قراءة في كتاب: من الإصلاحية إلى المشروع النهضوي

أحمد العربي

د .عبد الإله بلقزيز،باحث مغربي معاصر، من أهم الباحثين العرب المعاصرين الذين يتابعون القضايا السياسية العربية وتطوراتها العربية والدولية ، له الكثير من الاصدارات، قرأت اغلبها، وكتبت عن البعض.
في الإصلاحية العربية الإسلامية.
يبدأ الكتاب الذي بين أيدينا من موضوع قديم – جديد، وهو موضوع الإصلاحية العربية، التي يعيد الكاتب طرح أهم مميزاتها، منذ بدايتها على يد الرواد الاوائل، رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعلال الفاسي، ..الخ ، الذين بدؤوا الدعوة لها منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين، هذه الدعوة التي أرادت الجواب عن سؤال مركزي عند العرب، لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب والمسلمين ؟. وكيف يتسنى لنا الدخول في عصر التقدم ؟. طالت الأجوبة كل القضايا المركزية التي يجب أن تعالج عند المسلمين عموما والعرب بشكل أساسي، ففي قضايا الدين الإسلامي، كانوا مع التجديد الذي ينصب على الجوهر المقاصدي للإسلام، خير وعدالة وحرية وحياة أفضل لكل الناس، وفي أسباب التقدم، تنصب اهتمامهم على التأكيد على العلم وأدواته وأساليبه كما فعل الغرب لكي نتقدم، وفي الشأن السياسي كانوا مع الدولة الديمقراطية الشورية، التي تعود على عموم الناس في بناء حياة أفضل، رفضوا الاستبداد وما ينتج عنه من فساد وتخلف وجهل. أسهب الكاتب في تأكيد صحة ما طرحه دعاة النهضة، وانهم لم يستطيعوا أن يستمروا، في مشروعهم الإصلاحي التجديدي، حيث الظروف الموضوعية التي صاحبت بدايات القرن العشرين، الذي اقترن بسقوط الخلافة العثمانية، واحتلال أغلب البلاد العربية وفق اتفاقية سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا، وما قبلها الجزائر ومصر، وزرع الكيان الصهيوني في فلسطين. كل ذلك برر لرواد النهضة والإصلاح في جيلهم الجديد منذ رشيد رضا و حسن البنا، الذين وجدوا أن الغرب لم يعد نموذجا يحتذى، والاصح أن نتمسك بهويتنا الإسلامية. واستمر جناح آخر مثل لطفي السيد وأخرون، يرون بالغرب النموذج المطلوب اتباعه، كانت الغلبة عربيا، لتيار إحياء الهوية الإسلامية، وأن الحل هو العودة للإسلام والتجديد من داخله، وكانت حركة الإخوان المسلمين نموذجا لذلك، خاصة بعد اغتيال حسن البنا، وهيمنة أفكار سيد قطب على أغلب الفكر الحركي الإسلامي منذ الخمسينات الى الآن، الذي يريد إعادة بناء الدولة الاسلامية مستلهمة الخلافة الراشدة، مع تنوعات مختلفة حسب المجتهدين المعاصرين. ان هذه الاحيائية الاسلامية كانت وراء الكثير من الصراعات داخل بنية الدولة العربية المعاصرة، وأصبحت ذات بعد دولي مثل القاعدة وأخواتها، وأنجبت الدولة الإسلامية داعش التي رعت الارهاب والحرب البينية عربيا، وأصبحت مستهدفة دوليا ، وعدوا للمجتمعات العربية والمسلمة التي تتواجد بها، لقد أصبحت نموذجا مناقضا للأصل الإسلامي التي ادعت -بداية- انها تمثله. ان الكاتب يؤكد ضرورة إحياء الفكر الإصلاحي الإسلامي الذي أسسه الرواد، من حيث التركيز على قضية تجاوز التخلف وبناء التقدم، والنظر اسلاميا من زاوية المقاصد الشرعية الاسلامية، التي تعني بناء الحياة الأفضل، وأن الشأن السياسي في الدولة هو شوري أقرب لان يكون ديمقراطيا، وأن نأخذ بأسباب التقدم بالاعتماد على العلم والتكنولوجيا الحديثة، وأن نستوعب تعددها وتنوعها الديني والمجتمعي وأن ننظر لذلك بصفته غنا مجتمعيا والتعامل معه إيجابيا. كل ذلك يراه كاتبنا دعوة لإعادة إحياء فكر الإصلاحية لمواجهة الفكر الإحيائي الجهادي الإسلامي والطريق المسدود الذي يقودنا إليه.

في المشروع النهضوي العربي.

ينطلق الكاتب من نتائج المشروع البحثي الرائد والكبير الذي تتوج بنشر المشروع النهضوي العربي بثوابت الأساسية: الوحدة و التنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والتجديد الحضاري، والاستقلال الوطني والقومي، عام ٢٠١٠م، ويؤكد على مشروعية العمل في هذا المشروع، ومحاججة لكل من يراه قفزا على الواقع العربي بكل سلبياته، واقع الاستبداد وهيمنة و تغول الدولة الاستبدادية ، والصراع البيني العربي، والتبعية للغرب، والتطبيع مع العدو الصهيوني.. الخ. كل ذلك يراه مبررا لضرورة العمل لأهداف المشروع النهضوي العربي، وخاصة أن المبررات الموضوعية لهذا المشروع ما زالت قائمة، فما زلنا متخلفين و مستعمرين في بعض اراضينا ومجزئين وتابعين للغرب والأنظمة الاستبدادية تقهر الشعوب العربية وتستغلها، كل ذلك يستدعي العمل لهذا المشروع. وفي مواجهة ادعاء ان الظرف العام سيء، أكد الكاتب ان أغلب النهضات في العالم قامت بمواجهة ظروفا سيئة. وعاد الكاتب لقراءة الواقع العربي في ما يزيد على قرن ، لتحليل الواقع وكيف أن دعاة النهضة العربية الاوائل، قد أكدوا على الوحدة والتحرر والعدالة الاجتماعية (الاشتراكية)، والتنمية المستقلة والتجديد الديني والديمقراطية، وأن هذه الأهداف كانت تمثل عند أصحابها أهداف مختلفة بدرجة اولويتها، القوميين أكدوا على الوحدة، والإسلاميين على التجديد الديني وتطبيق الاسلام، واليسار العربي أكد على الاشتراكية والعدالة، والليبراليين أكدوا على الديمقراطية . أكد الكاتب على أن أولويات كل طرف عنت في الواقع أهمية كل هذه الأولويات، لأن الكل كان حاضرا في الواقع العربي، وإن بنسب متفاوتة. أكد الكاتب ان بعض هذه التيارات قد وصل للسلطة، خاصة التيار القومي عبد الناصر في مصر والبعث في سوريا والعراق وكذلك الجزائر وليبيا واليمن، وأن الكل حاول أن يحقق هذه الأهداف النهضوية، وأن اختلفت درجة نجاحها، ونؤكد على اعتباره تجربة عبد الناصر واولويتها ومصداقيتها في المشروع النهضوي العربي، الذي انهزم واقعيا في حرب ١٩٦٧م. أكد الكاتب على أن الأهداف النهضوية الست والترابط مع بعضها جدليا، وكذلك عند التطبيق في الواقع، فلا أولوية لهدف على هدف بالحركة على أي هدف في مكانه وزمانه هو حركة تخدم المشروع كله، وأن تنفيذ أي خطوة من الأهداف الست في أي بلد عربي هو خطوة في طريق تحقيق المشروع الحضاري العربي. كما أكد الكاتب على ضرورة مصاحبة العمل للمشروع الحضاري العربي ، مشروع ثقافي نهضوي عربي، فقد أكد على كون الثقافة أوسع من المعرفة وأشمل بحيث تطال نظما معرفية وقيمية وسلوكية، تسقط الضوء عليه في الواقع ،وتصاحب وجود المشروع النهضوي العربي وتحقيقه على الأرض.
إلى هنا ينتهي الكتاب، وفي نقده ومناقشته نقول:
لماذا سقط المشروع الإصلاحي العربي؟.
كان من المهم أن يقدم لنا الكاتب ما يراه سببا لانهزام المشروع الإصلاحي العربي بصيغته الاولى، تجديد ديني مقاصدي، عدالة اجتماعية، ديمقراطية، الأخذ بالأسباب العلمية للتقدم وبناء الحياة الأفضل، صحيح أنه أشار الى الاحتلال الاستعماري في أوائل القرن الماضي ، وكذلك زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، و تحدث بإيجابية عن التجربة الناصرية، حيث أرادت أن تنتصر للأهداف النهضوية، مواجهة المستعمر ١٩٥٦م في التصدي للعدوان الغربي واسرائيل بعد تأميم قناة السويس، وتتويج ذلك في الوحدة المصرية السورية، ولكن بداية هزيمة نظام عبد الناصر في الانفصال ١٩٦١، وهزيمة ١٩٦٧م، وفي هزيمة عبد الناصر في معركة الديمقراطية. لكن ما لم يذكره الكاتب ، من المسؤول عن إيقاف المشروع النهضوي العربي عن التحقق منذ الستينات للآن؟. انها الدولة الاستبدادية العربية عموما، وكل على حدى وبطرق مختلفة، نعم ان هذه الأنظمة عندما وصلت لسلطاتها، سواء من كان دولا سلطانية ملكية ورثت الحكم عن الغرب أو من “ثارت” واخذت السلطة، كلهم عملوا على بناء سلطتهم الخاصة، التي ركزت على الاستحواذ على الحكم، وتحقيق مصلحة الفئة الحاكمة، وعدم التقدم في تحقيق مطالب المشروع النهضوي العربي إلا ما ندر، على العكس عملت على تعطيله واقعيا، انها صادرت المجتمع عموما، دجّنته، ألغت السياسة النقدية، والثقافة المنتمية، والفكر الحر المبدع، صنعت ثقافتها المستبدة للناس وفكرها المستسلم للسلطة والحاكم، والدين المبرر لكل سلوكيات وسوءات السلطة، صنعت المثقف الهامشي التابع الفقيه السلطان والمفكر المشرّع والمبرر للسلطة كل تصرفاتها، واستأصلت عبر سنين الفئة الواعية والثقافة والمنتمية، في السجون والمنافي، والبعض آثر الصمت والموت الرمزي. هذه الدولة الاستبدادية جعلت مطالب المشروع النهضوي العربي مجرد واجهات دعائية لتغطية الواقع المناقض بالمطلق. هذا حال مصر التي انقلبت على الشعب ومكتسباته منذ السادات. ماذا حقق البعث في سورية والعراق من الوحدة والحرية والاشتراكية، أهدافهم المعلنة، داخليا قمع وفساد ومحسوبية وسجون وحروب لم ينتج عنها الا مزيدا من التخلف والضياع الاجتماعي، العراق منذ استلام البعث واصبح صدام حسين رئيسا مطلق السلطة فيه، جعله مركز صراع مع الجوار الايراني، ومن ثم احتل الكويت، ثم حوصر من أمريكا ثم احتل من قبلها …الخ، والسلطة الآن حكم طائفي تابع لامريكا ، ينهب الشعب الذي يعيش حرب طائفية وعرقية، وأغلب العراقيين في المنافي، لا يبرر ما حصل التقدم العلمي والتكنولوجي الذي حصل في العراق أيام صدام، العبرة في النتائج. سورية البعث الذي استلم السلطة واصبح حافظ الأسد حاكما مطلقا، وبعده ابنه، سيطر على المجتمع طائفيا بالجيش والأمن، حول سورية لمزرعة للحاكم وعائلته وطائفته العلوية، استولى على لبنان كمستعمر، حاصر الثورة الفلسطينية وطردها من لبنان، أنجب مع إيران حزب الله الشيعي الطائفي، وحصل على ادعاء شرعية محاربة إسرائيل ؟!، وتوجت بمحاربة الشعب السوري الثائر ضد الاستبداد السوري القاتل. وكذلك الجزائر الذي حقق مصلحة طبقة العسكر ورثة الثورة الجزائرية، والذين أسقطوا التجربة الديمقراطية منذ تسعينيات القرن الماضي. وكذلك ليبيا واليمن والسودان الذين لم يكونوا أكثر من استحواذ فردي عائلي قبائلي على السلطة والثروة، استمر يفرّخ مشاكل مجتمعية وسياسية وصراعات داخلية على طول الخط، أما الدول التي لم تدخل في عداد الدول التي تبنت إحدى طروحات النهضة العربية، فقد كانت اصلا خارج مشروع النهضة عملت على توثيق علاقات التبعية مع الغرب، وتركيز السلطة فردية وعائلية بيدها، استحوذت على مصادر المال والثروة، دول الخليج نموذجا. وأن حصل بعض التقدم التقني فهو من أسباب تحقق المصلحة المطلقة للحكام. نعم إن الدولة الاستبدادية العربية هي التي منعت أسباب تحقيق النهضة العربية، وكان مصير كل من عمل سياسيا بالسر والعلن ، فرديا أوعبر التحزب لأهداف النهضة العربية، القتل أو السجن أو المنافي، لا نستثني أي دولة عربية، وبمواجهة كل التيارات السياسية، الإسلامي و القومي واليساري وحتى الليبرالي، لذلك كان للبديل الإسلامي الأحيائي مبررا في الحضور والتأثير، ألم يولد الفكر الإسلامي الجهادي المقاتل في السجون، كتب سيد قطب كتابه معالم في الطريق في سجن عبد الناصر، وكذلك سعيد حوّى جند الله في سجون الأسد وغيرهم وغيرهم، ألم يخرج هؤلاء السجناء المهدوري الإنسانية من السجون ليكون جنودا في القاعدة وغيرها، ومن ثم في النصرة و داعش.
بعد كل ما قدمنا باختصار شديد نجيب على تساؤل لماذا لم يستمر المشروع النهضوي العربي، التحرري الوحدوي الديمقراطي الاشتراكي؟. الجواب لأن السلطة الاستبدادية العربية منعت هذا المشروع من التحقق وعملت ضده واقعيا على الأرض. ولذلك وجد المشروع الأحيائي الجهادي الإسلامي مبررا للوجود والنشاط والانتشار.
ماذا عن الربيع العربي؟.
من المحزن أن لا يتحدث الكاتب عن الربيع العربي إلا بأقل من نصف صفحة ؟!!في كتابه، ليؤكد أن من نتائج هذا الربيع حصول الحروب الأهلية العربية العربية، ووجود الإرهاب الذي تعمم وتوسع. أليس من الغريب من باب البحث العلمي أن يتم الحديث عن الربيع العربي وتبعاته في كتاب تحدث عن المشروع النهضوي العربي، ويغطى حوالي القرن ونصف، وبعد مضي حوالي الثماني سنوات على الثورات العربية تلك، وأن تلك الثورات قامت تطالب بذات الأهداف التي طالب فيها مشروع النهضة العربي، الحرية والعدالة والكرامة الانسانية والديمقراطية، صحيح أنه أردف المشروع النهضوي العربي بمطلب الكرامة الانسانية ، لأن الأنظمة الاستبدادية العربية أهدرت كرامة الإنسان العربي، التي هي أساس إنسانية الإنسان قبل النهضة والتقدم، وكيف كانت استجابة الأنظمة الاستبدادية للربيع العربي، ففي مصر تم استيعاب الموجة الأولى للثورة، ثم تم انقلاب الجيش على الدولة والشعب وعاد الاستبداد في مصر أسوأ مما كان، وعاد الشعب ضحية قهر واعتقال وفقر وسوء تصرف وتبعية للغرب والعدو الصهيوني. أما سورية فقد أخذ النظام الاستبدادي الضوء الأخضر دوليا لقتل الشعب السوري، مليون شهيد ومثلهم مصاب ومعاق، والمشردين اثنا عشر مليون داخل وخارج سورية، والبلد مدمر أكثر من نصفه ، ويعاد النظام المستبد القاتل مسيطرا على الدولة السورية بقبول دولي. أما ليبيا واليمن فقد سقط الاستبداد وتم احياء بديلا له الحرب الاهلية. انها رسالة من الغرب والنظام العالمي: العرب محكومون من الاستبداد التابع و المتصالح مع “إسرائيل”، أو هم دولا فاشلة ضحية حروب اهلية طائفية بينية، برعاية دولية. إن ما حصل في الربيع العربي ورفض المطالب الشعبية العربية المشروعة بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، ودعم الأنظمة المستبدة، ورعاية الحروب الأهلية، وخلق أجواء مناسبة لوجود التطرف الديني والتحاق الشباب بالمجموعات الجهادية المقاتلة، المسماة ارهابية، هي صناعة الأنظمة ذاتها مع الغرب الداعم، ذاتيا وموضوعيا، ولو انها تعلن الحرب عليها من خلال دعوة الحرب على الإرهاب.
اخيرا: إن الحديث عن المشروع النهضوي العربي وضرورة استمراره، يجب أن ينطلق من ضرورة مواجهة الدولة الاستبدادية العربية في كل بلاد العرب، بصفتها المانع المباشر من تحقيق المشروع بشموليته، أو بأحد أبعاده الستة، التوحيد العربي والتجدد الحضاري والديمقراطية والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني والقومي، ولكون هذه الدول المستبدة متفقة مع الغرب والنظام العالمي ضد الشعب العربي. وهذا حقيقة مانعيش، وعي ذلك مهم لمواجهته. والحديث يطول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى