بالنظر إلى مجمل المشهد السياسي في سوريا، اليوم، لا يمكننا الحديث عن «أكثرية سياسية» لا بد منها لأي نظام يشمل الأراضي السورية، بصرف النظر عن هويته. فنظام الأسد الكيماوي الذي لم تنزع عنه الشرعية الأممية، على رغم نزعها الرمزي من قبل عدد كبير من الدول، لا يمثل أكثرية سياسية بالنظر إلى رفض ملايين السوريين لبقائه، وخروج مناطق شاسعة بمجتمعاتها المحلية عن سيطرته. بل يمكن الزعم أنه لا يتمتع بقوة تمثيلية حتى في مناطق سيطرته نفسها تبلغ مستوى الأكثرية السياسية فيها. وحدها الشرعية الأممية تجعل النظام محافظاً على تمثيله للدولة مهما كانت هذه فاقدة لعموميتها ومقوماتها ومن اقترابها من نموذج الدولة الفاشلة، وهي ما تجعل الموالين له يعتبرون ولاءهم له ولاءً للدولة. في هذا الوضع يتمتع نظام الأسد بتفوق نسبي على نظرائه من قوى الأمر الواقع المسيطرة على مناطق خارج سيطرته، فهذه القوى لا تزعم، هي نفسها، أنها ممثلة للدولة السورية، ناهيكم عن اعتراف دول أو منظمات دولية بها بهذه الصفة.
تقتضي الموضوعية، والحال هذا، أن يوصف نظام الأسد بما يستحقه: أي كونه قوة بين قوى الأمر الواقع المفروضة على السوريين بقوة السلاح ودعم مختلف الدول المنخرطة في المعمعة السورية، أي بالغَلَبَة. وهنا تبرز الفائدة النسبية لنزع الشرعية عنه من قبل حكومات عدد من الدول القوية، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ودول أخرى. على أن هذا الموقف لا يمكن التعويل عليه بصورة مستدامة، فهو قابل للتغير بتغير الحكومات أو الأوضاع وموازين القوى السيالة. هذه الفائدة النسبية تتجلى اليوم في منع اندفاع بعض القوى الإقليمية لتطبيع علاقاتها مع النظام، وهو ما يعني إعادة الشرعية له وتعويمه من جديد.
من جهة أخرى، استمرار الوضع الحالي للنظام منبوذاً في الإطارين الإقليمي والدولي، يعني استمرار حالة التفكك القائمة في الكيان السوري، في ظل غياب التوافقات الدولية على حل مستدام للصراع السوري. أي بقاء «الدويلات» السورية الموجودة والمتجاورة كأمر واقع إلى أجل غير مسمى. ومع «انتخاب» بشار الأسد لولاية جديدة من سبع سنوات، في أواخر هذا الشهر، ورفض عدد كبير من الدول الفاعلة لنتائج تلك الانتخابات كما هو معلن من الآن، يمكن توقع استمرار الدويلات المجاورة لدويلة الأسد للفترة نفسها مبدئياً.
في ظل هذا المشهد المروّع يبدو الحديث عن وطنية سورية كنكتة لا تثير الضحك. ولا يقتصر الأمر على قوى أمر واقع، بما في ذلك وأولاً نظام الأسد، بل يتعداه إلى انقسامات أهلية حادة ليست بنت اليوم، بل لها تاريخ يكاد يتطابق مع تاريخ الكيان السوري نفسه، مع وجوب الإشارة إلى أن الأمر لا يتعلق بانقسامات «جوهرية» خارج التاريخ وتحولاته، بل هي جزء من ذلك التاريخ، تتحول بالتضافر مع العوامل التاريخية الأخرى.
فالكيان السوري الذي نعرفه كان حاصل تجميع أربع دول في ظل الانتداب الفرنسي، دولة دمشق ودولة حلب ودولة العلويين ودولة الدروز. المقاومة الوطنية للاحتلال الفرنسي التي انطلقت كحركات محلية، انتهى بها المطاف إلى الاتفاق على وحدة الدولة السورية، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى انسحاب القوات الفرنسية واستقلال الدولة السورية بنظام جمهوري يقوم على تداول السلطة بواسطة الانتخابات. لكن الانقلابات العسكرية المتتالية التي طبعت تاريخ سوريا الحديث، ثم الوحدة السورية ـ المصرية التي حولت سوريا إلى «إقليم شمالي» تابع لمصر، انتهاءً بانقلاب حافظ الأسد في العام 1970، الذي سيحول سوريا إلى نظام سلالي، هي المحطات الرئيسية التي شكلت سوريا كما نعرفها، ولم تكن «الحقبة الليبرالية الذهبية» المزعومة في النصف الأول من الخمسينيات إلا استثناءً خارج السياق التاريخي والمناخات الأيديولوجية السائدة آنذاك، إضافة إلى أنها فشلت في تشكيل هوية وطنية سورية بسبب تهميشها لمتون اجتماعية غير مرئية كحال الكرد والأقليات الدينية والمذهبية.
تعامل النظام الأسدي مع «المكونات» السورية كأدوات لترسيخ سيطرته المطلقة، فعمق الشروخ الأهلية بدلاً من ردمها، في حين طمس الاجتماع السوري بكامله لمصلحة أدوار خارجية، ولعب دور مخرّب اللعبة في الإقليم لتحقيق مكاسب لإدامة حكمه. وإذ انفجر الوضع في وجه وريثه في العام 2011، وبسبب العنف المهول الذي واجه به الأخير الانتفاضة الشعبية السلمية، انفجر معه الاجتماع السوري القسري الذي كان سائداً في العقود السابقة.
عموماً يمكن تشبيه الكيان السوري منذ لحظة تشكله بكيس خيش مملوء بثمار البطيخ ومغلق بإحكام. أمام المؤمنين بهوية وطنية سورية اليوم، مهمة تشكيلها من الصفر تقريباً. لا ينفع الكلام المجرد الحالم عن هوية سورية ليست إلا شيئاً متخيلاً، الشرط الأول لتحقيقها هو التوافق بين البطيخات التي كانت في الكيس وتناثرت شتى بعد تشققه، بصرف النظر عن تفاوت أحجام البطيخات.
تشبه اللحظة السورية الراهنة لحظة انهيار الإمبراطورية العثمانية وتفككها. يحلم الإسلاميون بسوريا تحت سلطتهم، تهمش الأقليات الدينية والقومية، وفي أحسن الأحوال «تتسامح» معها، أما المعارضون غير الإسلاميين، وهم تيارات وأفراد متنوعون، فهم يتحدثون عن دولة قائمة على المواطنة، في مجتمع غريب عن مفهوم الفرد الحديث غير المؤدلج فوق ذلك. أي الفرد الافتراضي المعني بالبرامج السياسية للأحزاب، لا بالانتماءات الأهلية للقائمين عليها. بحيث تتشكل الدولة من مجموع الأفراد المواطنين الذين يتشكل منهم السكان، وتقوم علاقة خطية بين كل منهم وبينها. فيمنح صوته الانتخابي للحزب الذي يعده بتحقيق مصالحه، بعيداً عن الإيديولوجيات المعلنة وعن الانتماءات الأهلية. هذا التصور لـ«دولة المواطنة» غير المتحقق في أي مكان في العالم، ينطلق منه أنصار الوطنية السورية كما لو كان بديهة لا تحتاج إلى نقاش. في حين أن صعود التيارات الشعبوية في عدد من الديمقراطيات العريقة يشير إلى أن الأمر ليس بهذه البداهة.
فإذا أدى تفكك الإمبراطورية العثمانية، في سوريا، إلى حشر بطيخات متنوعة في كيس خيش، وفشلت النخب الحاكمة، طوال عقود ما بعد الاستقلال، في تشكيل اندماج وطني، فيجب استثمار لحظة تفكك الكيان السوري لإطلاق بداية جديدة لا تقوم على استعادة كيس الخيش العتيق نفسه تحت يافطات جديدة. مع العلم أن ثورة 2011 قدمت فرصة طيبة لصياغة وطنية سورية جديدة، سرعان ما ضاعت تحت وقع القنابل والحروب الدموية.
المصدر: القدس العربي