقنيات المعلومات لتشويش إشارات العدو، والدفاع عن القواعد العسكرية ونقاط الشرطة الروسية ضد هجمات الطائرات بدون طيار (Drones). أغنت تجربة الحرب السورية واقع العمل العسكري الروسي، لا سيما في ظل ركود العمليات العسكرية الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، واستفاد الجند الروس من التعامل مع ألوية وفصائل، من قبيل لواء صقور الصحراء وألوية الحرس الثوري الإيراني ولواء فاطميون، وتشكّلت لديهم القدرة التنظيمية والإدارية العالية، بعد فرز مناطق سورية وتقسيمها إلى قطاعات قتالية، وتحديد المهمات القتالية الخاصة بكل قطاع وفق خبرات العناصر المشاركة في القتال. يعمل الجيش الروسي على دمج هذه الدروس المستفادة من خلال المؤتمرات والندوات التي يعقدها كبار الضباط في قاعدة حميميم، وإيصال تقارير إلى وزارة الدفاع الروسية عن الأداء القتالي للجنود الروس في سورية، ونتائج المعارك والعمليات الأمنية التي يقودها الجنود الروس من جيش وشرطة عسكرية وجهاز أمن خاص.
اقتصاد الحرب
في قراءة لاقتصاد التدخل الروسي في سورية، حصدت شركات التسليح ووكالات التجنيد الروسية أرباحًا طائلة، بعد أن انخرطت في الحرب السورية بكل نشاطاتها على مدار السنوات الست الأخيرة، وحتى قبلها. لم يكن دخول شركات التسليح الروسية على خط المعارك في سورية مصادفة، إذ لا تزال أسلحة حقبة الاتحاد السوفييتي في المخازن، وبحاجة إلى إعادة اختبار؛ إما للبيع أو التنسيق. تمتلك روسيا حوالي 35 شركة تصنيع أسلحة؛ ودخلت شركة “ألماز أنتي” المتخصصة بتطوير أنظمة الدفاع الجوي، وشركة “أورال فاغون زافود” المتخصصة بصناعة المدرعات والدبابات عالم تجارة الأسلحة الدولي من أوسع أبوابه، بعد أن تم اختبار ما لا يقل عن 162 نوعاً للأسلحة في سورية. اختبرت الشركات الروسية السلاح ضمن ظروف قتال طبيعية، في ميدان حرب جوية وبحرية وبرّية. كان الطيران اللاعب الأساسي في الحرب السورية، واختبرت روسيا طائرات من طراز سوخوي – 24 وسوخوي -27 سوخوي – 35؛ مع تجريب إصدار حديث للطائرة الاستراتيجية الروسية “توبوليف”، بعد إضافة صواريخ من طراز إكس -101 في توجيه ضرباتٍ لكل من “داعش” وجبهة النصرة في تدمر. ترافق سرب الطائرات الروسية العاملة في سورية من أي طراز منظومة رادارات عالية الدقة، لرصد أية أهدافٍ تهدد الطائرات، مع وجود كتيبة خاصة بالحرب الإلكترونية في كل من طرطوس حميميم، مع ورادارات بحرية في بحر قزوين، مدعومة بصواريخ من طراز “كاليبر” تمت تجربتها أول مرة عام 2015 على تجمعات “داعش” وجبهة النصرة في تدمر وإدلب. وتمر صفقات الأسلحة الروسية بالتنسيق بين شركات التسليح الخاصة الروسية وشركة “روس بورون إكسبورت” التابعة لوزارة الدفاع الروسية. ولترويج أسلحتها كان لا بد من إيجاد مناخ حرب وبيئة جغرافية حقيقية لاختبار نجاعة الأسلحة أمام الممولين والطالبين قبل عقد أي صفقات. بلغ حجم مبيعات السلاح الروسي في عام 20219 وحده 8.5 مليارات دولار، لتكمل في 2020 و2021 صفقات بقيمة 51 مليار دولار مع دولٍ كانت قد شاهدت نجاعة الأسلحة الروسية في حرب سورية.
تروي التجربة السورية حكاية اقتصاد حرب الوكالة، إذ نشطت في روسيا شركات التجنيد، وأبرزها فاغنر Wagner التي تعتمد على العلاقات مع الكرملين بغرض الحصول على تمويل. وفي المقابل إرسال مقاتلين إلى سورية، أو تجنيد سوريين للعمل لديها عبر سماسرة حرب. وعلى الرغم من إنكار موسكو أي علاقة بشركة فاغنر، والتي تحكمها فعليًا علاقات بالكرملين ورجال أعمال مقرّبين من الرئيس بوتين، إلا أن الحرب الروسية وتسريبات من أوكرانيا وروسيا أكدت تورّط الشركة بإرسال مقاتلين يعملون بدلا عن الجيش الروسي، ويتدربون تحت إمرته في سورية وليبيا، الأمر الذي يقوّي سطوة روسيا خارج حدودها. تتعاقد القوات الخاصة الروسية مع شركات أمنية تزوّد العمليات العسكرية التي يقودها الجيش الروسي بقواتٍ رديفة تكون مهمتهم على الجبهة في الخط الأول، أو إمداد الشرطة العسكرية الروسية بخبراء رصد وتشويش ومحللي بيانات وقراصنة إنترنت مهمتهم قرصنة المواقع والحسابات الخاصة بالعدو وتحليلها.
بشكل أو بآخر، ساهمت التجربة السورية في رفع سوية الجيش الروسي ومستوى الأداء القتالي للجنود الروس. وليست حروب الوكالة والنمط الاستخباراتي الجديد إلا نتاج مرحلة الخصخصة العسكرية التي تختبر موسكو نجاعتها، في ظل التعقيدات الدولية الحالية، وعدم الرغبة في الاعتماد على الجهد الحكومي في حروب خارج حدود البلاد، لا سيما وأن موسكو تمر في مرحلةٍ أقرب إلى ثورة في عالم التسليح خلال الأعوام الثلاثين الماضية، الأمر الذي حفّز نمو عدد هائل من شركات التسليح والخدمات الأمنية غير محدودة الصلاحيات، والمدعومة من الحكومة. وبالتالي، يعد اقتصاد التسليح رافدًا اقتصاديًا مهمًا لخزينة موسكو، وداعمًا لزيادة نفوذها الجيوسياسي في العالم، والذي أكّدته من خلال حرب سورية على وجه الخصوص.
المصدر: العربي الجديد