ما الذي يدفع إلى الربط أو المقارنة بين بلدين يقعان في ركنين متباعدين من الأرض، لا قاسم مشتركاً بينهما في الجغرافيا أو الثقافة أو المجتمع أو السياسة؟ الفيليبين أرخبيل من الجزر (7640 جزيرة) يقع في جنوب شرق آسيا، يسكنه خليطٌ غير متجانس من البشر، ينتمون إلى 185 جماعة إثنية، لكل منها لغتها التي تميزها، وهويتها، وثقافتها وتاريخها الخاص، فيما تقع سورية في أقصى غرب آسيا، أراضيها متصلة جغرافياً، وسكانها متجانسون إثنياً (90% من سكانها عرب)، يتحدثون لغة واحدة (إذا استثنينا أقلية من الكرد السوريين في أقصى شمال شرق البلاد)، وتجمعهم ثقافة مشتركة وتاريخ واحد. ما الذي يغري، إذاً، في ضوء هذه الفروق الجوهرية، لمحاولة إيجاد رابط أو عقد مقارنة بين سورية والفيليبين؟ عامل واحد فقط يدفع بهذا الاتجاه، أن البلدين وقعا، في فترات مختلفة من تاريخهما المعاصر، تحت حكم فردي/ عائلي مستبد، وشهد كل منهما ثورة شعبية كبيرة، لكن نتائجهما جاءت متفاوتة على نحو واضح، نتيجة عوامل داخلية ودولية متعدّدة.
في 1986، ثار الفيليبينيون على حكم فرديناند ماركوس الذي حكم البلاد بقبضةٍ من حديد أكثر من عقدين (1965- 1986)، مستخدماً سلطاتٍ استثنائيةً، استمدها من قانون الطوارئ الذي فرضه خلال أكثر سنوات حكمه (1972 – 1983). خلال عقدين قضاهما في السلطة، أنشأ ماركوس وعائلته واحداً من أكثر النظم السياسية استبداداً وفساداً في القرن العشرين (اشتهرت زوجته، ايميلدا، مثلاً، بحبها الشديد للأحذية، وعندما سقط نظام زوجها وجدوا في قصورها آلافاً من أزواج الأحذية الجديدة).
كان ماركوس حليفاً قوياً للولايات المتحدة التي محضته دعمها، باعتباره عدواً شرساً للشيوعية. لكن إدارة الرئيس رونالد ريغان (1981-1989)، على الرغم من أنها كانت “مهووسة” بمواجهة “إمبراطورية الشر” السوفييتية في ذروة أيام الحرب الباردة، وغير مكترثة على نحو خاص بنشر الديموقراطية، إلا أنها قرّرت التخلي عن ماركوس ودعم التحول الديموقراطي في الفيليبين عندما اندلعت الثورة الشعبية، والسبب ببساطة أن المعارضة (على الرغم من أن ماركوس نكّل بها) تمكّنت من تقديم بديل ديموقراطي ليبرالي، قادته كورزون أكينو، زوجة المعارض البارز بنينو أكينو، الذي كان ماركوس قد قتله عام 1983. وساعدت المعارضة بذلك واشنطن على التوفيق بين مصالحها ومبادئها، ما أقنعها بالتخلي عن ماركوس ودعمها، بمعنى أن إدارة ريغان ضمنت، من جهة، أن تغيير النظام لن يؤدي إلى تغيير في السياسة الخارجية أو في تحالف الفيليبين معها في مواجهة الاتحاد السوفييتي، وتخلّصت، من جهة ثانية، من عبء دعم ديكتاتور دموي فاسد.
في المقابل، وعلى الرغم من أن مردود نجاح الثورة السورية على مصالحها في المنطقة العربية كان أكبر، والقيود الدولية على حركتها أقل، إلا أن الولايات المتحدة تردّدت كثيراً في دعمها. ففي 2011 كانت الولايات المتحدة تتربع على عرش القوة في العالم، وكان بإمكانها أن تتخذ موقفاً أكثر قوة في دعم التغيير الديموقراطي في سورية التي بدأت ثورتها مدنية سلمية ضد نظام لا تكنّ له واشنطن وداً، وتعتبره مسؤولاً عن إزهاق حياة كثيرين من جنودها، في لبنان (تفجير مقر قيادة المارينز عام 1983) وفي العراق بعد عام 2003.
هناك أسباب عديدة لعزوف الولايات المتحدة عن دعم الثورة السورية (كما فعلت في الفيليبين عام 1986)، منها ما هو مرتبط بالداخل الأميركي، ومنها ما هو مرتبط بعوامل جيوسياسية، وحسابات إقليمية ودولية، إلا أن ذلك كله كان يمكن أن يتغير لو تمكنت المعارضة/ات من لملمة نفسها، وتقديم بديل ديموقراطي ليبرالي ذي مصداقية للنظام القائم. لهذا السبب، لم يأخذ الأميركيون المعارضة على محمل الجد، كما ينبغي، ولم ينظروا إلى الثورة السورية باعتبارها فرصةً ثمينةً لتغيير الواقع الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط، والدفع نحو تغيير ديموقراطي حقيقي نابع، هذه المرة، من داخل المنطقة، مردودُه كبير لهم وتكلفته قليلة عليهم، إذا أخذنا بالاعتبار تكلفة الحملة التي جرّدتها واشنطن لغزو العراق تحت شعار نشر الديموقراطية في العالم العربي.
الواقع أن الولايات المتحدة “خافت” من الثورة السورية أكثر مما أعجبت بها، على الرغم من التضحيات الأسطورية التي قدّمتها لتحقيق الحرية، والعدالة، والكرامة الإنسانية. وهي مسؤولة عن خذلان الشعب السوري في سعيه نحو الحرية، لكننا نحن أيضاً مسؤولون عن الفشل في مساعدتها على التوفيق بين مصالحها ومبادئها، باعتباره شرطاً أساسياً للحصول على دعمها.
المصدر: العربي الجديد